حلقات يومية يكتبها القاضـي محمد الباشق / لا ميديا -
في علم الاجتماع ومدارس الفلسفة وعلوم الطاقة والبيئة نظريات عدة وكلام كثير عن تأقلم الإنسان وانسجامه وتكيفه مع بيئته وواقعه وتأثره وتأثيره بالظروف التي يعيشها. ومن يتأمل في بيئة شهر الصيام رمضان المبارك يجد أن تهيئة الله للعباد، بتحديد وقت للإمساك ووقت للإفطار وحث على استثمار الوقت والاستفادة من كل لحظة، فإن الإنسان المحسن إلى الخلق يجد في نعمة وشرف الإحسان إلى الخلق رفعة له وترقية وجبرا لأي نقص.
ومن يتأمل بأدنى درجات التأمل يجد أن الكفارات هي إحسان إلى الخلق وجبر لما حصل ممن وجبت عليه الكفارة.
ونحن الآن على مشارف انتصاف الشهر الكريم حريٌّ بنا أن يعلم كل صائم وصائمة أن ما يقوم به من عبادات وأعمال وتلاوة فإن أبركها وأنفعها وأبقاها أجرا ما كان فيه دفع للمكاره عن الخلق وجلب وتقديم الإحسان إليهم، وأن الحق جل شأنه يريد منا أن يكون دورنا في الحياة دائما دور إسعاد للآخرين وتقديم الخير لهم.
وأنا هنا أريد أن أتحدث عن إحسانٍ أهله قليل وأثره كبير؛ إنه الإحسان في الدعاء للآخرين، الدعاء لخلق الله، ليس فقط للوالدين بعد مغادرتهما الدنيا، رغم أهميته وأنه دليل على البر؛ لكن الدعاء لهما أثناء الحياة، دعاء بظهر الغيب، يرافقه دوام الحب والود والسعي لطلب الدعاء منهما أيضا. وكم من مرتبة نالها شخص بدعاء والديه أو أحدهما، وكم من شر دُفع وضر رُفع ببركة دعاء الوالدين والدعاء للمحسن إليك ومن قدم لك خيرا، فإنه من مقتضيات المروءة ومن أسس المكافأة لمن قدم لك خيرا أو وصلك منه معروف، والدعاء لمن أوصل لك علما وقدم لك نصحا من أبجديات رد الجميل، كل ما سبقت الإشارة إليه دون تفصيل معروف ومهم.
وأريد في هذه الحلقة أن أربط بين بيئة شهر الصيام وبين الإحسان وبين الدعاء بظهر الغيب للمؤمنين والمؤمنات، حيث جعل الله سبحانه وتعالى من صفات الأجيال المؤمنة أن يستمروا في الدعاء لمن سبقهم، فهذا حبل الصلة وهذا منهاج التواصل، والذين جاؤوا من بعدهم يقولون «ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا»، وفي آخر «سورة نوح»: «رب اغفر لي ولوالديَّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات».
فالدعاء للمؤمنين والمؤمنات دليل على تأثر الصائم ببيئة شهر رمضان الإيمانية، ودليل انسجامه التام مع تجليات وأنوار وبركات وأثر الصيام، فيتذكر الأجيال الذين صاموا، ويستشعر حال من مرت بهم ظروف وأحوال معينة، فيدعو الله لهم بالرحمة والمغفرة والقبول. والدعاء بظهر الغيب يدل على درجة من صفاء النفس عالية، وعلى همة قوية واهتمام كبير بصلاح حال الخلق. وأيضا ما من مسلم يدعو لإخوانه بظهر الغيب إلا فاز بالقبول؛ لأن من سنن الله سبحانه وتعالى التي لا تتبدل ولا تتحول أنه جعل الجزاء من جنس العمل، فمن أحسن بهذا الإحسان الذي هو قمة في الشعور وحياة لضمير وصفاء للنفس، ولأهميته فإن له شاهدا ظاهرا وقرينا لا ينفصل عنه، إنه العفو والصفح.
فمَن صدق في عفوه وصفحه عمَّن أساء إليه، ومَن تسامى وسما عن الأحقاد، ومَن تطهر مِن دنس الكبر والحقد والحسد، مَن تعافى مِن كل هذه الأمراض، كان في جنة الصفاء، التي ظاهرها العفو والصفح وباطنها الدعاء لصلاح وخير خلق الله. ومَن كانت هذه نفسيته فإنه في نعيم، «رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين». هذا هو المنزل المبارك، أن يكون المسلم راسخ الإقامة وثابت السكن في بيئة الإيمان بصفاء قد حل في النفس والسكن.
هنيئا لمن هذا حاله بسرور لا يفارقه وأنس يصاحبه وسعادة تظهر على محياه، بعد أن فاض بها قلبه على جوارحه، وعندما تفيض روحه يرى بشرى القبول وتناديه الملائكة الكرام الكاتبون: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية».