غازي المفلحي / لا ميديا -

«‏الظلم الحاصل في مكان ما، يمثل تهديداً للعدل في كل مكان»، قالها مارتن لوثر كينج، أحد الرموز الأمريكية والعالمية الذين ناهضوا العنصرية ضد السود. 
ومن عهده وإلى اليوم والظلم الأمريكي لم يغادر عشرات البلدان والشعوب، خصوصاً العربية، ولم يغادر حتى أمريكا نفسها، لكنه يتوارى تارة ويظهر أخرى. 
وأمريكا تمارس الظلم بأبشع صوره، ولكن الشعب الأمريكي والشعوب الأوروبية لا يلاحظون ذلك إلا عندما يصيبهم.

العالم يختنق
«أنا أختنق ولا أستطيع التنفس»، قالها الأمريكي جورج فلويد، فثار بسبب ذلك الشارع الأمريكي وتبعته كثير من المدن الأوروبية وحتى العربية، حربا على العنصرية التي جعلت شرطياً يستهين بحياة إنسان، فقط لأنه أسود البشرة كما جرت العادة في أمريكا. لكن كلمات فلويد المؤثرة والحزينة ما كانت إلا صدى لحالة عشرات الشعوب التي خنقتها أمريكا العنصرية الاستعمارية لسنين طويلة بحروب كثيرة مباشرة وغير مباشرة، لأن أمريكا ترى تلك الشعوب أقل منها في حق العيش والحصول على حياة كريمة، خنقتهم ولازالت تخنقهم دون أن يثور لأجلهم أحد رفضا لهذا النهج اللاإنساني.
الأمثلة الحية اليوم على أكثر هذه الشعوب معاناة، هي اليمن وسوريا، اللتين تضع أمريكا ركبتها وكل ركب وأجسام عملائها فوق أعناق شعبيهما اللذين ما عادوا قادرين على التنفس، وباتوا مخنوقين بالحصار والنار حد الموت.

ركبة أمريكية على كل عنق
ليس خافيا على أحد أن أمريكا ترتكب الكثير من الجرائم بحق العالم من أجل ضمان مستقبلها فقط، بعيدا عن كل الادعاءات الإنسانية التي تدعي أنها تؤمن بها وتحميها، فهي متدخلة بشكل سيئ في كل بقعة من العالم، وتفكر في نفسها وفي مصالحها فقط، وهذا أمر واضح لا يحتاج تدقيقاً أو تقفياً، ففي كل بقعة من العالم توجد أمريكا كغازٍ ومهيمن وراعٍ لظلم بشكل أو بآخر، وهي تناقض في تصرفاتها وسلوكها كل الشعارات الإنسانية الكاذبة التي تتبناها.
وحتى إن لم ترتكب هي بعض تلك الجرائم، إلا أنها ترتكب بأيدي حلفائها وأصدقائها، وهي في أفضل حالاتها النادرة إن لم تكن مشاركة فهي تصمت أمام أية جريمة ترتكب في العالم سواء كانت ضد المبادئ الأساسية التي تدعي أنها تؤمن بها أو كانت هناك مصالح مادية ضيقة لها، بينما تهول وتضخم أي موقف أو حدث تعتبره ضد مصلحتها وإن كان متوافقا مع ما تدعيه من مبادئ وقيم حقوق الإنسان الرنانة التي تتغنى بها في كل حين وموقف.

إنسانية منقوصة 
رأى العالم أجمع الجريمة المدوية في الدولة التي تعتبر نفسها أنموذجاً للديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وكرامته وحريته. رأى العالم أمريكا وهي بالزي الرسمي تقتل مواطنها البسيط بدم بارد، أمام الكاميرات والناس، ودون الالتفات لاستغاثة المواطن والمارة بأن المواطن الأمريكي من أصول أفريقية جورج فلويد يحتضر، والذي ظلت روحه تنزع لأكثر من 7 دقائق دون أن تهتز شعرة للشرطي الحامل لهمجية متراكمة من تاريخ بلده من التمييز العنصري ضد العالم، ودون أية رحمة أو خوف على حياة ذلك المواطن. وقد عبر الناس بمختلف ألوانهم عن غضبهم لهذه الجريمة، وعبروا عن إدانتهم لها بالمظاهرات العنيفة في أمريكا ثم أوروبا وحتى في دول عربية كتونس ولبنان، وتوالت ضدها إدانات دولية.
لكن، وعلى بشاعة هذه الجريمة، إلا أن تلك الجماهير الغاضبة التي خرجت بردة فعل إنسانية كما تقول، ينقصها معظم إنسانيتها في الحقيقة كما يقول كثيرون، والذين شبهوا هذه اللعبة بانتقائية المواقف الإنسانية وبالنفاق. فهي تغض طرفها ولا تعبر عن أسف أو اعتراض فضلا عن غضب تجاه ما ترتكبه أمريكا من مظالم سوداء وجرائم بشعة في مختلف أنحاء العالم.
فإذا كانت هذه الشعوب قد غيبت عن جرائم حكومتهم المتفرقة في أنحاء العالم والمستورة والمغلفة بمبررات كثيرة، فلا بد أنهم قد سمعوا وعرفوا بالحرب الوحشية العدوانية على اليمن وسوريا. المستمرة في اليمن منذ 5 أعوام وفي سوريا منذ 9 سنوات، فهما معركتان مشتعلتان رأى نيرانهما ودخانهما ودماءهما أغلب شعوب العالم، وقد أثارتا الكثير من الجدل السياسي والإعلامي، خصوصاً في أمريكا.
ومن المعروف أن العدوان على اليمن أعلن من واشنطن، وإذا لم يعرف الشارع الأمريكي بكل ألوانه أن الحرب التي تقودها حكومتهم وتستغلها وتحرص على عدم توقفها، قد أودت بحياة أكثر من 100 ألف مدني في اليمن بين شهيد وجريح، إما بسبب القصف المباشر لطائرات العدوان ذات الصناعة الأمريكية والأوروبية والمذخرة بقنابل وصواريخ أمريكية وأوروبية الصنع، أو بسبب انعدام الأدوية بفعل الحصار المفروض على البلد، و380 شهيداً وجريحاً في سوريا مع ملايين المهجرين والمشردين، فإنهم بلا شك يعرفون أبرز المجازر في اليمن كمجزرة أطفال ضحيان والصالة الكبرى وحفلات الأعراس والأسواق وغيرها من الجرائم المروعة التي نفذت بسلاح ودعم أمريكي كامل، كما أنها جرائم حظيت بتغطية إعلامية كبيرة في الداخل الأمريكي تبناها اليسار الأمريكي وإعلامه لأهدافه الخاصة، والشعب الأمريكي والشعوب الأوروبية لا ولن ينسوا ما فعلته «داعش» المصنوعة أمريكيا والمكونة من حلفاء أمريكا التكفيريين من عرب وأجانب بحق الشعبين السوري والعراقي، فمشاهد القتل الوحشية تلك لن تمحى من ذاكرة الإنسانية قبل ألف عام من الآن.

هناك أمل 
الصحفي أحمد الكبسي يرى في هذه التظاهرات بعض الأمل، ولا يصفها بالنفاق، ويقول: في الحقيقة ليس جورج فلويد الذي قتل بعنصرية إمبريالية، هو الوحيد الذي كان يريد أن يتنفس، بل كل العالم يريد أن يتنفس بعيدا عن التدخلات الأمريكية في شؤون البلدان الداخلية وفرض سياستها الاستعمارية، وسواء قتل فلويد بدوافع عنصرية أو غير ذلك فقد وجد الأمريكيون وغيرهم من الشعوب فرصة لانتقاد النظام الأمريكي، ويتضح ذلك من خلال الشعارات التي رفعت في التظاهرات أهمها «يكفي صمتاً».
ويشير الكبسي إلى أن الاهتمام والتفاعل من قبل الشعوب الأوروبية بما يحدث من إرهاصات في المدن الأمريكية، فرصة ربما هي الأخيرة لثورة حقيقية، وللتعبير عن الرفض للسياسات العنصرية التي تمارسها الإدارة الأمريكية ليس ضد مواطنيها فحسب، بل ضد شعوب العالم الثالث وكل البلدان المناهضة للسياسات والأطماع الاستعمارية الأمريكية.
على وقع أنين ذوي الأصول الأفريقية من العنصرية والفوقية ضدهم من حكومتهم، والتي أثارها مقتل جورج فلويد، جدير بالتذكر أن رجلا أسود من أصول أفريقية قد تربع على رأس حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، فكان مثالا سيئا للعنصرية والفوقية التي قادها ضد عشرات الدول، أهمها الدول العربية، لأجل مصلحة أمريكا، ولأجل أن تعيش وتزدهر أمريكا، وليذهب العالم إلى أعمق مكان في الجحيم، ففي عهده أعلن العدوان على اليمن الذي يموت بسببه طفل يمني كل 10 دقائق جوعا، بينما أكثر من 15 مليون إنسان مهددون بالموت جوعا، كما عمل بكل قوة على إفشال أي مشروع من المؤسسات التشريعية الأمريكية لإيقاف الدعم الأمريكي العسكري للسعودية في حربها على اليمن، والتي تعد أكبر مأساة إنسانية حاليا، فضلا عن مساعدتها في شراء صمت بقية العالم. أما في سوريا فقد عمل وحلفاؤه على صنع أكبر مأساة عرفها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. كل هذا جاء من رجل ينادي اليوم بنبذ العنصرية والفوقية من أمريكا والعالم.

شراء الصمت
يعتقد الناشط اليمني عدنان الوزير أن عدم تحرك الشعوب الغربية للتضامن ورفض الظلم على الشعبين اليمني والسوري، مرتبط بعمل الاستخبارات والإعلام بشكل كبير.
فمحمد بن سلمان يقدم سنويا رشاوى بمليارات الدولارات لكل حكومات الدول المؤثرة لكي لا تعارض هي أولا أو تدفع شعبها للمعارضة أو حتى تسمح له بذلك عن طريق مؤسساتها الحقوقية والإنسانية المختلفة.
ويرى الوزير أن هناك عجزاً وتوهاناً إعلامياً من قبل الإعلام اليمني المناهض للعدوان، وأن الإمكانيات لم توظف وتستغل على الوجه الأمثل لتصل وتخترق الحجاب والغطاء المفروض على كثير من الشعوب حول العدوان على اليمن.
جريمة مقتل مواطن أمريكي واحد أثارت موجة غضب الشارع الأمريكي والأوروبي بل والعربي، بينما جرائم قتل وتشريد الملايين في اليمن وسوريا لم تحرك لهم ساكناً. إنه النفاق العالمي في التعاطي مع أحداث منتقاة دون أخرى، رغم أن مرتكب الجريمة هو نفسه نظام الإمبريالية العنصري وأدواته الرجعية في المنطقة.