صلاح الدكاك / لا ميديا -

لعلعة نيران الاشتباك تقترب رويداً رويداً من تراب الدريهمي المحاصرة... إنه الـ10 من أيلول/ سبتمبر 2020.
طوال أكثر من عامين كانت الاشتباكات معزوفة شبه يومية ينتظم إيقاعها الحياة في المدينة الصغيرة المحاصرة، لكن للاشتباك هذه المرة مذاقاً مختلفاً يستشعر المجاهدون في هبوبه أنسام الحرية والفتح المبين.
أصوات البنادق تجاوزت برزخ الكثبان والنخيل الذي يمثل تماس النار. الثلة الواقعة في نطاق الحصار من مجاهدينا يترقبون بحذر ويقظة شديدين ما سيسفر عنه التحام البنادق من حصاد، منزرعين في تخوم المدينة على الطرف المحاذي للمعركة، ودورياتهم الفردية تمشط الأطراف الأخرى منها.

أخيراً خفتت لعلعات العيارات النارية وانقشع دخان وغبار الاشتباك عن وجوه طلائع الفتح المبين.
و... اندفع أحد المجاهدين المحاصَرين راكضاً نحوهم مستبشراً وهو يصرخ بالشعار (لم يتبين القادمون صوته بفعل المسافة). وفي غضون ثوانٍ سقط على الأرض مصاباً بطلقة نارية في ساقه اليمنى، ووجد نفسه محاطاً ببنادق يدعوه أصحابها لتسليم نفسه... كان قد تأكد تماماً أن القادمين من وراء أسوار الحصار هم مجاهدون يحملون له ولرفاقه صك الخلاص من أطول حصار شهده تاريخ الحروب في أضيق نطاق جغرافي لا يتجاوز الكيلومتر المربع.
قال المجاهد لهم ممازحاً والدم ينزف من ساقه اليمنى، وابتسامة البِشر لم تفارق وجهه: «أخطأتني بنادق المرتزقة لأكثر من عامين، لتصيبني رصاصاتكم يا مؤمنين».. وحسمت الضحكات لبساً كاد يودي بحياة ليث من 100 ليث خرجوا من أشداق الموت بعد أن سطروا مع مجموعة مماثلة استشهد ليوثها تباعاً، واحدة من أندر ملاحم الحروب: ملحمة الدريهمي.

شيفرة الدريهمي
في الأول من أيلول/ سبتمبر 2018، وقعت وحدة من مجاهدينا (200 فرد) في الحصار عقب تصديها المتقدم لزحف قوامه الآلاف من مرتزقة العدوان على مركز مديرية الدريهمي الساحلية (18 كيلومتراً جنوب مدينة الحديدة الواقعة على البحر الأحمر، 226 كيلومتراً غرب العاصمة صنعاء). وطيلة عامين وشهر ظلت الوحدة المحاصرة تقاوم، ولم يتمكن عديد تحالف العدوان وعتاده وطائراته وبوارجه من كسر صمودها واجتياح مدينة الدريهمي. 
يروي المجاهد هاشم المحاقري، أحد ليوث الملحمة الأسطورية، لـ«لا» تفاصيل ومجريات لاتزال محاصرة إعلامياً عن حصار طوى أبطالنا فصله الأخير بالفتح المبين، وعن بطولة لا يطويها توالي القرون، ولن يطويها. 
كيف حافظ المجاهدون على سرية القوام العددي الواقع في الحصار لأكثر من عامين، فلم ترشح للعدو عنه معلومة واحدة؟!
كيف تخندق هذا القوام العددي الضئيل على جغرافيا الحصار الضيقة، فأبلى بلاءً مهولاً جعل من الدريهمي مثلث برمودا من نار تلتهم زحوفات العدو وتستنزف عديده وعتاده؟
كيف واجه المجاهدون معضلة انعدام الغذاء والدواء والذخيرة والسلاح الكافي والكوادر الطبية طيلة فترة الحصار؟ 
كيف عالجوا جرحاهم وشيعوا شهداءهم واحتفلوا بالأعياد والمناسبات الدينية والوطنية وزفوا بعض رفاقهم؟
ما تقييمهم للأحداث والمتغيرات التي دارت خارج نطاق الحصار (اتفاق ستوكهولم، عمليات نصر من الله والبنيان المرصوص، وأمكن منهم وأحبط أعمالهم)؟
بماذا خاطب سيد الثورة أرجل الرجال...؟ ماذا قال في رسائله لهم فأبكاهم غبطة وشحذ عزائمهم وربط على قلوبهم وثبت أقدامهم وصنع معهم ملحمة الصمود وقادهم إلى نصر استثنائي ارتجفت له صفيحة الساحل الغربي بقوة تحت أقدام العدو وأربابه في الخليج والغرب، وأطاح بحسابات تحالف العدوان الأمريكي دفعة واحدة، وانفسحت معه آفاق مواتية لتحرير كامل البر والبحر؟
كل ذلك وغيره وأكثر منه أمكن لـ«لا» أن تمتلك مفاتيح الإجابة عليه كأول وسيلة إعلام تفك شيفرة الدريهمي، وتسردها في حدود تظهير صورة الملحمة لعيون القارئ، وبما يبقي عليها ملتبسةً ملغزة ومحيرة لأجل غير مسمى في عيون العدو.

طبوغرافيا المكان
بضع مئات من مستضعفي الدريهمي ممن لا يستطيعون في الأرض ضرباً، و200 مجاهد من مجاهدي جيشنا اليمني ولجاننا الشعبية البطلة، و3 أسرى من مرتزقة العدو، هم العديد البشري الحي الذين ضرب عليهم تحالف العدوان الأمريكي في الأول من أيلول/ سبتمبر 2018، طوق الحصار المحكم والطويل.
مخزون حوانيت المدينة «شبه الريفية» ومحالها التجارية لا يؤلف رقماً وازناً في معادلة الصمود، ورغم توافر آبار المياه في المدينة، إلا أن حظ المحاصرين منها كان بئراً واحدة زحفت عليها ملوحة البحر الواقع على بعد 7 كيلومترات من مركز المدينة، مكتظاً ببوارج تواظب على قصف منازل الطين والقش المحاصرة على مدار الساعة، متآزرة مع مروحيات وطائرات ووسائط نيران العدوان الأخرى.
شرع المجاهدون منذ اللحظة الأولى للحصار في تمشيط طبغرافيا المكان وتهيئته عسكرياً واستخبارياً بما توافر من عتاد وعديد شحيح للصمود والمقاومة لأطول مدة زمنية ممكنة، مستبعدين من حساباتهم بالمطلق «هاجس الاستسلام للعدو» مهما كان الثمن.
«نحيا أعزاء أو نموت شهداء... هكذا كان إجماع المجاهدين»، يقول البطل هاشم المحاقري، ويسترسل: «لم نفكر في كم سيطول حصار العدو لنا.. كنا قد وطَّنا أنفسنا على أن صمودنا سيكون صموداً بلا سقف ولا نهاية، وكنا مستعدين كذلك لنخوضه إلى ما لانهاية..».
بنبرة وادعة كنسائم بحر تهب مع الأصيل، وصلبة وحازمة كسورة الأنفال، يسرد المحاقري لـ«لا» مجريات الملحمة، فيكهرب مسامات سامعيه مجسداً تواضع ورجولة المجاهد وإيمانه الغامر بالله في أبسط وأعمق صورة منظورة تتجلى في بطل رفع مع قلة من رفاقه رمال الدريهمي جبالاً وسقوف القش فيها سماء سابعة موصولة بسدرة المنتهى.
«إنه - أي الحصار- امتحان وتمحيص من الله لنا، ولاريب أن وراءه حكمة علينا إدراكها... فليتذكر كل منا سالف ذنوب اقترفها مهما بدت صغيرة، ولنستغفر الله عنها»، يقول المحاقري، مضيفاً: «هكذا نظرنا للأمر منذ البدء، ورحنا نسترجع شريط حياتنا راصدين بقع الذنوب التي تلطخه حتى المتناهية في الصغر منها، ضارعين بأن يغفرها الله لنا».
أهداب هاشم - خلال حديثه - لم تبرح مشرعة على البعيد تتململ تحتها عيناه بامتنان دامع يشف عن معجزة عاشها لا تتكشف إلا لندرة من الأولياء الصالحين.. معجزة خاضها في البدء كمجاهد أوقعته الذنوب تحت طائلة تجربة مريرة تستوجب الاستغفار، وخرج منها وقد رأى خوارق رحمة الله رأي العين. معجزة يستحيل تظهيرها بلغة الحياة اليومية لمجتمع يعيش مطموراً تحت غبار وركام السطحيات والتوافه في مهب قصف إعلانات السوق واختلاج هستيريا الاستهلاك.

أبو بصير في حصار ستوكهولم
كانت الأشهر الأربعة الأولى من الحصار هي الأعنف والأقسى على الإطلاق بالنسبة للمحاصرين.. الوسائط النارية للعدو تصب حممها فوق أكواخ القش وبيوت الصفيح والطين براً وبحراً وجواً، وزحوفاته على المدينة تتناوب وتزداد ضراوة، والمجاهدون يزدادون ثباتاً وصموداً ومقاومة تتكسر على فولاذ بسالتها الزحوفات تلو الزحوفات.
معظم الشهداء من المجاهدين ارتقوا خلال تلك الفترة.
أيقن المجتمع الدولي من فشل الهجومات الكبرى لتحالف العدوان عملياً على الساحل الغربي.. كان القوام البشري الأكبر الذي جَيَّشه التحالف في هجومه على مدينة الحديدة، قد وقع في ما يشبه زنازين رملية متوازية من صنع أبطالنا، هي نتاج لعمليات بطولية عرفت حينها بـ«تقطيع جسد الثعبان الضخم»، ولم تعد وحدات الوحدة على إثرها قادرة على الاتصال المرن ببعضها البعض، ولا مقدمة قواته بمؤخرتها من حيث الإمداد والتموين والإسناد، وتهاوت داخل مدينة الحديدة خلايا وشبكات طابوره الخامس تباعاً، لكن العدو واصل تماديه في استغلال تفوق أسطوله البحري والجوي.

كان المجتمع الدولي يستشعر كارثية استمرار التحالف بذات الوتيرة المتمادية من الاشتباك الجزافي والقوة المفرطة غير الحاسمة عند هذا المنعطف البحري الحساس والمضيق الأهم عالمياً، وما يجره خبط عشواء التحالف من مخاطر فادحة على ممرات الملاحة الدولية في ظل صلابة المقاومة التي يبديها رجال بحرية ومشاة الجيش واللجان وكفاءة عملياتهم النوعية الصادمة لتوقعات العدو في عمق المسرح المائي والبر المتاخم له، والتي أفضت لتدمير بضع بوارج مركزية وقيادية ضخمة، وأسر ضباط متعددي الجنسية بينهم فرنسيون.
أخفق التحالف، إذن، في اجتياح مدينة صغيرة كالدريهمي على طريق احتلال الحديدة كغاية، فثبت بالوقائع للمشاهد الدولي أنها غاية بعيدة المنال و... في أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2018 أعلن في السويد عن اتفاق تمحور حول الحديدة، وتضمنت بنوده وقف إطلاق النار على الجانبين، ولزوم كل طرف موقعه في مسرح الاشتباك «وتمهيداً لإعادة الانتشار لاحقاً». و... هكذا أصبح حصار الدريهمي أقرب إلى حصار رسمي، ولم يمنع الاتفاق تحالف العدوان من استمرار شن زحوفاته لاجتياح المدينة واستهدافها بالوسائط النارية المختلفة، في الوقت الذي لزمت الأمم المتحدة الصمت، وتلكأت في تسيير قوافل غذائية لعديد مدني محاصر يموت أفراده نساء وأطفالاً وشيوخاً كل يوم تحت طائلة التجويع الممنهج.

هدية زفاف أممية
يقول هاشم المحاقري: «كانت الأمم المتحدة ذراع العدوان الناعمة في حصار الدريهمي».. ويتابع ضاحكاً: «القوافل التي قدمتها خلال مدة الحصار هي 3 قوافل فقط، وتضمنت في معظمها مواد غذائية فاسدة ومستحضرات تجميل نسائية»... ويردف بسخرية: «كنا نزف 3 من مجاهدينا حين دخلت قافلة المستحضرات التجميلية، ولعل الأمم المتحدة اعتبرتها هدية زفاف»! 
خارج أسوار الحصار المضروب على الدريهمي، في الطرف الآخر من التخوم البعيدة نسبياً للمدينة، كانت قوات جيشنا ولجاننا الشعبية ترابط مكبلة بلزوميات الاتفاق الذي أبرمته القيادة في صنعاء، عدا هامش ضئيل يتمثل في الرد بالسلاح المناسب على مصادر نيران العدو الذي استمر في خرق بنود الهدنة واستهداف الأحياء والقرى وتسيير طائراته الحربية والتجسسية واستحداث المواقع والتحصينات وتفويج عصاباته في سلسلة من الزحوفات صوب المدينة المحاصرة بغية اجتياحها.
لم يعول أبطال جيشنا ولجاننا على دور أممي في قسر العدو على وقف زحوفاته تلك، وتركوا مهمة ذلك للسياسيين، وشرعوا يفكرون في طريقة تعزز قدرة المجاهدين المحاصرين على الصمود وإفشال هجمات العدو.
كان الاتفاق أشبه بـ«اتفاق حديدية»، استبدلت باؤه دالاً، وكان رجالنا المحصورون في زاوية مهملة خارج بنوده، أشبه بـ«جماعة أبي بصير في اتفاق الحديبية الشهير بين المسلمين ومشركي قريش». 

وكما تحول أبو بصير وجماعته إلى كابوس يقض مضاجع الإقطاع القرشي، جعل رجالنا من المدينة المحاصرة جبل بركان فوهته حبلى بحمم مفاجآت بات معها مرتزقة العدوان يفرون من الخدمة على تخوم الدريهمي فرار حمير الوحش من قسورة الشرى، بعد أن كانوا يتسابقون على العمل فيها باعتبارها نزهة غير مكلفة ومضماراً لمزاولة هواية الرماية وحفلة شواء شاطئية! 
يقول هاشم المحاقري: «لم يكف رفاقنا في الجيش واللجان عن مدنا بالذخيرة والغذاء والدواء والقات والسجائر قدر المستطاع...»... ولكن كيف أمكن لأبطالنا تمرير كل ذلك مع طوق الحصار الحصين المطبق على خناق المدينة!
الإجابة في بطن «زلزال وراصد»... فالصاروخ قصير المدى «زلزال» الذي ظل يشوي بناره جموع مرتزقة تحالف العدوان وآلياته، أضحى برداً وسلاماً على المجاهدين، وطرداً بريدياً طائراً أفرغه رجال الرجال من رأسه المتفجرة، ليحشوا جوفه بالمؤونات، ويمطروا الدريهمي بالمئات منه خلال فترة الحصار.
في حين حلقت «راصد» لتتفقد أحوال المحاصرين، حاملةً على جناح السعد مدداً يزن كيلوجراماً في كل رحلة لها- طبقاً لهاشم- خارج مهمتها كطائرة تجسسية تهتك مخازن أسرار العدو وغرفه المغلقـــــــة، وتبيحها لأدمغة وعيون ونيران رجال الرجال. 

ليلة قدر فوق الحسبان
في رمضان الفائت، وبعد مرور قرابة عام و8 أشهر على المجاهدين في الدريهمي، كانوا على موعد مع معجزة... على موعد مع ليلة قدر غامرة ومبهرة تنزلت عليهم الملائكة خلالها بمؤونة رحمة لم يدر في حسبانهم ولا حسبان العدو حدوثها بتلك الكيفية الخارقة المفارقة لكل مفاجآت الحروب المتوقعة وحسابات الأدمغة العسكرية واستنتاجاتها. كانت ليلة قدر بحق، ولكن نهاراً عندما فتح المجاهدون أعينهم على مشهد هليوكوبتر تحلق في سماء الدريهمي... كانت تطير بعلو منخفض، وراحت تنخفض أكثر فأكثر إلى أن هدرت مروحيتها الضخمة فوق رؤوسهم تماماً، مثيرة زوبعة كبيرة من الغبار و...

عملية الهليوكوبتر من ضفة أخرى 
في عددها 533 بتاريخ 13 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، انفردت صحيفة «لا» بنشر قصة خبرية عن عملية الهليوكوبتر، كأول وسيلة إعلامية تزف الخبر لجمهرة الرأي العام، وإذ حظيت القصة بالغة الإثارة بتداول واسع النطاق حينها، فإن ما سيقرأه جمهور الصحيفة هنا هو مشهد لا يقل إثارة عن مضمون القصة الصحفية المنشورة. إنه مشهد النصف الآخر منها إن صح التوصيف، الزمان: فجر الـ10 من رمضان 1441... الطقس: رذاذ مطر خفيف يغمر الأجواء على غير العادة... المكان: الدريهمي المحاصرة.
فوجئ مجاهدونا بتحليق الهليوكوبتر بمقدار ما تفاجأ مرتزقة العدوان، وإذ تعاطى معها المرتزقة للوهلات الأولى كمروحية صديقة تابعة إما للتحالف أو للأمم المتحدة، فقد تعاطى معها المجاهدون كمروحية معادية قبل أن تنخفض لمسافة قريبة من الأرض وتلقي مؤونتها.
يقول المجاهد هاشم المحاقري: «كان مشرف الوحدة العسكرية فقط يعلم بهوية الطائرة، ولم يكن على مقربة منا حين بدأت تهبط نحونا.. لذا فقد تعاملنا معها كمروحية معادية... كان ضارب الـ«آر بي جي» يصوب نحوها متحيناً مسافة مناسبة للضغط على زناد القاذف، وحين باتت على مقربة ملائمة عصفت مروحيتها في المكان، فاختل توازن المجاهد، ولم يتمكن من التسديد، فانسحب متقهقراً بما يتيح له معاودة استهدافها و... تدخلت عناية الله.
تناهت لمسامعنا غمغمات طيار المروحية الفدائي... كان يحاول إيضاح مهمته وإنهاء اللبس الحاصل، وعلى مسافة أمتار قليلة من الأرض أخذ يفرغ المؤونة دون أن يهبط منيخاً، فتأكد لنا هويته وانقشع اللبس..».
ويسترسل: «كان الطيار على عجلة من أمره، فالعدو لايزال مصدوماً على الجانب الآخر، وينبغي استغلال ذلك كزمن قياسي للمغادرة وعدم إمهاله لتلقي إجابة على استفساراته الحائرة من قيادة عمليات تحالف العدوان..».
وبفكه ساخر ومحبب يروي هاشم كيف علقت الشوالة الأخيرة من المؤونة (شوالة القات) على جسم الهليوكوبتر، 
فراحوا يركضون خلفها مستميتين ألا تنفذ بحملها من بين أيديهم، فمن الإثم التفريط في هدية كهذه ساقتها السماء إليهم في ليلة قدر حقيقية و«موثقة
بعدسة رجل الإعلام الحربي المجاهد في ذات المجموعة المحاصرة»، بحسب المحاقري.
و... بالنقيض لوجهة قدومه الممتدة جنوباً فوق غابة من قوات العدو، غادر الطيار الفدائي بالمروحية شمالاُ وانعطف نحو الشرق تاركاً المرتزقة مصعوقين بحقيقة مهمة الطائرة وهويتها بعد فوات الأوان، منهياً أجرأ عملية جوية عسكرية مخابراتية يمكن حدوثها في مسرح مدروز بعديد العدو ومكشوف كلياً لأسلحته ولعينه المجردة -عوضاً عن راداراته- براً وبحراً وجواً على بعد أقل من 7 كيلومترات من سواحل تربض عليها بوارج العدو كالبلهاء ولا تجيد سوى قتل أطفال ونساء وصيادي تهامة الحرة، والتهام مدن وقرى القش الغافية على بؤسها وسط مخالب الحصار الإمبريالي الأشرس في التاريخ!

سيد الثورة في الدريهمي
«سلام الله عليكم يا أشرف الرجال.. سلام الله عليكم يا أصلب الرجال... سلام الله عليكم يا أرجل الرجال المؤمنين المجاهدين الأولياء... لم ننسكم ولن ننساكم، فأنتم بأعين الله وفي حسباننا دائماً، ونحن لا نكف نعمل على خلاصكم السريع من حصار العدو... ولكن تعويلنا وتعويلكم هو في الأول والأخير يجب أن يكون على الله، وتسليمكم له وحده سبحانه وتعالى... أنتم تخوضون تجربة جهادية خصكم الله بها دون سائر إخوتكم من المجاهدين، فاجعلوا من مرارة الامتحان رباطاً للفوز الأكيد برضوان الله وعظيم أجره، ومهما طالت الضائقة فإنها إلى انفراج حتمي...».
قريباً من هذا المنوال الإيماني الغامر خاطب السيد القائد أبو جبريل رجاله، ومن هذه المسافة الحميمة قولاً وفعلاً تفقدهم وواساهم وشحذ عزائمهم في وشيجة غير مسبوقة في تاريخ علاقة القادة برجالهم خلال الحروب، لاسيما مع مجموعة تعيش ظروفاً مماثلة لظروف مجاهدينا المحاصرين... وشيجة علم الهدى المولى مع أولياء الله وأوليائه على طريق تظهير مقارعة طواغيت الاستكبار في سبيل الله والمستضعفين في الأرض.
كانت معظم رسائل سيد الثورة أبي جبريل خطية. وفي كانون الثاني/ يناير الفائت تلقى المجاهدون رسالة صوتية أطلقوا عليها بالإجماع رسالة «تصفير العداد» ، فقد جعلت الرسالة من الثلة القليلة المحاصرة براكين تتوقد حمماً ضاعفوا من غاراتهم على مواقع العدو وكبدوهم أفدح الخسائر. وعقب شهر من الرسالة الصوتية تلك هجم العدو بقوة كبيرة تألفت من 35 مدرعة مخمناً أنها القوة الكافية لاجتياح المدينة، فاصطدم بصلابة المجاهدين وتحطمت القوة المهاجمة على جدار صمودهم وانكفأت عائدةً بخزي الهزيمة.
بنبرة تشوبها حشرجة من يوشك على البكاء متمالكاً نفسه بالكاد يقول هاشم المحاقري: «كانت رسائل مولاي علم الهدى أعظم مدد حظينا به خلال فترة الحصار، فبها زاد يقيننا بأننا على طريق تمحيص لا تساورنا معه الريبة في صواب وجهتنا... إنّا مع الله ومع علم الهدى، وكيف يرتاب من كانت حاله كذلك... كانت تبكينا هذه العناية التي تفيض من رسائل السيد القائد، ونزداد عزيمةً على تجسيد استحقاقنا لها كحظوة نلناها دون كثير من إخوتنا المجاهدين...».
كان سيد الثورة، إذن، في قلب الحصار مشاطرةً للمجاهدين ضوائقه، وكان قائد طليعة الفتح المبين الذي خلع بيمنى حيدر أسوار الحصار في لحظة أذهلت العقل الجمعي العالمي لعدوان أذعن لحتفه الحتمي الوشيك في مدينة مأرب شرقاً، فصفعته يد الحتف في الساحل الغربي من حيث لم يحتسب.
يقول المحاقري: «كانت عمليات الانتصار الكبرى لمجاهدي جيشنا ولجاننا في مختلف جبهات القتال، أكبر دوياً من أن تحجبها شائعات مكبرات الصوت التي ثابر العدو على بثها في أوساطنا بغية النيل من معنوياتنا عبثاً..».
ويتابع بعينين قاسيتين على وداعتهما: «ابتكرنا الألغام من العدم بحشو علب الفاصوليا والتونة بمادة الـ«سيفور» وتجريبها والدفع بها كمدخلات ناجعة في الاشتباك مع قوات العدو.. وبها وبما توافر من سلاح شخصي نفذنا غزوات معاكسة كبدنا قوى المرتزقة خلالها خسائر مريعة وصادمة في الأرواح والعتاد، ورددنا حصيلة غنائمنا منه في نحر قواته..».
في إحدى غارات المجاهدين على موقع للعدو تمكنوا من قتل القوة المرابطة فيه لكنهم لم يعثروا على ذخيرة مجزية كغنيمة؛ فقيادة المرتزقة لا تزودهم بالذخيرة والدروع إلا قبيل شن زحف.
«شعرنا بخيبة الأمل لحظتها» يقول هاشم، ويستطرد: «لكن القدر كان يخبئ لنا غنيمة يسيرة وجزيلة، فقد دفع نسق إمداد المرتزقة بمدرعة مليئة بالذخيرة والعتاد إلى الموقع المستهدف، ظناً منه أن الموقع لايزال بيد قواته، وهكذا وقعت المدرعة بحمولتها في أيدينا بعد أن أعطبها أحد المجاهدين بقذيفة (آر بي جي)..»..
كان المجاهدون يتواصلون مع عائلاتهم خلال فترة الحصار بنفسيات زاخرة بالمعنوية والثقة، ويخبرونهم بأن عديدهم وعتادهم كافٍ للصمود بلا نهاية، وفي الأثناء كانت هذه المكالمات الهاتفية الودية مع أهاليهم تترع ذهنيات ونفسيات العدو سماً زعافاً وهو يتنصت عليها ويعجز عن تخمين ما هو الحقيقي وما هو غير الحقيقي فيها.
كانوا يساومون العدو على تمكين مدنيي الدريهمي من الخروج، وكان العدو يساومهم عبثاً على الاستسلام،مسلية ولاريب... مغامرة أوكلت إليهما المنظمة الأممية خوضها بغية ضرب زكاء مجاهدين يافعين محاصرين للعام الثالث في نطاق جغرافي بلا مباهج.. كانت ترسانة العدو الحربية قد استيأست وأقرت بعجزها أمام الفتية المؤمنين، فقرر ذراعها الأممية الناعمة الدفع بورقة «زليخا» التي لا يساوره الشك في أنها رابحة.
ذات نهار دريهمي كان المجاهدون يخلون مساراً متعرجاً من الألغام لتمكين ما قيل إنه قافلة مساعدات أممية من الدخول إلى المدينة.
رست عربات القافلة في المكان بعد طقوس عبور برزخية مرعبة، وترجلت على الفور امرأتان يافعتان وجميلتان كان مقرراً لهما -بحسب الإفادة الأممية- أن تبقيا في المدينة لأيام بغرض «مسح بيانات المحتاجين للمساعدات وطبيعتها»!
لكن تصرفات الموظفتين المغناجتين كانت تشير إلى مهمة أخرى «غير المعلن عنها».
أدرك المجاهدون بفطنة ويقظة متقدتين أنهم أمام زحف ناعم يتوجب كسره بالسلاح المناسب، فأنزلوا الموظفتين في أحد الأبنية، وتحت وابل كثيف من القصف النفسي بدأت الحسناوان تتململان بارتباك يتصاعد مع مرور الوقت وأزوف الظلام... كانت مركبات القافلة تتهيأ لمغادرة المكان و... بدأت تعبر طريقها بالاتجاه المعاكس خروجاً و... آثرت الحسناوان السلامة على الإقامة وسط عنبر الموت والأشباح... قال المجاهدون لهما بنبرة ناصح لا تخلو من خبث: «إن لم تغادرا الآن فسيكون من المستحيل أن تغادرا، لاسيما وأنتما تدركان التعقيدات التي تواجه الأمم المتحدة عندما تهم بتسيير قافلة إلى المدينة، وكم تستغرق من الزمن.. والخيار لكما... أنتما ضيفان علينا وسنفعل ما بوسعنا لئلا تلقيا حتفكما بنيران التحالف التي تمطر المكان بلا استثناء مع حلول الظلام»!
عند هذه الدرجة من القصف النفسي هرولت الموظفتان خلف المركبات الأممية، وتدعوانها عبر الهاتف المحمول لأن تتريث لتقلهما معها، فالمغامرة الموكولة إليهما بات فشلها محققاً خلال ساعات من تمشيطهما لمسرح الاشتباك الافتراضي!
...
...
..انتهت اللعبة
هاردلك «UN»
هاردلك تحالف.. 
نحن هنا وهذه مراسيم استقبال ليوث ملحمة الدريهمي في ميدان السبعين وسط عاصمة المعجزات والخوارق صنعاء، فأين أنتم؟!

تماسات
ضربت قوات العدو أسوار الحصار ما أمكنها حول الدريهمي على بعد 800 متر شمالاً وكيلومتر ونصف الكيلو جنوباً و300 متر غرباً و300 متر شرقاً.
تظهر هذه المسافات الضئيلة طبيعة الخناق المضروب على المدينة وضراوته, وبالمقابل مدى استبسال المجاهدين الذين تخندقوا على هذه التماسات شبه الصفرية بحساب مديات نيران العدو، مرابطين كجبال في الصحراء لأكثر من عامين.