حلقات يومية يكتبها القاضي محمد الباشق / لا ميديا -
ومن تمام الفائدة أن نذكر بعضاً من نماذج الكفر بالنعمة، المتجلي في عدم الإحسان إلى الخلق، وصل بصاحبه إلى ألا يحتجب ولا يبتعد كما حال كثير ممن يبتعدون عن الفقراء والمساكين، استعلاء عليهم وجحودا لما يجب عليهم من فريضة الإحسان. وكل محتجب عن حوائج الخلق وعن الإحسان إليهم نورد له هذا النموذج عن الأخ الأكبر لكل جاحد والقدوة الأقبح لكل مستكبر ووارث إبليس في الكبر والاستعلاء والغرور؛ إنه كائن بشري أصبح يمثل شريحة من حطب جهنم يقودهم إلى الخزي ويهوي بهم إلى الخسف.
إنه قارون، الرجل الذي منحه الله علماً يتعلق بخواص المواد وطرق تحويل المواد البسيطة إلى مواد ثمينة، وهو علم عزيز، أهله قلة من كل جيل، فكفر قارون بنعمة الله وورث من إبليس التبرير لطغيانه وإنكار فريضة الإحسان. ولأنه لا توجد معصية مفردة فقد تجلت معاصي قارون في إساءة الأدب مع الله، وجحود فضله، والكفر بنعمته، ومنع أي حق للفقراء والمساكين، والانسلاخ من المجتمع الإيماني، والسير على خط وخطى قدوته وقائده الشيطان الرجيم، والتقليد للهالكين عن قرب منه: فرعون وهامان.
خرج قارون على قومه في زينته خروجاً ممتلئاً بالغطرسة، خروجا قبل أن يكون خروجا ببدنه على سرج وفي موكب من أتباعه وخدمه، فقد سبقه خروج من قيم الدين وخروج من كل إحسان ومن كل تفضل ومن كل تواضع وإخبات. خرج خروجا أبان فيه بلسان حاله ومقاله أنه إمام كل مترف، جيناته وخلايا بدنه قد خالطها واختلط بها من أنسجة الشيطان ما جعله مسخا في صورة بشرية، قد قطع كل أواصر الود بينه وبين قومه، وقد تنكر وأنكر وكفر وجحد بكل قيم الإيمان، وأعلن بلسان حاله ومقاله أن سيره على الأرض سير المعتز بذاته المعظم لما عنده من نعم، والمتعاظم بها في حالة من الكفر والفسوق والعصيان، جمعها الوصف القرآني المبين في قوله تعالى: «إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم».
وأمام ذلك الخروج الكبير لقارون ترمقه وتنظر إليه عيون قومه من مؤمنين بمختلف طبقاتهم المادية، منهم طبقات من البسطاء فيما يملكون وما يمتلكون من متاع الدنيا، والبسطاء في فهمهم للحياة الدنيا، ومنهم ضعيف اليقين بدار البقاء ودار الخلود... فكان خروج قارون فتنة لا تقل أبدا عن فتنة خروج شقيقيه فرعون وهامان، نعم خروجهما خروجا مسلحا بقوة في ذلك العصر كانت قوة كبيرة عسكريا، فإن خروج قارون أقبح وأشد وأكبر فتنة؛ لأنه منهم في انتمائه القومي والجغرافي وانتمائه السابق نسبا ومنهاجا؛ لكنه انسلخ، وسبب خروج فرعون وهامان خوفا أثناء هجرة أولئك القوم حتى قالوا لسيدنا موسى: «إنا لمدركون»، خافوا على أنفسهم وأهلهم وأولادهم.
خروج فرعون وهامان هدد الوجود البشري للمهاجرين. أما خروج قارون بتلك الزينة فإنه تهديد لإيمانهم، تهديد لمستقبلهم عند الله، تهديد كبير وفتنة تجعلهم أقرب إلى الكفر، وإلى الإعجاب به والحرص على رضاه، فما قصد قارون من ذلك الخروج إلا أن يقول للمؤمنين: من اتبعني أخذ من زينتي، ومن دار حول موكبي له من فتات ما معي. وخرج معه حملة مفاتيح خزائنه، خروجا ممنهجا أشد فتنة من فتنة فرعون. وأثناء ما هو يسير في تلك الزينة، وحول الموكب صفوف وصفوف ينظرون وقلوبهم في فتنة، إذا بالعقاب ينزل، خسف الله بقارون ذاتاً ومالاً، فخسف به وبداره الأرض. وهنا أمامنا دروس وعبر كبيرة نتناولها بعون الله في حلقات قادمة.