«لا» 21 السياسي -
‎في البداية لا بد من التذكير بأن الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ‏وإذا كان في الذاكرة لكونه هو الذي أمر باغتيال القائد في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، فقد فاز عليه الرئيس ‏المنتهية ولايته جو بايدن ونائبته الراسبة في الانتخابات كمالا هاريس، بتغطية اغتيال قادة في حركات المقاومة بحجم لا ‏يقلّ عن اغتيال سليماني، في لبنان وفلسطين، وصولاً لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية وتتويجاً ‏بجريمة كبرى هي اغتيال السيد حسن نصر الله. أما إذا كان البعض يعتقد بأن ترامب سوف يمنح بنيامين نتنياهو ما ‏حجبه عنه بايدن فعليهم أن يتساءلوا عن حقيقة وجود ما حجبه بايدن عن نتنياهو، ولم يبق إلا تجريد حملة برية بمليون ‏جندي أمريكي لغزو المنطقة بعدما قدّم بايدن كل شيء يمكن تقديمه لنتنياهو، فهل يعتقد أحد أن ترامب سيفعل ذلك؟!‎
‎لا بدّ أيضاً من تذكير الذين يهوّلون بعلاقة بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، ويخلصون إلى القول إن الآتي أعظم، بأن ‏الرئيس السابق دونالد ترامب كان هو الرئيس الذي أسقطت خلال رئاسته طائرة «آر كيو- 170» التجسسيّة الأمريكيّة ‏العملاقة بصاروخ دفاع جوي إيراني، وكان قراره بعدم الردّ؛ لأنّه ليس في العملية خسائر بشرية، ولأنه لا يريد حرباً، ‏ومنفتح على التفاوض، وحتى ذلك الحين يعتقد بأن العقوبات تؤتي ثمارها. أما الذين يقولون إن الدول الخليجية تحتفل ‏بفوز ترامب كشريك افتقدوا وجوده خلال رئاسة بايدن، وسوف يترتّب على عودته تغيير في الموازين بوجه إيران، فلا ‏بدّ من تذكيرهم، بمقالة توماس فريدمان كاتب الـ»نيويورك تايمز» الذي كتب مسودة المبادرة العربية للسلام، والقريب ‏جداً من صناع القرار في الخليج، بعدما أصابت صواريخ مجنّحة وطائرات مسيّرة أطلقها اليمن على منشأة أرامكو في ‏خريف 2019، فماذا قال فريدمان؟‎
‎كتب فريدمان في مقالته الشهيرة: «كان حمّاماً بارداً تلقاه السعوديون، الذين اتصلوا بواشنطن لمناقشة ما تخطّط له ‏الولايات المتحدة من ردّ استراتيجي، ليكتشفوا أن الرئيس ترامب كان مشغولاً بالبحث عن رقم الهاتف النقال للرئيس ‏الإيراني حسن روحاني». ولو ترجمنا مواقف الرئيس إلى العربية، فقد كان ترامب يقول لقادة دول الخليج: «نسيت أن ‏أخبركم أنني مهتمّ فقط ببيعكم أسلحتنا، لا استخدامها للدفاع عنكم، ولكن لا تنسوا النزول في فندقي المرة التالية التي ‏ستحلّون فيها ضيوفاً على واشنطن، ومكاتب الحجز مفتوحة». وفهم السعوديون والإماراتيون الرسالة، وانشغلوا -مثل ‏ترامب- بالبحث عن رقم هاتف الرئيس الإيراني وهاتف أمير قطر أيضاً، المؤيد لإيران، فقد حان الوقت لتصحيح الأمر ‏مع «كل الجيران». وبعد هجوم أرامكو في السعودية أعلن ترامب أنه «بالتأكيد يريد تجنّب الحرب». ومرة ثانية لو ‏ترجمنا كلامه إلى العبرية: «أمريكا سعيدة بالحفاظ على العقوبات ضد إيران؛ ولكنها لن تشارك «إسرائيل» أو بعض ‏العرب لتغيير النظام هناك أو تدمير القدرات العسكرية الإيرانية». واستخلص فريدمان أن نتنياهو أساء قراءة عقليّة ‏ترامب: «نحن نعوم في بحر من النفط والغاز ولن نخوض حروب الآخرين في الشرق الأوسط. وقد فهم الإيرانيون، ‏الذين ليست لديهم سفارة في واشنطن، عقليّة ترامب أحسن من حلفائه في المنطقة».
‎ترامب منح نتنياهو توقيعه عندما أراد ضمّ مزيد من الأراضي المحتلة، فتسبّب بضعف صورة أمريكا التي صنعها ‏الديمقراطيون عبر ترويج مهم حول الموقف الوسط ودعوات التفاوض وحل الدولتين؛ لكن «إسرائيل» لم تربح شيئاً، ‏لأنه لن يرسل جندياً أمريكياً واحداً لحماية الاحتلال في هذه الأراضي أو سواها، ولن يكون هناك ما يقدّمه ترامب ‏لنتنياهو بعد حرب غزة ولبنان، سوى مطالبة نتنياهو بإنهاء الحرب بنصر سريع أو تسوية تعطي واشنطن مكانة أفضل ‏في المنطقة. وإذا كان هناك مَن يجب تهنئته بفوز ترامب فهو قطعاً ليس نتنياهو، الذي سوف يُعيد اكتشاف ما قاله ‏فريدمان قبل خمس سنوات، فربما يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من يتلقى التهاني الآن، وقد أزفت ساعة ‏إضعاف حلف الناتو، وساعة رحيل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وربما يجب تقديم التعازي لقادة جماعة ‏‏»قسد» في شمال شرق سورية، الذين لن يحظوا بدعم ترامب أسوة بما سيحدث مع زيلينسكي‏‎.
‎جوهر اهتمامات الترامبية يبقى داخلياً وليس خارجياً، كدعوة للأمركة على حساب العولمة. ولأن ترامب صاحب ‏كتاب الصفقة ورجل الصفقات، فهو قد يُنجز صفقة مع الدولة العميقة للمخابرات ووزارة الدفاع على معالم السياسة ‏الخارجية لإدارة الأزمات، وقد بلغت حرب المنطقة سقوفاً بات مستحيلاً اختراقها دون تورّط أمريكا بشنّ حرب كبرى ‏تفوق طاقتها، وعلى نتنياهو أن يحاول ما يستطيع فعله في الحرب ليكتشف أن ما فعله جيش الاحتلال هو سقف ما ‏يستطيعه، وأن الزمن يعمل ضده، وأن رجل الصفقات لن يكون بعيداً عن طلب الوساطة الروسية من الرئيس بوتين ‏لعقد صفقة مع إيران، بدلاً من دفعها لإعلان امتلاك سلاح نوويّ‎.
‎ربما تؤدي رئاسة ترامب إلى إراحة سورية وروسيا، وهذا سيترك بصماته على توازنات حروب المنطقة وموقع ‏قوى المقاومة فيها؛ لأن إنهاء حماية الكانتون الكرديّ، وتمهيد الانسحاب من سورية، والتفكير بتفاهم مع روسيا على ‏توليها مهمة مكافحة الإرهاب في سورية وإدارة الحل السياسيّ، يعني أيضاً تسريع التموضع التركيّ للانسحاب من ‏سورية. والأرجح أن ترامب سوف يفرض الحماية الجمركيّة بوجه الصين، ويعتبر أن التحدّي الاقتصاديّ مع الصين ‏والنهوض بالصناعة الأمريكيّة، وتوسيع نطاق الإنتاج الاستهلاكيّ وسلاسل التوريد، هي أولوياته، وإدارة الظهر للناتو، ‏والتفاهم مع روسيا، وربط النزاع مع إيران، كوصفة لتفادي المزيد من الحروب‎.
‎مَن يستحقّ التهنئة قبل أي أحد آخر هي الجالية العربية الإسلامية في أمريكا، ومعها الناشطون المؤيّدون لفلسطين، ‏وقد ظهروا سبباً مباشراً لمعاقبة الحزب الديمقراطيّ على شراكته الجرميّة في عمليات القتل الوحشي في فلسطين ‏ولبنان، ولم يهمّهم أن يفوز ترامب، وربما ذهب بعضهم لتأييده؛ لكن الأهم كان هو هذا العقاب الرائع، لمجرمي الحرب ‏بايدن وهاريس، ومضمون الرسالة: لن تنالوا تصويتنا تحت شعار الخشية من الأسوأ؛ لأنكم أنتم الأسوأ، وعندما يفعل ‏ترامب ما يستحقّ العقاب فلن يتأخّر العقاب‎.
ناصر قنديل
كاتب وصحفي لبناني‎