«لا» 21 السياسي -
‏لم يكن الحكام «العرب» يوماً ولم يصبحوا أبداً «جمعاً ولا «مذكراً. فقط وعلى طول الخط هم بعد «سالم» (الاسم الذي كان قدامى اليمنيون يعرّفون به اليهودي). لم يحلوا محل مبتدأ، بل دائماً هم خبر. لا فاعلاً صاروا، بل يوماً هم مفعول به ويوماً آخر مفعول مطلق. حتى وهم أدوات لم يحاول أحدهم أن يكون أداة رفع، بل استحْلوا مكانهم كأدوات نصب وجر على شعوبهم. جمل اسمية لا فعلية هم. ومع ذلك فكلهم حركات كسر، وجميعهم «أبو الخيزران». ولنعرف من هو هذا الأخير فيلزمنا العودة إلى رواية «رجال في الشمس» (1963) للكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، وهي الرواية التي تتناول الموضوع الفلسطيني من باب الشتات الذاتي ومن زاوية الخذلان العربي.
تحكي الرواية قصة ثلاثة فلسطينيين من فئات عمرية مختلفة يجمعهم القهر وضيق الحال في مخيمات اللجوء.
«أبو قيس» رجل طيب متعلق بأرضه وبأشجار الزيتون التي فقدها إثر اجتياح قريته، وجد نفسه في فقر مدقع ويأسٍ من عدم قدرته على تلبية احتياجات زوجته وابنه.
«أسعد» شاب مناضل مطارد من قبل السلطات بسبب نشاطه الثوري والسياسي.
و»مروان» مراهق اضطر تحت وطأة تخاذل عائلي أن يتكبد مسؤولية أمه وإخوته، فترك المدرسة وانشغل بإيجاد عملٍ يصرف عليهم.
حلم الثلاثة بالوصول إلى الخليج النفطي، الكويت تحديدا، حيث فرص العمل مصحوبة بأجور مرتفعة وحوافز مغرية. تبدأ الحبكة في تعرّف الثلاثة إلى «أبو الخيزران»، المهرّب الذي يتباهى بكونه أفضل سائق شاحنات ضخمة. كان «أبو الخيزران» قد خسر رجولته بعد إصابته في إحدى المعارك، ويعمل على شاحنة بخزان ضخم لنقل المياه العذبة عبر الحدود بين العراق والكويت. بعد الاتفاق على المبلغ الذي طلبه المهرّب يشرح لهم كيف سيقوم بتهريبهم عبر الحدود داخل خزان الماء الفارغ في قيظ النهار، ما سينجيهم من نقاط التفتيش. كان الاتفاق على سبع دقائق داخل الخزان الملتهب من حرّ الصحراء قبل نقطة التفتيش وحتى عبورها. وهكذا حصل عند العبور الأول مع معاناة الثلاثة من الحرارة المرتفعة التي كادت أن تشوي أجسادهم وتخنقهم داخل الخزان. أما عند نقطة العبور الثاني فقد تلهّى «أبو الخيزران» مع الموظفين فنسي الثلاثة وقتاً فاق الدقائق التي تستحملها أنفاسهم، وحين عاد إليهم لم يفتح الخزان لحظتها بالقفل الذي كان قد أحكم إغلاقه، بل انتظر حتى ابتعد أكثر عن نقطة التفتيش، ونزل ليفتح فوهة الخزان، فوجدهم قد فارقوا الحياة. يحزن عليهم «أبو الخيزران» وهو ينهب الأموال من جيوبهم ثم يرمي بجثثهم عند حاوية النفايات وسط الصحراء. في النهاية، يختم كنفاني الرواية بمشهد «أبو الخيزران» وهو يلقي باللوم على الجثث طارحاً السؤال: «لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟!».
أراد كنفاني أن يرمز من خلال شخصية «أبو الخيزران» (المخصيّ - كما تشير تهاني نصار) إلى القيادة الضعيفة التي فقدت رجولتها يوم لم تستطع حماية أرضها من الاحتلال الصهيوني. هذه القيادة وفقاً لدراسة تحليلية قامت بها الكاتبة الراحلة رضوى عاشور (1946-2014) يُقصد بها القيادتَان الفلسطينية والعربية معاً.
وتكشف نصار -في سياق قراءتها لموضوع طريق الإنقاذ البري «العربي» للكيان الصهيوني- النقطة التي ربما أغفلتها دراسات نقدية عديدة، هي أنّ «أبو الخيزران» كان في الجيش البريطاني وأصيب إصابة عضوية في رجولته يشير عبرها كنفاني إلى تلاعب الاستعمار البريطاني بالقيادات العربية، كما يرمز حرس الحدود عند نقاط التفتيش إلى الدور العربي في ترك الفلسطينيين يموتون تحت الشمس الحارقة.
اليوم دق رجال كنفاني جدران الخزان آلاف المرات، بالكلمة والموقف والسلاح والصمود؛ لكن المشكلة منذ الحكاية الأولى، منذ النكبة الأولى، هي عند «أبو الخيزران» وبقية الخصيان العربان.