حلقات يومية يكتبها القاضـي محمد الباشق / لا ميديا -
«فخرج»، وردت في ثلاثة مواضع: الأول: عن سيدنا زكريا عندما يخرج وهو لا يتكلم، بل يخاطب قومه بالإشارة أن يسبحوا بكرة وعشيا، والثاني: عن سيدنا موسى عندما غادر عاصمة ملك فرعون، والثالث: في سورة القصص عن قارون: «فخرج على قومه في زينته»، فالمقصود من صيغة «فخرج» أنه خروج موقف، وليس مجرد خروج لا ينبئ ولا يبين ما بعده.
فخرج سيدنا زكريا خروج إرشاد وتوجيه إلى دور التوجه القلبي والظاهري لله في قضاء الحوائج. وخرج سيدنا موسى واثقا أن الله سيهديه سواء السبيل. وخرج قارون خروج استعلاء وكبر، وخروج عن نهج وسلوك قومه، حيث بطر بالنعمة وامتلأ كبرا وانتفخ غرورا، فصار حاله يدل عليه في زينته على قومه، وفي قوم يرمقون موكبه الفاره وحالته الفاخرة التي ظاهرها الترف وباطنها العجب، في سياج من كبر جاحدا للنعمة. فيا له من خروج تجلى فيه خروج قارون من جميع القيم والفضائل، فكان الخسف له عقوبة ولداره، مزيدا من الإهانة والإذلال، فيأتي أرض المحشر يوم القيامة هو ودليل الإثبات على كفره وجحوده، الدار التي كانت مليئة بالأموال، الدار التي تشهد على أنه عاش فيها غافلا ولقي الله مذموما مدحورا.
فكم من قارون في هذا الزمان! وكم شاهدنا من قارون معه أبراج عالية! كم من قارون في عصرنا شاهدهم العالم عبر القنوات الفضائية تطاولوا في البنيان وشادوا الأبراج وعاشوا في ترف وبذخ كبير، قد خسفت أخلاقهم وماتت فضائلهم وانسلخوا من واقعهم الاجتماعي السوي!
وأنا على يقين من أن إخوان قارون في هذا العصر سيصيبهم عذاب كما أصاب إمامهم المخسوف الهالك قارون. ومن شنوا على اليمن العدوان قيادتهم ورموزهم كثير منهم هم إخوان فرعون وهامان وقارون، وكما شاهد المؤمنون من قوم فرعون مصيره وحمدوا الله الذي نجاهم رغم أنهم قد تمنوا في لحظة ضعف بشري أن يكون لهم من المال مثل قارون وفهموا وأيقنوا بالدليل المشاهد أن العاقبة للمتقين، وأنه لا فلاح لظالم ولا عز لمتكبر، وأن كل متكبر وكل باغٍ مصيره الخزي هنا والعذاب المقيم في دار الآخرة.
فليعلم إخوان قارون أن مصيرهم أقبح وأشد وأكبر، وأن يوما عصيبا ينتظرهم. ولنعلم جميعا أن من دروس وعبر قصة فرعون أن الدنيا دار عمل ودار جزاء، وأن من لم ينفق فهو إلى النفاق أقرب وإلى أن ينفق ويهلك في حسرة وندامة. والآية الكريمة واضحة: «يسألونك ماذا ينفقون قل العفو»، أي الزائد، ما زاد عن الضروريات والحاجيات أنفقه، وأن الأصل هو الإنفاق، وهو الاستثمار الحقيقي مع الله والمتاجرة الرابحة. وإن في قصة قارون والعذاب الذي حل به ونزل عليه عبرة وآية لكل غافل وكل مغرور، وتحذير لكل مترف. وإن إيرادها هنا وفي حال مجتمع قد ظلم وبغي عليه رسالة أن الحالة القارونية تبدأ من التمني والإعجاب والرضا، فمن رضي بأعمال المترفين ونوى وعزم أنه إذا جاءه خير من مال وفضل من رزق ومزيد من سوابغ النعم سيعمل كما عمل قارون وسيتصرف كما تصرف قارون وسيخرج في زينة كما خرج قارون فليحذر من في قلبه ميول قارونية من خسف وحرمان من معاني وقيم الإحسان والخير.
ومن الدروس والعبر أن من لم ينهَ النفس عن الهوى هوى، ومن يحلل عليه غضب الله فقد هوى، وكل من بغى وظلم واستكبر وطغى فقد استحق العقاب في الدارين هنا وهناك، وأن علينا النظر إلى علاقتنا بالمنعم، بالإحسان إلى الخلق. ومستمر قارون في كل أمة، في كل مجتمع، فكل مترف يخرج على قومه في زينته، زينة مركب وزينة شخصية، وهو معظم لذاته معجب بحاله محتقرا للناس، في حال استعلاء عليهم، فليعلم أن خسف العقاب قد حل به؛ مجرد الخروج في هذه الحالة هو خسف؛ لأن الخروج الذي أراده الله منا خروج جهاد، خروج طاعة، خروج لله، وهؤلاء الذين أثنى الله عليهم بقوله: «ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله».
وقد جعل الله من أوصاف يوم القيامة أنه يوم الخروج. فكل واحد منا عليه أن يسأل نفسه عند أي خروج: ماذا أريد؟ وإلى ماذا أسعى؟ وما هدفي من هذا الخروج؟ فلنخرج من كل نية غير طيبة، ولنخرج من كل هوى، ولنخرج من كل خروج فيه أنانية وفيه تعظيم للذات. لذا جاء التوجيه الجليل من الله الملك الجليل: «وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق»، فعند كل خروج نتذكر ونستشعر خروجنا إلى الله في يوم الخروج، ونبتهل إلى الله أن يمدنا بعونه في كل حركة وسكون، لتكون حركة خروجنا لله وفي رضاه.