غازي المفلحي/ لا ميديا -
في الأخبار، كثيراً ما تقترن أسماء لاعبي كرة القدم المحترفين بالرواتب العملاقة، وصفقات الانتقال الباهظة، وسباق الأندية الكبرى والشركات لتقديم ملايين الدولارات لأولئك اللاعبين.
وفي منظور محبي كرة القدم فإن حياة هؤلاء اللاعبين المهنية والشخصية نعيم خرافي؛ لكن الكثيرين لا يعلمون أن العنصرية المستمرة في كرة القدم دمرت حياة كثير من النجوم العالميين، خاصة الأفارقة، بل ودمرت المسيرة المهنية لبعضهم.

قرن من انتصارات العنصرية
عام 1925 كان يمكن أن يكون جاك ليزلي أول لاعب أسود في منتخب إنجلترا، بعد أن تم ترشيحه من قبل ناديه، نادي بليموث أرغيل.
كان ليزلي معروفا بهجماته العظيمة من جهة اليسار، وكان أيضا لاعبا متميزا في أي مركز.
في ذلك العام، رشح مدرب نادي بليموث أرغيل، بوب جاك، نجمهُ ليزلي ليلعب في المنتخب الإنجليزي أمام أيرلندا.
تقول زوجته (لافينيا)، التي تروي القصة، إن المدرب أرسل رسالة إلى إدارة منتخب إنجلترا قائلا: “لدي لاعب مبهر هنا، يجب أن يلعب لإنجلترا”.
وتتابع: “ثم جاء شخص إلى النادي ليراه. فلم يكن المسؤولون يراقبون لعبه، بل كانوا ينظرون إلى لون بشرته. ولهذا السبب حُرم من فرصة اللعب لبلده”.
وأشار ليزلي إلى ذلك قائلا إنهم عندما اكتشفوا أنه أسود رفضوا أن ينظم إلى المنتخب.
بعدها انتهى مشوار ليزلي الكروي، عندما طار رباط من جلد كرة في عينه وأصابها؛ ليعود إلى مهنته كصانع غلايات ماء.
وبعد تقاعده، في السبعينيات، وعندما تراجعت العنصرية الإنجليزية في كرة القدم، كما أشيع، طلبت منه زوجته أن يذهب إلى نادي ويستهام ويسألهم عن عمل له؛ كونه نجما سابقا.
هناك التقى بمدرب النادي، رون غرينوود، الذي تذكره باعتباره لاعبا كبيراً.
لكن ليزلي لم يحصل على عمل يليق بنجم بحجمه، وعرض عليه غرينوود وظيفة في غرفة الأحذية، حيث كان يمسح الطين عن أحذية لاعبي كرة القدم في إنجلترا.
من حينها ومسؤولو كرة القدم الغربية يدّعون الحرب على العنصرية.
لكن حتى اليوم ما تزال العنصرية حية تسعى في عالم كرة القدم، وخاصة الأوروبية؛ عنصرية من المشجعين، ومن المنافسين، ومن الزملاء، ومن الحكام، ومن الاتحادات المحلية، ومن الإعلام، وفي كل حقل خاص بكرة القدم.

اللاعب رقم 13
لوكاكو، إيتو، عثمان دمبلي، رحيم ستيرلينع، بالوتيللي، كوليبالي، فرانك كيسييه، كريم بنزيما... وغيرهم كثير، لاعبون أفارقة وعرب ولاتينيون، من ألمع نجوم كرة القدم العالمية الذين تقتات الصحافة الرياضية الغربية والعالمية بفضل أسمائهم وأهدافهم ومستجدات حياتهم المهنية. لكن وبرغم كل ما يرتبط بالنجومية في كرة القدم من ثراء واحترام، إلا أن العنصرية جعلت كثيرا منهم يرى كرة القدم كالكابوس.
صار البعض منهم يخاف النزول إلى أرضية الملعب وتزداد معاناته إن لعب بشكل جيد أو أحرز هدفا.
اللاعب الايطالي ماريو بالوتيللي أحد أكبر ضحايا العنصرية، حيث سببت له صراعات نفسية، وصراعات مع الزملاء وصراعات مع إدارة الأندية، ما انتهى بإفساد المسيرة المهنية للاعب.
كثيرا ما تعرض بالوتيللي للهتافات العنصرية في الملاعب الإيطالية والإنجليزية، أشهرها عندما تعرّض لهتافات عنصرية خلال إحدى مباريات الدوري، والتي جمعت بريشيا مع نادي هيلاس فيرونا عام 2019، حيث كانت الجماهير تقلد صوت القرود كلما وصلت إليه الكرة، وكانت ردّة فعل مهاجم نادي ليفربول ومانشستر سيتي وميلان وإنتر السابق أن غضب وركل الكرة نحو جماهير الخصم، وحاول الانسحاب من المباراة التي توقّفت لعدّة دقائق، ولكنه عاد بعد إلحاح زملائه.
كما تعرّض لهتافات عنصرية قبلها، عندما كان لا يزال لاعباً في صفوف إيه سي ميلان، عام 2014، وذلك حينما أخرجته الهتافات العنصرية عن تركيزه، الأمر الذي دفع المدرب لاستبداله، وما إن خرج بالوتيللي حتى دخل في نوبة بكاء شديد، في مشهد مؤلم لا يغيب من ذاكرة عشّاق كرة القدم لقسوته.
ثم تعرض بالوتيللي لعنصرية مباشرة من رئيس ناديه ماسيمو تشيللينو، الذي قال: “بالوتيللي أسود، وهو يحاول تنظيف نفسه، وحلّ مشاكله”، ثم عاد النادي وحاول أن يبرّر كلام الرئيس، ثم غادر بالوتيللي النادي.
أندية الدوري الإيطالي اعترفت بمشكلة العنصرية المتفشية وأصدرت بياناً مشتركاً، مفاده “الاعتراف بوجود مشكلة العنصرية فعلاً في إيطاليا”. وجاء في البيان أيضاً: “إنها مشكلة لم نحاربها بالشكل الكافي على مرّ السنين، إنه عار علينا جميعاً”.
عام 2015 صرّح مدافع منتخب فرنسا السابق ليليان تورام أن ملاعب أوروبا وبينها فرنسا تعاني من العنصرية بشكل واضح، وهو ما يصعّب مهمة وحياة اللاعبين ذوي الأصول الأفريقية.

عنصرية الوعي 
اليوم يتم الحديث عن لاعبي كرة القدم ذوي البشرة البيضاء والسمراء بشكل مختلف داخل الاستوديوهات.
ويتم الإشادة باللاعبين السمر بزعم براعتهم البدنية وسماتهم الجسدية وأدائهم الطبيعي السلس، والإشادة باللاعبين البيض بزعم ذكائهم وشخصياتهم.
هذه التعليقات من مذيعي ومحللي البرامج الرياضية -حسب كثير من الدراسات- تكشف ما تنطوي عليه النظرة المبنية على التمييز بين اللاعبين بناءً على لون بشرتهم، سواء عن قصد أم بغير قصد، فهو يسهم في تفشي العنصرية في مجتمع كرة القدم؛ إذ إن التحليل جاء بوصف اللاعبين ذوي البشرة السمراء بأنهم ماهرون بطبيعتهم في الأنشطة البدنية التي تجعلهم رياضيين بالفطرة، أقوياء ويمكنهم الركض بسرعة والقفز عالياً، عوضاً عن مقدرتهم على تأدية المهمات المعرفية. وهذا يعيدنا إلى حقبة تجارة الرقيق، حين كان سعر العبيد يحدد على أساس مقدرتهم على تحمل المهمات البدنية الشاقة.
هذه النظرة الرياضية مبنية على نظريات غربية تصب في أن العرق الأبيض هم الأكثر تطوراً من حيث الفكر والأخلاق والشخصية، وعلى هذا النحو لم يتطلبوا براعة جسدية، وكان ذوو البشرة السمراء يعدون أقل تطوراً وأكثر عنفاً بطبيعتهم، وكسولين، ومحدودين فكرياً ويفتقرون إلى السمات الشخصية، لذلك تطورت قدراتهم البدنية أكثر من الأشخاص البيض.

قوانين لا تنفع
منذ السبعينيات، شُرّعت العديد من القوانين لتجريم العنصرية في كرة القدم.
لكن، اليوم تتم إهانة لاعبي كرة القدم بسبب لون البشرة أو بسبب العرق أو الدين، دون أن تكون القوانين رادعة. واتّحادات الدوريات الأوروبية التي تظهر في ملاعبها هذه الهتافات والإساءات العنصرية، تقوم بإجراءات لا تأثير لها؛ حيث يقتصر الأمر على بعض الغرامات المالية، التي بإمكان أيّ نادٍ أوروبي دفعها بسهولة، وحرمان الجماهير من حضور عدد معين من المباريات في أقسى الحالات، وبالتالي تمديد أزمة العنصرية.
ويبدو أن كرة القدم تكشف عن جزء فقط من العنصرية الغربية العامة؛ فإذا كانت العنصرية تمارس في هذه المجتمعات دون قوانين تجرمها بشكل حقيقي، ويقتصر الأمر على الشجب والإدانة، فليس من المتوقع بالتأكيد أن تكون ملاعب كرة القدم أكثر مثالية.
وربما يبدو هذا جلياً في قصة لاعبة نادي تشيلسي الإنكليزي السابقة ولاعبة يوفنتوس الحالية، الإنكليزية إيني ألوكو، التي تعرضت للعنصرية؛ ولكن ليس في الملعب بل في المطار، حيث قالت: “لقد تعاملوا معي في المطار وكأنني تاجرة مخدرات”.
وذكرت منظمة “كيك أوت”، المختصة في مكافحة العنصرية، أنه توجد زيادة 43% في حوادث العنصرية المبلغ عنها في الموسم 2018/ 2019، وأتت الزيادة بصورة حادة في حوادث التمييز القائم على العقيدة، بما في ذلك كراهية الإسلام ومعاداة السامية، التي ارتفعت بنسبة 75٪ خلال الموسم.

عنصرية الحكام
عام 2020 انسحب نادي باشاك شهير التركي في الدقيقة 16 من مباراته أمام النادي الفرنسي باريس سان جرمان، ضمن الجولة الأخيرة من منافسات المجموعة الثامنة بدوري أبطال أوروبا، بعد توجيه حكم المباراة الرابع سباستيان كولتيسكو عبارات عنصرية إلى أحد أعضاء الطاقم الفني للفريق التركي.
واتهم مساعد مدرب فريق باشاك شهير (نجم منتخب الكاميرون السابق) الحكم الرابع بتوجيه عبارة عنصرية إليه عقب شهره البطاقة الحمراء في وجهه قائلا له: “زنجي”!

ألم العنصرية أكبر من دوري أبطال أوروبا 
عام 2019 هدد الهولندي الدولي جورجينيو فينالدوم (29 عاماً)، لاعب نادي ليفربول الإنجليزي، في مقابلة مع محطة (CNN) بأنه سيغادر الملعب حال تعرَّض للعنصرية حتى لو كان في نهائي دوري الأبطال أو بطولة أوروبا 2020، مضيفاً: “لماذا يتعين على المرء أن يواصل في هذه الحالة؟! إذا واصلت اللعب فلن يتوقف هذا الأمر أبداً”.
وأقر اللاعب أسمر البشرة، الذي تعود جذوره إلى جمهورية سوينام في أمريكا اللاتينية، بأن الحوادث العنصرية في الملاعب الأوروبية خلال الفترة الأخيرة أثرت عليه بشدة.

حوادث عنصرية مشهورة 
تسرب مقطع فيديو للمدرب الإسباني الراحل لويس أراجونيس عام 2005 وهو يقول لخوسيه أنتونيو رييس، لاعب آرسنال في تلك الفترة: “ابذل مزيداً من الجهد والعرق. اثبت أنك أفضل من ذلك الأسود تيري هنري”.
عام 2005 في مباراة بين ميسينا انتر ميلان، قرر اللاعب زورو الانسحاب من الملعب بسبب هتافات الجماهير العنصرية ضده بتقليد صوت القرود. يومها رجاه لاعب الانتر أدريانو حتى أقنعه بالعودة.
عام 2006 تعرض نجم برشلونة السابق صامويل ايتو لهتافات عنصرية من جماهير ريال سرقسطة، فقرر مغادرة الملعب، لولا تدخل مدربه ريكارد وزملائه الذين أقنعوه بالاستمرار.
في عام 2007 كان اللاعب المصري السابق محمد حسام (ميدو) يلعب لفريق ميدلزبره ضد فريق نيوكاسل، في الدوري الإنجليزي وقامت جماعة من الجمهور بالهتاف ضده وطالبته بأن يرحل هو وكل المسلمين من أوروبا، ووصفته بـ”الإرهابي” الذي يحمل قنبلة. “ميدو” أكمل اللقاء ووصف ما فعلوه بالسخيف.
عام 2011 تعرض اللاعب المغربي كامل شافني لكلمات عنصرية من قبل حكم راية مباراة فريقه أوكسير ضد بريست، حيث حاول اللاعب الاعتراض على خطأ لصالح فريقه، فقال له الحكم: “اغرب عن وجهي يا عربي”. يومها انتفض كمال فتعرض للطرد نتيجة ذلك.
اعترف المدرب الفرنسي لوران بلان بعد أمم أوروبا 2012 بأن ضغوطاً مورست عليه لتقليص عدد اللاعبين من أصول غير فرنسية. وأشارت تقارير صحفية فرنسية إلى وجود نظام محاصصة في المسألة، وهو ما برر استبعاد اللاعبين من أصول عربية وأمازيغية في مونديال 2010.
وفي عام 2012 قام أحد مشجعي تشيلسي بحركة مسيئة تجاه لاعب مانشستر يونايتد داني ويلبيك. يومها انتشرت صورته وهو يحاول تقليد القرود، واعتقلته الشرطة ثم أعلنت إسقاط قضية العنصرية ضده.
عام 2013 غادر لاعب ميلان آنذاك كيفن بواتينج الملعب بسبب الهتافات العنصرية في مباراة ودية ضد فريق برو باتريا. الغريب في الأمر أن بلاتر انتقد مغادرته الملعب.
عام 2014 في مباراة فياريال وبرشلونة، كان اللاعب البرازيلي داني ألفيش يستعد لتنفيذ ركلة زاوية، فقذفه أحد أنصار فياريال بموزة، في تصرف معتاد في الملاعب الأوروبية كدلالة على وصف اللاعب بالقرد.
وفي الوقت الذي عبّر فيه بعض الحاضرين عن غضبهم، قام ألفيش بتصرف قوي مفاجئ للجميع، إذ قشر الموزة وأكلها ثمّ نفّذ الركلة الركنية، كما لو لم يحدث شيء.
ثم نشر اللاعب اللقطة على صفحته على “انستغرام” وأرفقها بتعليق ساخر، قال فيه: “لطالما قال لي والدي إنه يتعين عليّ أن آكل قطعة موز إذا كنت أرغب في عدم التعرض لتشنج عضلي. هل تنبهتم؟ نحن أقوى من هذا”.
وفي عام 2018 ألقت جماهير توتنهام الموز على بيير أوباميانج، مع حادثة عنصرية أخرى تعرض لها رحيم ستيرلينج في مباراة تشيلسي.