موقع «(ذا نيو أرب)» البريطاني
ترجمة خاصة لـ«لا»: زينب صلاح الدين / لا ميديا -
في العمق
احتلت بريطانيا عدن وكانت مستعمرتها الرسمية العربية الوحيدة لأكثر من مائة عام. ومؤخراً، دفع موت الملكة بعدد من اليمنيين نحو إعادة النظر في هذا الإرث الاستعماري، حيث لا يزال البلد يشهد انقسامات داخلية ناتجة عن الحكم الإمبريالي.
استولت الإمبريالية البريطانية في القرن التاسع عشر على عدد من مناطق العالم الأوسع، وكان جنوب اليمن يمثل مستعمرة بريطانية استراتيجية لمدة 129 سنة.
سيطر البريطانيون على عدن في العام 1839، وقضوا على المقاومة المحلية الشرسة في ذلك الوقت. إن الموقع الاستراتيجي وموانئ المدينة أثارت رغبة بريطانيا في السيطرة عليها.
وفي الوقت الذي كانت فيه البؤر الاستيطانية الأخرى لبريطانيا في الشرق الأوسط، كتلك الواقعة في مصر وفلسطين أو الخليج، عبارة عن انتداب أو محميات؛ كانت عدن هي المنطقة العربية الوحيدة في كونها مستعمرة محكومة مباشرة من قبل الأمير البريطاني.
كانت زيارة الملكة إليزابيث الثانية لعدن تعد أحد الأحداث البارزة طوال فترة احتلال بريطانيا لجنوب اليمن. زارت الملكة -التي توفيت في 8 أيلول/ سبتمبر عن عمر ناهز 96- المدينة الساحلية في نيسان/ أبريل 1954.
«ظل جنوب اليمن يمثل مستعمرة بريطانية استراتيجية خلال 129 عاماً». توافد آلاف الناس لرؤيتها حينذاك، وهي لحظة مهمة في تاريخ الإمبراطورية البريطانية في اليمن.
بعد تسعة أعوام من زيارة الملكة للمدينة، اندلعت ثورة ضد البريطانيين في تشرين الأول/ أكتوبر 1963. كانت نقطة تحول في جنوب اليمن زرعت بذور الاستقلال، وأخيراً مهدت الطريق للتحرر من الحكم البريطاني في العام 1967.
بالنسبة لهؤلاء المقاتلين الجنوبيين الذين ناضلوا من أجل حكمهم الذاتي المستقل، كانت تلك لحظة فخر ونصر عظيم. مع ذلك شهد جنوب اليمن عددا من الحروب، ولم يتحقق الاستقرار على المدى الطويل منذ إعلان الاستقلال.
وفي الحقيقة يرى بعض اليمنيين أن الآلام قد فاقت المكاسب التي تحققت على مدى العقود الخمسة الماضية.
فترة ما بعد الاستقلال شهدت تقلبات لا حصر لها في جنوب اليمن.
كان إعلان الاستقلال عن البريطانيين هو المكسب الأول للمقاومين الجنوبيين. في تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 أعلن قادة الثوار الاسم الرسمي للبلد: «جمهورية جنوب اليمن الشعبية»، وشكلوا حكومتهم الأولى.
شكل هذا الحدث نجاحاً بارزا للشعب والقادة الذين خططوا ونسقوا وقادوا الكفاح.
لكن بعد الانتهاء من قتال البريطانيين استمر العراك الداخلي بين الحركات السياسية. وكانت الانقلابات والفوضى والعنف هي سمة العقود التي تلت الاستقلال، مع معركة على السلطة هي السبب الجذري لعدم الاستقرار.
كانت الأزمة في عام 1986 المعروفة بالحرب الأهلية في جنوب اليمن أو بأحداث 1986 واحدة من المعارك الدموية في الجنوب، وخلفت آلاف القتلى وأجبرت عشرات الآلاف على النزوح.
وبينما استمرت الاضطرابات في عدن والمحافظات الجنوبية، بدأت القيادة الجنوبية، ممثلة بعلي سالم البيض، الذي كان رئيساً آنذاك، بالتفاوض مع قادة شمال اليمن بشأن الوحدة.
كان الشمال تحت قيادة الرئيس الراحل علي عبد الله صالح. وافق كلا القائدين على تشكيل دولة واحدة في أيار/ مايو 1990، وهي التي ما تزال إلى الآن معترفا بها اليوم باسم «الجمهورية اليمنية». وبذلك أصبح صالح رئيساً لليمن الاتحادي والبيض نائباً له.
بعد ثلاث سنوات من توحيد اليمن برزت الخلافات حول تقاسم السلطة بين القادة الشماليين والجنوبيين. في 1994 وقعت حرب أهلية شرسة بين شطري البلد.
اجتاحت القوات الشمالية كل مناطق الجنوب وقضت على خصومها بعد شهرين من قتالهم. كان ذلك أشد انتكاسات جنوب اليمن مرارةً منذ انتهاء الحكم البريطاني. كان ينظر لهذا الاستيلاء على أنه شكل آخر من أشكال الاستعمار بالنسبة للجنوبيين الذين رفضوا الاتحاد مع الشمال.
«لا يزال الانفصاليون الجنوبيون يعتقدون أنه مثلما حصلوا على الاستقلال من البريطانيين قبل أكثر من خمسة عقود ماضية سيحصلون أيضاً على الاستقلال من شمال اليمن».
بعد انهزام الجنوب في 1994 بقيت الأصوات الانفصالية صامتة لسنوات. في 2007 ظهرت أولى الخطوات الجريئة عندما بدأ الحراك الجنوبي بالدعوة إلى الانفصال عن الشمال.
كان الرئيس الراحل صالح يحافظ على الوحدة من خلال القوة والدبلوماسية. وكان منفتحاً على الاستماع إلى مطالب الأصوات الجنوبية؛ إلا أنه كان يعتبر التفاوض في وحدة البلد أمراً مرفوضاً وخطاً أحمراً.
عندما اندلعت في العام 2011 الانتفاضة الشعبية في صنعاء ومدن يمنية أخرى فشل النظام في قمعها. وهز الاضطراب السياسي كيان البلد، الأمر الذي أرغم صالح على تسليم السلطة لنائبه الجنوبي الرئيس عبد ربه منصور هادي بموجب مبادرة سياسية رعاها الخليجيون.
تلا اهتزاز السلطة اضطرابات وتقلبات عدة، وبلغت الفوضى ذروتها في 2015 عندما أطاحت الجماعة المدعومة من إيران بالحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة.
خدمت هذه التطورات عن غير قصد أهداف الأجندة الجنوبية الانفصالية. ففي الوقت الذي أحكم فيه الحوثيون قبضتهم على الشمال منذ 2015، عمق الانفصاليون هيمنتهم على الجنوب بشكل كبير بفضل دعم الإمارات.
في 2017 أنشأ قادة الجنوب الانفصاليون المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو هيئة سياسية وعسكرية تستخدم الدبلوماسية والقوة لانتزاع السيطرة على جنوب اليمن واستعادة استقلاله. حتى الآن كان تقدم المجلس الانتقالي الجنوبي كبيراً، ولم تعد سيطرته الكاملة على الجنوب أمرا بعيد المنال.
عندما جاءت أخبار وفاة الملكة إليزابيث الثانية أعرب قادة الانفصاليين الجنوبيين عن تعازيهم الصادقة وعن استعدادهم للعمل مع ملك بريطانيا الجديد.
نعى عيدروس الزبيدي، مؤسس ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، رحيل الملكة قائلاً: «باسمي وباسم شعب الجنوب أتقدم بأحر التعازي بوفاة أيقونة السلام وملكة الإنسانية الملكة إليزابيث الثانية».
وأضاف: «نؤكد تحمسنا لإرساء العلاقات التاريخية المتميزة التي تربط شعبنا في الجنوب بالمملكة المتحدة الصديقة واستعدادنا للعمل مع الملك تشارلز للحفاظ على هذه العلاقات المميزة بين بلدينا وشعبينا الصديقين».
في آذار/ مارس 2019 زار الزبيدي لندن للمرة الأولى ودخل مجلس العموم. وفي تصريح له في لندن قال: «لبريطانيا تأثير إيجابي على شعب الجنوب. بالنظر إلى الشراكة القديمة والوجود البريطاني السابق، نريد أن تكون أول زيارة هي إلى بريطانيا التي كانت شريكاً قديماً والشعب الجنوبي له إرث عظيم معها».
وخلاصة مثل هذا التصريح هي القول بأن بريطانيا لم تكن محتلاً بل شريكاً. وبدلاً من ذلك أشار الزبيدي إلى الوحدة مع شمال اليمن كاحتلال.
وكما هو الحال بالنسبة لقادة الانفصاليين أظهر بعض المدنيين الود تجاه البريطانيين بعد خمسة عقود من الاستقلال. يسترجع عبد الله خليل، الذي يبلغ من العمر 82 عاماً وهو مقيم في عدن، حقبة الحكم البريطاني ويوم وصول الملكة إليزابيث الثانية إلى عدن. وقال: «لقد كان يوماً تاريخياً مازلت أذكر مدى تحمسي في ذلك اليوم بسبب الحياة الرائعة التي كنا نعيشها في ذلك الوقت».
قال خليل: «يا وليتاه! لقد شهدت عدن بعد تلك الفترة اقتتالات واغتيالات وهجمات إرهابية في السنوات الأخيرة. لقد كانت عدن مدينة عالمية أثناء الاحتلال البريطاني(...). عدن التي زارتها الملكة إليزابيث في 1954 مع الأسف لا وجود لها الآن».
لم يجد العديد من الجنوبيين مثل خليل أي حرج في الثناء على الاحتلال البريطاني لعدن الذي استمر أكثر من قرن.
في الجهة المقابلة يشكك آخرون في هذه الرواية. قال سالم اليمني، معلم في المحافظة الجنوبية أبين: «إن فكرة وجود شوارع جميلة وخدمات لا يعني أنهم طيبون. ففي نهاية المطاف هم محتلون عملوا لمصلحتهم الخاصة في المقام الأول وكانت عدن تشهد أزمة سياسية في ذلك الوقت».
وأضاف: «إن الوضع الحالي المرير لا يعني بالضرورة أننا نريد عودتهم(...). هذه مشكلتنا وسوف يتم حلها فقط إذا توقفت القوى الأجنبية عن التدخل في شؤوننا».
وقال محمد قاسم نعمان، الناشط ضد الحكم البريطاني خلال الستينيات ورئيس المركز اليمني لدراسات حقوق الإنسان، إن أي حنين لعودة الاستعمار كان في غير محله.
وقال الرجل البالغ من العمر 72 عاماً: «إن هؤلاء الذين يمجدون الفترة التي كان فيها البريطانيون في عدن هم إما صغار أو غير واعين لما كان يحدث في عدن في الجنوب، أو هم من كبار السن الذين فقط يقارنون حقبة الاستعمار البريطاني بالواقع الذي نعيشه الآن والمتعب للغاية لهم». لم تعد المملكة المتحدة اليوم محتلة لليمن. مع ذلك لا يزال أعداء اليمن يعقدون آمالهم على دورها في المساعدة على إنهاء الحرب الأهلية الكارثية التي خلقت ما تسميه الأمم المتحدة بأسوأ مأساة إنسانية في العالم.

* الكاتب هو صحفي يمني يراسل من اليمن، تم إخفاء هويته لأسباب أمنية.
19 أيلول/ سبتمبر 2022