طاهر علوان الزريقي/ لا ميديا -

تتجسد روعة العمل الفني في تكامل عناصره الفنية من سيناريو وإخراج وتمثيل وديكور وموسيقى تصويرية وتماسك في البناء الدرامي للموضوع، بحيث لا يكون أحد تلك العناصر إسقاطاً على عنصر آخر أو اجتراراً له، وتناسق تلك العناصر مع مراعاة الحبكة الفنية في معالجة الحدث حتى يصل إلى الذروة الدرامية المطلوبة فنياً بعيداً عن المباشرة والتسطيح والأسلوب الخطابي أو استخدام "الفلاش باك" بمناسبة أو بدون مناسبة، مما يضعف العمل الفني ويفقده عنصر التشويق وقيمته الجمالية.
مهمة الفن بمختلف أشكاله صقل الحس الجمالي لدى الإنسان، وتهذيب مشاعره بحيث يشعر بالاستعلاء على عالم الكائنات والأشياء المحيطة به، ويتمكن من تذوق العمل الفني بحس جمالي وتركيز لنوعية المشهد وجماليات اللقطات وأبعاد الحوار والتمييز بين العمل الجيد والرديء.

فراغ المحتوى والمضمون الاجتماعي

للأسف الشديد، معظم المسلسلات التي قدمت في الشهر الكريم لا تمت إلى الفن الدرامي بصلة، وليس لها علاقة بكل تلك العناصر الفنية. مسلسلات فارغة المحتوى والشكل الفني والمضمون الاجتماعي، أُعدت وفق أمزجة أشخاص لا علاقة لها بالإبداع والمعرفة الفنية، فقط جهل وتهريج وهوشلية، لا وجود لمبدع أو مؤلف أو سيناريست أو إدارة مسؤولة واعية للأعمال الدرامية. مسلسلات هزيلة وهزلية، هابطة في جميع مستوياتها الفنية، استثمرت تعطش المشاهدين في الشهر الكريم ورغبتهم في مشاهدة مسلسلات تعبر عن همومهم بشكل حقيقي وواقعي، وأن يجدوا فيها متنفساً لمعاناتهم اليومية، فإذا بهم أمام وجبات فاسدة ومفسدة للأفئدة والعقول معاً، مسلسلات تثير السخرية والغثيان، انخفاض شديد في المحتوى الدرامي والشكل الفني والمضمون الفكري الاجتماعي، هزالة في الحوار وإسفاف درامي لا يطاق، تصنع وافتعال في خلق الأحداث والمواقف المأساوية والدرامية.

هزل فارغ في ثوب مأساوي

من الملاحظ أن هذه المسلسلات لا وجود فيها لمنطق في تسلسل الأحداث والانتقال من حدث درامي إلى آخر، معالجات سطحية مبتذلة للأحداث، غياب تام للأفكار الخلاقة المبدعة والمواقف المدهشة، لا توجد أية جماليات وصور فنية مبتكرة، مجرد هزل فارغ في ثوب مأساوي مفتعل مسطح وركيك بنمطية باهتة، تتوالى الأحداث كأنها خرافات سيقت جزافاً من أجل انتزاع الضحك أو البكاء. مسلسلات تعتمد على بعض المفارقات والأحداث البهلوانية والمفرقعات الصوتية. مسلسلات أقرب إلى مسودة أو مشروع روائي فني لم تكتمل عناصره الدرامية. هزل وإسقاطات فنية مفتعلة وابتذال، تزييف وغش فني واضح تتبرأ الدرامية التلفزيونية الحقيقية منه تماماً لعدم امتلاكه مقومات جماليات الفن الدرامي التلفزيوني، وافتقاده سخونة التواصل مع المشاهدين. كفانا جهلاً وتهريجاً. 

أنيميا ثقافية حادة

المثير للدهشة حقاً أن تنسى أو تتناسى تلك المسلسلات وطناً يمر بمرحلة من أخطر مراحله، حيث يتعرض لبطش العدوان وهمجيته، وتزداد الأزمات الاقتصادية والمؤامرات السياسية ومحاولات فرض التبعية، مما يهدد الهوية السياسية والثقافية، أو هي تعبر عن الأنيميا الثقافية الحادة التي يعاني منها البعض، والتي من أعراضها هذا التنكر وتجاهل الأحداث المصيرية والنكبات وقتل الأطفال والنساء وقصف المنازل والأحياء المدنية. كيف يمكن تجاهل رجال الرجال في الجبهات، من يصنعون أحداث التاريخ في هذه اللحظة المصيرية من خلال النضال بالمدفع وطلقات الرصاص وعود الكبريت؟ عالم يقيم دعائمه، ويشكل أركانه، وينسج تفاصيله الرجال والنساء والأطفال، الشباب والشيوخ، الأحياء والشهداء، يضرمون جميعاً من دقائق حياتهم اليومية نار الأتون الذي تنصهر فيه أسطورة الحياة والنضال، ويشعلون مصابيح مضيئة في تاريخ الوطن العربي الحالك، مصابيح زيتها ووقودها الإنسان وأعز ما يملك.