«لا» 21 السياسي -
أُنشئت «المحكمة الجنائية الدولية» عام 2002 في لاهاي (هولندا)، وهي تضم 124 دولة وقعت على «نظام روما الأساسي» الذي يحدد اختصاص المحكمة. ويشمل الاختصاص جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الاعتداء وجرائم الإبادة الجماعية. غير أن من المعلوم أن تأسيس هذه المحكمة أتى كإحدى نتائج نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكمنصة عدلية أممية صُمّمت خصيصاً لمحاكمة النازيين الألمان المتهمين بقتل اليهود بما عُرف بـ»الهولوكوكست»، وهي السردية التي صنعت من خلالها الصهيونية صورتها كضحية طوال ثلاثة أرباع القرن الماضي. وأن تصدر مذكرات اعتقال من هذه المنصة -التي حاكمت «قتلة اليهود» وتأسست لسردية القرن العشرين الصهيونية كما ذكرنا- بحق مجرمي الكيان الصهيوني نتنياهو وغالانت، فهذا برأيي هو الأهم، وهذا أيضاً ما يفسر كل ردود الفعل الصهيونية الغاضبة والخائفة جداً من تلك المذكرات.
نعم، ثمة استحقاقات قانونية وأخلاقية وسياسية لمذكرات الاعتقال تلك؛ غير أن نسف هذه المذكرات للسردية الصهيونية هو الاستحقاق الأبرز والأكثر إيلاماً للصهاينة.
بحسب الباحث اللبناني محمد فضل الله فقد «وجدت الولايات المتحدة في يهود ألمانيا بديلاً لألمانيا نفسها، ثم عَمّمتْ ذلك ليشكل يهود أوروبا (أوروبا بديلة خاضعة). وعملتْ، عبر قسم دراسات الهولوكوست، على إعادة كتابة التاريخ والفلسفة الأوروبيين؛ إذ يكون يهودُها في قلب وأصل هذا الإرث، ليصبح تاريخ أوروبا مجرد المحاولات المستمرة لإزاحة اليهود وتغييب أثرهم وصولاً إلى إبادتهم».
يضيف فضل الله أن «الولايات المتحدة أرادت لـ«إسرائيل» أن تكون ألمانيا صغيرة بديلة، وسيكون لها ذلك، وستلقى المصير نفسه. ليست ستالينغراد بالتحديد هي التي هَزمت ألمانيا النازية، بل إن الأخيرة كانت ستبقى في حالة حرب حتى تصطدم بستالينغراد ما، أكانت تلك السوفييتية أو غيرها. وهذا هو الحال مع «إسرائيل» في طورها الفاشي الأكثر وضوحاً، ستبقى في حالة حرب حتى تصطدم بستالينغراد ما».
وعليه فإن حكم «الجنائية» بذاته يُعَد انقلاباً تاريخياً على النظام الدولي القائم على الاستنسابية والانتقائية، ومن شأن ذلك أن يعمق الخلافات بين مكونات الغرب نفسه، الذي يعتمد على استخدام القواعد التي وضعها «الرجل الأبيض» في الولايات المتحدة والغرب عموماً لخدمة مصالحه وحمايتها.
والواقع أن المحكمة ذاتها، التي تتخذ من «ميثاق روما الأساسي» منطلقاً لها، لا تتمتع بسلطات تنفيذية، ولا توجد لديها شرطة لتنفيذ أوامر الاعتقال؛ غير أن جميع الدول الموقعة على الميثاق المشار إليه معنية بتنفيذ قراراتها، علماً بأن عدد تلك الدول يبلغ 124، ومن ضمنها جميع الدول الأوروبية تقريباً (43 دولة)، وأكثر من نصف الدول الأفريقية (33 دولة)، ودول أمريكا الجنوبية، وأستراليا، وكندا، فيما الولايات المتحدة والهند والصين ليست أعضاء في الاتفاقية. وبالتالي، فإن أي رحلة يقوم بها نتنياهو أو غالانت إلى إحدى الدول الأعضاء قد تعرضه لخطر الاعتقال.