الأزمة السورية والنفاق الأمريكي الغربي
- تم النشر بواسطة أحمد رفعت يوسف / لا ميديا
دمشق - أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
في حدث يعتبر من أغرب التطورات السياسية الدبلوماسية، قام وفد أمريكي، ترأسه كبيرة الدبلوماسيين في وزارة الخارجية الأمريكية والخبيرة في شؤون الشرق الأوسط، باربرا ليف، والمبعوث الرئاسي لشؤون الرهان، روجر كارستينز، والمستشار المعين حديثاً لقيادة جهود الخارجية الأمريكية في سورية، دانيال روبنشتاين، بزيارة إلى دمشق، يوم الجمعة في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2024، والتقى الوفد زعيم «هيئة تحرير الشام»، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) الذي سيطر مع حركته على دمشق، إثر انهيار نظام حكم الرئيس بشار الأسد.
زيارة الوفد الأمريكي لن تكون لمجرد اللقاء مع ممثلي «هيئة تحرير الشام»، وأيضاً ممثلين عن المجتمع المدني، وإنما لمناقشة «رؤيتهم لمستقبل بلادهم، وكيف يمكن للولايات المتحدة دعمهم»، بحسب ما أعلنه الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية.
ومن الطبيعي أن التحرك السياسي والدبلوماسي الأمريكي أعطى الضوء الأخضر، حتى قبل زيارة الوفد الأمريكي، لزيارات مماثلة من الدول الأوروبية والدول الإقليمية الحليفة لواشنطن، للقيام بنشاط سياسي ودبلوماسي في دمشق.
لو كان أحدٌ يتوقع مثل هذا الحدث قبل شهر من الآن لكان قد اعتُبر من باب الجنون، إذ إن «جبهة تحرير الشام»، حتى تاريخ زيارة الوفد، موضوعة على قوائم التنظيمات الإرهابية الأمريكية والغربية، وفي الأمم المتحدة.
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية خصصت مبلغ عشرة ملايين دولار لمن يقدم معلومات تساعد في إلقاء القبض على زعيم «حركة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، الموجود اليوم في قصر الرئاسة في دمشق.
فـ»حركة تحرير الشام» نشأت بداية كفرع لتنظيم «القاعدة»، ثم عملت تحت راية تنظيم «داعش» في العراق، وبعد انتقالهم إلى سورية، بعد اندلاع الأحداث فيها العام 2011، بدأ العمل تحت اسم «جبهة النصرة»، ثم غيّرت اسمها إلى «هيئة تحرير الشام» بهدف إعطاء رسالة إلى الخارج، بانفصالها عن تنظيمي «القاعدة» و»داعش».
كما أن الجولاني نفسه عمل ضد الأمريكيين في العراق تحت أمرة «أبو مصعب الزرقاوي»، قبل أن يتزعم «جبهة النصرة» و»حركة تحرير الشام» لاحقاً، ما أدى إلى وضع اسمه وحركته ضمن قوائم الإرهاب الأمريكية والغربية والأممية.
السلوك الأمريكي الرسمي يطرح تساؤلات عديدة حول السياسات الأمريكية وعلاقاتها مع التنظيمات التي تعتبرها «إرهابية»، حيث لم يعد سراً أن هذه التنظيمات وُلدت في الغرف السرية، لأجهزة الاستخبارات الأمريكية والغربية، منذ نشوء تنظيم القاعدة في أفغانستان، والذي عمل بإشراف الأمريكيين ضد الاجتياح السوفييتي لأفغانستان، وبقوا حلفاء، حتى الخروج السوفييتي منها، ليتحولوا بعدها إلى أعداء، مع انتهاء مهمتهم في أفغانستان، وخروجهم عن السيطرة الأمريكية في أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2000، في واشنطن ونيويورك، والتي اتخذت ذريعة لغزو أفغانستان والعراق، لتبدأ مرحلة تنظيم «داعش» والمجموعات المسلحة الأخرى، مع بدء أحداث «الربيع العربي»، التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية -من جديد- كبديل عن جيوشها، لتحقيق أهدافها في مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، لتظهر التبدلات الأمريكية في التعامل مع هذه التنظيمات، بين اعتبارها تارة حليفة، وأخرى أداة، وثالثة عدوة ومصنفة إرهابية، لنراها اليوم مع «حركة تحرير الشام»، تنتقل بسرعة قياسية، من اعتبارها تنظيماً إرهابياً مسلحاً، وترصد مكافأة كبيرة لمن يساعد في إلقاء القبض على زعيمها، «أبو محمد الجولاني»، إلى شريكة في رسم سياسات وخرائط المنطقة.
التغير الكبير في الموقف الأمريكي لم يأتِ من فراغ، وإنما جاء على وقع التطورات الدراماتيكية المتسارعة في المشهد السوري، الذي غيّر في خريطة التوازنات وموازين القوى الإقليمية والدولية، بعد الخروج الإيراني من سورية، وحصر التواجد الروسي ضمن قاعدتيه، البحرية في طرطوس والجوية في حميميم، على الساحل السوري.
الدخول الأمريكي اليوم إلى عاصمة الأمويين، بما تعنيه دمشق من هوية وطنية وقومية، وحوارها مع من كانت تعتبرهم إلى قبل أيام قليلة «تنظيمات إرهابية»، لم يعد يقتصر على أهداف صغيرة، مثل البحث عن الصحفي الأمريكي سايمون تايس، وإنما للعمل مع الحلفاء، ومنهم قادة «جبهة تحرير الشام»، لرسم الخرائط الجديدة للمنطقة، التي تم إعلانها حتى قبل بدء الأحداث في سورية عام 2011، وهو ما عبرت عنه بكل وضوح وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس عام 2006، من أمام سراي الحكومية اللبنانية في بيروت، على وقع العدوان «الإسرائيلي» على لبنان، بأن ما يجري هو المخاض لولادة «الشرق الأوسط الجديد»، ويومها كانت رايس ومن معها يتوقعون انتصار الكيان الصهيوني في هذ المواجهة، لكن الفشل «الإسرائيلي» في ذلك العدوان أجّل ذلك من العام 2006، إلى 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، ليعود من جديد، على لسان رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، ومن على منبر الأمم المتحدة، بعبارة «تغيير وجه الشرق الأوسط».
أمام هذه التحولات الدراماتيكية يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تطيح بكل القوانين الأممية والشرعية الدولية والقيم الأخلاقية والإنسانية، وحتى القوانين الأمريكية، مقابل مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني.
ولن يكون مستغرباً أيضاً أن تذهب الولايات المتحدة إلى أبعد من ذلك بكثير، في تمكين «حركة تحرير الشام» من الحكم في دمشق، رغم ما يثير ذلك من تداعيات ومخاوف، في أكثر من عاصمة عربية وإقليمية، وهو ما يمكن معرفته في النتائج التي سيتمخض عنها مؤتمر الحوار الوطني السوري، المتوقع خلال الأيام القليلة القادمة، والنقاشات التي ستجري حول الدستور السوري الجديد، الذي سيحدد شكل وهوية نظام الحكم في دمشق.
في الشكل، يبدو أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني حققوا انتصاراً كبيراً في المنطقة، ما أدى إلى تغيرات جوهرية عميقة في الخريطة الجيوسياسية للمنطقة والعالم، لكن الواقع أيضاً يقول إن من غير المعروف كيف ستصرف الولايات المتحدة ومنظومتها الغربية هذه الانتصارات، وهي في مرحلة تراجع في قيادتها العالمية، والتحديات الكبيرة التي تواجهها، ومنها أزماتها الاقتصادية والاجتماعية وتراجع هيمنة الدولار.
كما من غير المعروف كيف ستتصرف قيادة الكيان الصهيوني، بعد الضربات التي تلقتها منذ عملية «طوفان الأقصى»، والتي زعزعت أركان الكيان الصهيوني.
وماذا أيضا عن الصين، التي تبدو حتى الآن صامتة ومراقبة، مع أنها من أكثر المتضررين من هذه التطورات التي أطاحت بمشروعها الاستراتيجي: «الحزام والطريق»، الذي كان سينتهي في الموانئ السورية على البحر المتوسط، لصالح المشروع الهندي الأوروبي الذي ينتهي على موانئ فلسطين المحتلة.
أسئلة كثيرة تحتاج إلى وقت قد يطول بعض الشيء للإجابة عليها.
المصدر أحمد رفعت يوسف / لا ميديا