دمشق/ خاص / لا ميديا -
عندما سقط نظام الرئيس بشار الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بقرار إقليمي ودولي، وكانت «حركة تحرير الشام» (جبهة النصرة -القاعدة) بقيادة «أبو محمد الجولاني - أحمد الشرع» الأداة لتنفيذ هذا القرار، وإنجاز التغيير يومها، كان الفصل الدراسي في منتصفه.
وبعد وقت قصير من التغيير، قامت وزارة التربية في الحكومة الجديدة، التي تشكلت من أعضاء من «حركة تحرير الشام» فقط، بإصدار تعليمات سريعة تقضي بإجراء بعض التغييرات في المناهج الدراسية، أزالت فيها كل ما يتعلق بالرئيس بشار الأسد، وشخصيات النظام السابق، وفكر البعث.
يومها تفهم السوريون هذه التغييرات، باعتبار أنها تتناقض مع المرحلة الجديدة، إضافة إلى وجود نفور تلقائي لدى معظم السوريين من شخصنة الوطن والقضايا الوطنية، كما أن حزب البعث تحول في سنواته الأخيرة إلى مجرد جثة هامدة تستجدي من يدفنها.
لكن ما حدث، بعد انتهاء العام الدراسي الماضي، وإتاحة الفرصة أمام السلطة الجديدة، لمراجعة المناهج التربوية وتعديلها -بحسب رؤيتها- أن السوريين وجدوا أنفسهم أمام كارثة تربوية ووطنية، تثير جدلاً وردود أفعال واسعة (شفهية) في المجتمع السوري، وخاصة عند الجهاز التربوي والتعليمي، وعند النخب السورية (باستثناء الإخوان والتيار الديني المتطرف) وكان هناك إجماع على أن ما حدث، هو عبث بتاريخ وذاكرة السوريين، وقيمهم الوطنية والأخلاقية.
كما يسود شعور عام، بأن ما يجري هو محاولة واعية، لإعادة كتابة التاريخ السوري الحديث، من منظور (عثماني -تركي)، حدثت بشكل خاص في كتب التاريخ، والجغرافيا، والتربية الوطنية، والديانة، وطالت التاريخ السوري، وشخصياته، وثوابته الوطنية، منذ انهيار السلطنة العثمانية، مروراً بالاستعمار الفرنسي، ثم الدولة السورية الحالية، والتي مرت بتطورات، وتحولات عديدة، لكن الثوابت الوطنية والتاريخية لم يقترب منها أحد، حتى سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، ومجيء السلطة الحالية، التي بدأت بالعبث بهذه الثوابت ومنها:
- اعتبار الشهداء من الشخصيات الوطنية وروّاد النهضة العربية الذين نادوا بانفصال العرب عن الإمبراطورية العثمانية، وساهموا في تأسيس الوعي السوري الحديث، الذين أعدمهم القائد العثماني جمال باشا السفاح في أيار/ مايو 1916، في ساحة المرجة وسط دمشق، مع عدد آخر أعدمهم في بيروت باعتبارهم «خونة وعملاء» للفرنسيين والإنكليز، وتم تصوير السفاح بأنه قائد عسكري، دافع عن شرف الأمة العربية والإسلامية، وكانت سلطة الشرع قد مهدت لذلك بإلغاء مناسبة عيد الشهداء، الذي اتخذه السوريون بهذه المناسبة منذ ما قبل الاستقلال عن فرنسا، لتقدير الشهداء وتعظيم قيم الشهادة.
وإضافة إلى ذلك، فهذا الإجراء يمس بشكل خاص وبعمق تاريخ دمشق، لأن معظم هؤلاء الشهداء، كانوا من الدمشقيين، وأهل الشام هم من أطلقوا لقب السفاح على جمال باشا، بسبب إعدامه لهم، ويومها لبست دمشق السواد، وخرجت النساء والرجال، ينثرون الدموع والزهور في الطرقات.
- إزالة لواء إسكندرون، الذي سلخته تركيا عن سورية بالتواطؤ مع الاستعمار الفرنسي، من خارطة سورية، مع العلم بأن الخارطة الرسمية لسورية وبمساحتها (185) ألف كيلومتر مربع تتضمن اللواء الذي تبلغ مساحته خمسة آلاف كيلومتر مربع (نصف مساحة لبنان)، ولهذه البقعة الجغرافية مكانة خاصة في تاريخ سورية والذاكرة الوطنية، ومنها أنها تضم مدينة أنطاكية عاصمة سورية القديمة ومركز المسيحية المشرقية، حيث يتم ترسيم كل بطاركة الكنائس المسيحية في المنطقة تحت تسمية (بطريرك أنطاكية وسائر المشرق).
- اعتبار ثورة الشريف حسين، التي قام بها ضد العثمانيين، وقادها الأمير فيصل بدعم من رجالات النهضة العربية، تمرداً وليس ثورة للاستقلال العربي عن الدولة العثمانية.
- تغيير في هوية الأبطال الوطنيين، ومنها تغيير اسم الشيخ صالح العلي الذي قاد ثورة الساحل السوري ضد الاستعمار الفرنسي، ورفض قيام دولة العلويين للانفصال عن سورية، وقدمت بدلاً عنه اسم عمر البيطار كقائد لهذه الثورة، رغم أنه غير معروف، ومن الطريف أنهم تركوا النص الذي يتحدث عن الشيخ صالح العلي وعلاقته مع الدولة الوطنية وبقية قادة الثورة السورية كما هو، وغيروا فقط الاسم.
- تغيير كل ما يخص الحديث عن توحش العدو الصهيوني منذ قيامه.
- اعتبار المقاومة اللبنانية أنها قامت بعد غزو العدو «الإسرائيلي» لبيروت في العام 1982، فقط لحماية حدود العدو الصهيوني مع لبنان.
- كما قامت باستبدال مادة التربية الوطنية بمادة «الشؤون الإنسانية» أو تعويض درجاتها بمادة التربية الدينية، وألغت من كتب الفلسفة كل ما يخص الحديث عن الآلهة في الفلسفات القديمة.
أجواء الترهيب والجريمة التي تطال كل شرائح المجتمع وفي كل أنحاء سورية جعلت ردود الفعل في المجتمع السوري على ما جرى قوية، لكنها شفهية وصامتة، وخاصة عند المعلمين والنخب الثقافية والفكرية، ووحدهم من هم خارج سورية أو الذين يكتبون بأسماء مستعارة على وسائل التواصل الاجتماعي تجرأوا على رفع الصوت وفندوا ما يجري.
هذا يذكرنا بما حدث أيام النظام السابق، وعندما استشرى الفساد في مؤسسات الحكم، وقامت وزارة التربية في العام 2017، بتغيير بسيط في مناهج بعض كتب المرحلة الابتدائية، وخاصة عندما استبدلت قصائد الشاعر سليمان العيسى الراقية، والتي شكلت حيزاً واسعاً من وعي أطفال وشباب سورية، ومنها «فلسطين داري»، و»ماما ماما يا أنغاما»، و»عمو منصور النجار» إلى قصائد تافهة مثل «الفيل يستحم» و»طش طش».
يومها قامت قيامة المعلمين والنخب المثقفة، وتعرض وزير التربية، المعروف بفساده، هزوان الوز والمسؤول عن المناهج التربوية في الوزارة، والذي يحمل شهادة في الطب البيطري، دارم طباع، إلى حملة سخرية وتوبيخ «مسحت بهم الأرض»، كما يقول السوريون.
لكن مخطئ من يعتقد أن الثورة الصامتة هي أقل غضباً وتأثيراً من الثورة المشتعلة، وقد تكون أقوى، لكنها تنتظر الفرصة المناسبة لتعبر عن نفسها، ودروس التاريخ علمتنا أن مجرى الأحداث ومسارات الشعوب لا يمكن إلا أن تأخذ مجراها الصحيح، حتى وإن اعترضتها بعض العوائق أحياناً، والتي تجعلها تغير مسارها، لكنها في النهاية تعود لأخذ مسارها الصحيح.










المصدر خاص / لا ميديا