«لا» 21 السياسي -
‏كفى خراباً يا حماس! لماذا لا تقبل الحركة بإلقاء السلاح؟! لماذا لا يذهب قادتها إلى المنافي الاختيارية حتى يتجنب المدنيون في غزة ويلات الدمار؟! لماذا لا تستسلم حماس؟! سأجيبك.
ارجِعْ فقط بالتاريخ إلى حدود يوم 6 حزيران/ يونيو 1982. في الساعة العاشرة صباحاً، وقف أحد الضباط الكبار في بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان بين جنوده، وكان اسمه تيمور جوكسل. كان يعتقد أن اليوم روتيني كغيره. ثم فجأة، وجد أمامه عشرات الدبابات «الإسرائيلية» تتقدم ببطء. استوقفها. مهمته تقتضي منعها من التقدم. وَضَعَ العراقيل المعدنية. تعطلت دبابة ثم اثنتان ثم عشر... ثم نفدت منه أدوات الإعاقة، فسأل أحد الجنود «الإسرائيليين»: ما الذي تفعلونه؟! هذا خطأ!... كانت التعليمات الواردة للجندي «الإسرائيلي» أن يتصرف بأدب مع البعثة الأممية، فأجاب: سيدي، هذا غزو!
بعد ساعتين وقف تيمور جوكسل مع الضباط الفرنسيين في البعثة، فوجدوا في الأفق 1200 دبابة «إسرائيلية». صُعقوا وقرروا السماح لـ»الإسرائيليين» بالتقدم. يومها قال الضابط الفرنسي: «لا نمتلك حتى في الجيش الفرنسي نصف الدبابات التي عبرت اليوم». كان ذلك إيذاناً ببدء الغزو «الإسرائيلي» للبنان. كانت «إسرائيل» تُعد العدة لهكذا غزو. عملية اغتيال مشبوهة لدبلوماسي «إسرائيلي» في لندن، واسمه شلومو أرجوف، وجدت فيها «تل أبيب» المُبرر لعملية الغزو. اتهمت «إسرائيل» حركة فتح بتدبير الاغتيال، وأنه لا بد من غزو لبنان لطرد الفصائل الفلسطينية المقاتلة، وتطهير دول الطوق من أية أعمال عسكرية ضد «الإسرائيليين».
هل تشاهد حصار غزة الآن؟! سبق وجربت «إسرائيل» نسخة مروعة منه في بيروت؛ بيروت الغربية تحديداً. قصفت «إسرائيل» العاصمة اللبنانية قصفاً مروعاً لم يسبق أن شاهده العرب. قطعت المياه والكهرباء ومنعت دخول الدواء والغذاء... كانت «إسرائيل» تبحث عن ياسر عرفات تحديداً، ومن بعده صلاح خلف (أبو إياد) وخليل الوزير (أبو جهاد)، وكلّ منهما مسؤول لعقود طويلة عن الأمن والتدريب والمخابرات في حركة فتح. كان عرفات يهرب من منزل إلى منزل، ويسانده في ذلك فصائل لبنانية تحالفت مع الفلسطينيين، وخصوصاً الحزب الشيوعي اللبناني وحركة أمل والدروز بقيادة وليد جنبلاط. بدأت الوساطة الأمريكية: خروج عرفات ورجاله من بيروت مقابل وقف الحصار وانسحاب «إسرائيل» من بيروت. صفقة تبدو عادلة للوهلة الأولى. لكن أتدري لماذا رفض الفلسطينيون في البداية الانسحاب؟!
هذا سيقودنا إلى أسوأ هزيمة جوية تعرض لها جيش عربي بعد حرب 1967، وكانت من نصيب سورية الأسد. قبل قيام «إسرائيل» بغزو لبنان، كانت تعلم جيداً أن القوات السورية موجودة لتأمين الخط الواصل بين دمشق وبيروت، وتتمركز بأعداد كبيرة في منطقة سهل البقاع اللبناني. كان ذلك جزءاً من الترضية الأمريكية للأسد بعد حرب 1973؛ أن يُسمح للسوريين بنفوذ عسكري في لبنان، مقابل التخلي عن حلم تحرير الجولان. وكانت «إسرائيل» لا ترغب في استفزاز الوجود العسكري السوري في لبنان حتى تتقدم قواتها بسهولة... ثم كانت الكارثة!
كان مناحم بيجن قد وقف أمام الكنيست يُعلن أن سورية ليست مستهدفة في لبنان. وذهب المبعوث الأمريكي فيليب حبيب إلى دمشق والتقى حافظ الأسد شخصياً وأخبره أن «إسرائيل» لن تمس القوات العسكرية السورية في سهل البقاع. اطمأن حافظ الأسد وابتلع الطُّعم. لكن في الـ9 من حزيران/ يونيو 1982 باغتت «إسرائيل» الجيش السوري في سهل البقاع بهجوم كاسح. في ساعتين فقط، دمرت الفانتوم «الإسرائيلية» 90 طائرة مقاتلة سورية، وقتلت ما يزيد عن ألف جندي فيما سيعرف بـ»معركة سهل البقاع». مجزرة للطائرات لم يتسامح معها السوفييت لاحقاً عندما أرسلوا وزير دفاعهم للقاء وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس للاستفسار عن سبب الفشل السوري الساحق في استخدام السلاح السوفييتي. وكانت أزمة قصيرة في العلاقات، إلى أن عهدت موسكو لألمانيا الشرقية بإعادة بناء القوة الجوية السورية.
كانت سمعة الوساطة الأمريكية بعد «سهل البقاع» في الحضيض. وعلم الفلسطينيون أن الاستسلام بالشروط الأمريكية يعني سحقاً كاملاً، وبالتالي استمرت المقاومة. لمدة تزيد عن 70 يوماً صمد عرفات ورجاله. لكن حلفاءهم، وبعد سقوط أكثر من 18 ألف قتيل مدني في بيروت، لم يعودوا يحتملون الأمر. حركة أمل انسحبت لتأمين الضاحية الجنوبية، بينما نصح وليد جنبلاط عرفات -برفق- بأن يُنهي المعركة وينسحب من لبنان. ولم يعد باستطاعة الشيوعيين الصمود أكثر من ذلك، رغم استبسالهم في الدفاع عن عرفات. فكان أن وافق عرفات على الصفقة: الخروج من بيروت صوب تونس رفقة 2000 مقاتل فلسطيني بسلاح خفيف. ولأول مرة أصبحت دول الطوق بكاملها آمنة لـ»إسرائيل»؛ مصر التطبيع، الأردن بعد طرد منظمة التحرير عام 1970، لبنان بطرد منظمة التحرير، ثم سورية التي لم تطلق رصاصة على «إسرائيل» ولا توجد بها قواعد قتالية متقدمة للفصائل الفلسطينية.
استسلمت منظمة التحرير وخرجت من بيروت. فليعُمّ الأمن الأمريكي والسلام «الإسرائيلي» إذن! بالطبع سيرى الفلسطينيون بأمِّ أعينهم معنى الرفاه والرخاء «الإسرائيلي» بعد استسلام المقاومة!
بعد 16 يوماً فقط من خروج عرفات إلى تونس، وتحديداً في 16 أيلول/ سبتمبر 1982، اتفق وزير الدفاع «الإسرائيلي» أرئيل شارون، ورئيس أركانه رافائيل إيتان، مع قادة مليشيا القوات المارونية اللبنانية، وبالأخص إيلي حبيقة ومارون مشعلاني، على سحق المدنيين الفلسطينيين في «صبرا وشاتيلا». أضاءت قوات شارون سماء المخيم بالقنابل الفسفورية، وتقدمت المليشيات المسيحية صوب المخيمات وقتلت في 3 ساعات أكثر من 3000 مدني فلسطيني، بأبشع الطرق؛ بقر البطون وقطع الأثداء...!
لعلك الآن تُدرك لماذا لا تستسلم حماس. حافظ الأسد صدّق «الإسرائيليين» في «سهل البقاع» فسحقوه. ياسر عرفات انسحب من بيروت فقتلوا 3 آلاف فلسطيني. لكن مهلاً، ما تزال هناك أسباب أخرى. القادة الفلسطينيون أنفسهم لم ينجوا لاحقاً. هل تعلم أن الطيران «الإسرائيلي» قصف تونس؟! كان ذلك في صباح الأول من تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1985، وتحديداً مدينة حمام الشط، على بعد 50كم من العاصمة التونسية. سلسلة غارات متتالية على مقرات منظمة التحرير، والهدف اغتيال عرفات. لكن عرفات نجا، وقُتل 50 فلسطينياً و15 تونسياً. العهد الأمريكي لعرفات كان ضمان سلامته الشخصية. وهذا ما جناه: محاولة اغتيال. صحيح فشل «الإسرائيليون» في اغتيال عرفات؛ لكنهم بالتأكيد سينجحون في تونس بدل المرة اثنتين.
الأولى في 16 نيسان/ أبريل 1988. يومها ذهبت قوة «إسرائيلية» إلى الشواطئ التونسية. كانت تضم 16 من صفوة ضباط «الشاباك» و»الموساد» و»الشين بيت» و»سيريت ميتكال»، يتقدمهم إيهود باراك. نزل منهم 8 إلى بيت خليل الوزير، وأردوه قتيلاً أمام ناظري زوجته بـ76 رصاصة. بعد 3 سنوات، وتحديداً في 14 كانون الثاني/ يناير 1991، سيقوم أحد أكثر الشخصيات الفلسطينية المشبوهة -والذي يُعتقد بعمالته لـ»الموساد» في كثير من الدوائر- وهو صبري البنا المُكنى بـ»أبي نضال»، بتجنيد أحد أعضاء فريق تأمين القيادي الفتحاوي هايل عبد الحميد، الشهير بـ»أبي الهول»، وكان العميل الخائن هو حمزة أبو زيد. دخل أبو زيد غرفة يجتمع فيها صلاح خلف (الرجل رقم 2 في حركة فتح) وفخري العمري وأبو الهول، وأرداهم جميعاً بالرصاص.
هذا هو ثمن الاستسلام: تصفية ألوف المدنيين واغتيال قادة المقاومة. هذا هو ثمن الثقة بـ»الإسرائيليين»: «سهل البقاع». هذا هو عين ما ترفضه حماس. لكن ليس لهذه الأسباب فقط، وإنما يتبقى سبب أكبر، وهو أن الخِبرة في التعامل مع «الإسرائيليين» من معركة حصار بيروت وتبعاتها تقول بأن الاستسلام والتشريد في المنافي كان بوابة كل الرذائل، لأنه فتح الباب أمام قبول حركة فتح بالتطبيع مع «إسرائيل». لأن «فتح» حُيدت تماماً من جبهة الطوق، ولم يعد لها تأثير عسكري، فباعت كل شيء لأجل السلطة الوهمية، فكان أن حضرت «مؤتمر مدريد» ثم وقعت «اتفاق أوسلو» الذي قضى على القضية الفلسطينية وحولها من حلم تحرير الأرض، للقبول بسلطة فلسطينية عميلة للاحتلال «الإسرائيلي» تقوم -بالوكالة عنه- بمهام قتل واعتقال المقاومين داخل الأراضي الفلسطينية مقابل مساعدات أمريكية.
هل تعلم الآن لماذا لا تستسلم حماس؟ لأنها ترى المستقبل بعين التاريخ. ترى تطهيراً عرقياً سيبدأ على نحو لم يسبق له مثيل. ترى موجات تهجير إجبارية لأهالي القطاع. ترى سلطة عميلة للاحتلال تنتقم من ألوف العوائل الفلسطينية بحجة دعم المقاومة. والأهم، ترى أرضاً فلسطينية أُخرس فيها صوت البندقية للأبد، وحل محلها تطبيع يعيش فيه الفلسطينيون ما تبقى من أعمارهم عبيداً لـ»الإسرائيليين». هل تعلم الآن لماذا لا تستسلم حماس؟! وهل تعلم أن «الإسرائيلي» لا يؤمَن وعده، والأمريكي لا يُضمَن عهده؟! هل تعلم أن المُلام الوحيد هو الصهاينة، وأن من عليه إيقاف الحرب هم الصهاينة، وحدهم لا غير؟ هل تعلم...؟ هل تعلم...؟ وهل تتعلم...؟!

 عبده فايد