استطلاع:  غازي المفلحي/ لا ميديا

في الوقت الذي لا تزال فيه إيجابيات اتفاق ستوكهولم في السويد غير مشاهدة ولا ملموسة لليمنيين عسكرياً واقتصادياً كأهم جانبين، حتى الآن، فإنه لم يستجد الكثير نحو الأفضل الذي لم يعد يعرفه اليمنيون، في ظروف محافظة الحديدة، بعد الاتفاق الذي أوقف التصعيد، وأبقى على العدوان والحصار والجوع، وحتى أبقى على إطلاق النار. 
بالرغم من عودة الحركة العامة والتجارية بشكل خفيف إلى مدينة الحديدة، وتوقف كثافة حالات النزوح، إلا أنك تلاحظ وأنت ذاهب إلى الحديدة أن الحركة فيها لا تقارن مع المدينة التي قبلها وإحدى أكبر مديرياتها، مدينة "باجل"، التي تبعد عن الحديدة 55 كيلومتراً، ففي مدينة باجل ترى آخر مشاهد الشوارع والحركة المرورية المزدحمة المعهودة في المدن اليمنية بسبب النشاط العام التجاري والزراعي وغيره للسكان القاطنين والعابرين.

طريق الوصول أطول
وعلى العكس فقد أصبح الوصول إلى الحديدة أصعب بعد اتفاق السويد، خاصة مع التصعيد الذي بدوره أغلق طريق كيلو 16، فالوصول إلى الحديدة لا يتم الآن إلا بالانعطاف شمالاً من باجل، والدخول في خط ملتف طويل تضاعفت فيه المسافة لتصل إلى أكثر من 80 كيلومتراً بُعداً عن الحديدة مقارنة بالطريق المؤدي إلى كيلو 16 الذي كانت المسافة عبره بين مدينة باجل والحديدة لا تتجاوز الـ55 كيلومتراً، وهو خط (باجل – الكدن، الكدن - الضحي)، وهو خط إسفلتي ضيق مزدوج السير للذاهبين والعائدين، تتزاحم فيه الشاحنات والسيارات مع ارتفاع خطر حصول الحوادث بشكل كبير على الطريق الذي يختفي وسط الغبار القادم من جوانبه بين الحين والآخر، والذي يكاد أن ينعدم فيه مجال الرؤية، فهو طريق تهدد الرمال بابتلاعه كما ابتلعت المزارع والمساحات الصالحة للزراعة على أطرافه، ولم يتبقَّ سوى بضع مزارع للموز والمانجو تناضل للبقاء أمام التصحر الذي قد يكون المسمار الأخير في نعش تلك المزارع والأراضي التي تموت وسط تفاقم معاناة وأعباء الزراعة بسبب العدوان والحصار.
بالإضافة إلى أن طريق (باجل – الكدن، الكدن - الضحي)، الشريان الضيق والأقرب المتبقي بين الحديدة وصنعاء، ليس شرياناً يمكن الرهان عليه كثيراً، لا في حالة السلم ولا الحرب، فالطريق ليس معداً لحركة الشاحنات التجارية، كما أن الحركة الثقيلة هذه تتلفه شيئاً فشيئاً، الأخطر أنه أيضاً خط يبدد فيه الكثير من الوقت الثمين والحاسم خلال المعارك في حال تجددها عند نقل التعزيزات والإمدادات في أي تصعيد محتمل للعدو مقارنة بطريق كيلو 16.

تغلي من حر ما قبل الصيف
وصلنا مدينة الحديدة ظهراً وهي تغلي من حر ما قبل فصل الصيف؛ الذي يجبر من تبقى فيها على اللجوء إلى منازلهم حتى ساعات العصر، أما حر الصيف غير المعقول والذي تحدث عنه أهالي الحديدة، فلم يصل بعد، حيث تودع المدينة في هذه الأيام ما تبقى من فصل الشتاء مع آخر هبات رياح الشمال؛ التي تلطف الجو وتحرك أمواج البحر الذي سيصبح جامداً ممتداً كالرصيف في حر أيام الصيف المقبلة، تلك الأيام والشهور شديدة الحر التي لا يجد سكان الحديدة ما يستقبلونها به سوى صدورهم وظهورهم العارية؛ وكل ما يمكنهم نزع الملابس عنه من أجسامهم عندما تتحول المدينة إلى حمام بخار كبير، لا تملك إمكانيات وترف الخروج منه نحو مدينة باردة لقضاء الصيف، خاصة إذا كنت من أهل الحديدة الأرق جيوباً والألين أفئدة، فلا المكيفات تمد يد العون لهم، ولا المراوح تخفف عنهم قيظ القيلولة الجنوني والليالي التي يهرب من حرها النوم، لأن الكهرباء الحكومية متوقفة كما هو معروف، والكهرباء التجارية تباع بأسعار مرتفعة تزيد عن 200 ريال للكيلو وات الواحد، لا يستطيع سكان الحديدة البسطاء بغالبيتهم تحملها. ستغلي الشوارع والبيوت والدوائر الحكومية وفصول المدارس وقاعات المعاهد والكليات خلال شهرين من الآن، ونداءات الاستغاثة لم تجد لمن يهمه الأمر من الجهات المعنية التي يداعبها النسيم البارد خلف مكاتبها وهي منهمكة ومجهدة تفعل "لا شيء" لأجل الوطن والموطن.

عودة خجولة إلى الحياة
تبدأ الحركة المتواضعة في الحديدة هذه الأيام من الساعة الثالثة عصراً وحتى ما قبل منتصف الليل، ليست بالحركة القديمة المعهودة لمدينة الحديدة ما قبل العدوان أو ما قبل التصعيدات الأخيرة، ولكنها على الأقل أفضل من حالة الاحتضار التي أصابت المدينة خلال فترات التصعيد الأخيرة قبل اتفاق ستوكهولم، حيث فتحت بعض المحلات التجارية أبوابها بآمال ناقصة، وبعض الأسواق الصغيرة ازدحمت بمرتاديها، متجاهلة أو متناسية خطر التصعيد العسكري، نزلنا في فندق عاد للعمل منذ أيام بعد إغلاق دام سنتين، وعاد قلة من النازحين، وانحسر سيل النزوح نحو المحافظات الأخرى ومديريات الحديدة الأكثر أماناً، وتحاول المدينة العودة إلى الحياة على خوف ضاعفه عودة قصف قوى العدوان والمرتزقة لأطراف المدينة منذ أسبوعين.
تحدثنا مع أهالي الحديدة الذين في أغلبهم أكبر ما يهمهم حالياً توقف الهجمة العدوانية على مدينتهم، وحلول سلام حقيقي تتقلص به معاناتهم الكثيرة، وعلى كورنيش الحديدة الخاوي إلا من قلة من الزائرين، وقد أصبحت الاستراحات والمحلات والفنادق والمنازل على شاطئه مهجورة بلا حراك تحدق محبطة نحو البحر وقد هجرها أصحابها ومرتادوها خوفاً مما قد يأتي من البحر وأيضاً من الجو والبر. حدثنا إبراهيم عايش، وهو على ظهر دراجته النارية القديمة، بذات النظرة المحبطة، عن صعوبة العيش في مدينة تحتضر. هموم إبراهيم كثيرة، تبدأ بالخوف من فقدان الحياة بغارات أو قذائف العدو، وتمر بصعوبة توفيره لقمة عيش أسرته بأفرادها الـ6 وتنتهي بالاستسلام لأيام الصيف القادمة التي يتسلخ الجسم من شدة حرارتها، بحسب وصف إبراهيم الذي اختصر لنا أمنياته بانتهاء العدوان على اليمن والحديدة وتوقف الحرب، واعتذر بطريقة مسالمة عن أن نلتقط له صورة، وقال إنه يقلق من ذلك، وهو يريد أن "يطلب الله" على أسرته بهدوء. 

ينتظرون الإنصاف من ثورة أيلول
هناك مشكلة مستجدة يجب علاجها، تزيد ضيق المواطنين وعزلتهم وضنكهم في الحديدة، وتغلق عليهم نافذة الاتصال والتفاعل والنظر إلى العالم حولهم، وهي مشكلة توقف خدمة الإنترنت الأرضي، والتي أبدى المواطنون استياءهم منها، والسبب -حسب مسؤولين في السلطة المحلية- هو لدواعٍ أمنية. وحالياً هناك أنباء عن عودة الإنترنت.
مهما كانت المدة التي ستقضيها في الحديدة، قصيرة أم طويلة، فسوف تلحظ بوضوح أن أهل الحديدة هم أطيب قلوباً وأنقى نفوساً، وأكثر المواطنين اليمنيين معاناة وتهميشاً واستغلالاً لثرواتهم عبر عقود طويلة، غير أن الصبر ما يزال سمتهم، وينتظرون الإنصاف من ثورة 21 أيلول، فمن العجيب أن تجد أن أهل الحديدة هم أقل من يمتلك العقارات والسيارات والمحلات التجارية الصغيرة أو الكبيرة في مدينتهم، وحتى عندما تدخل أحد المطاعم الفاخرة المكيفة في الحديدة تجده مليئاً بكثير من المواطنين، غالبيتهم من محافظات أخرى، يقدمون أو يقيمون في الحديدة لأسباب كثيرة تجارية ومهنية وأخرى متعلقة بالحرب، بينما يتضور كثير من أهل المدينة من الجوع حول هذا المطعم وغيره، وهذه ليست سوى نتيجة لخلل عميق وظلم طويل وعدم مساواة في توزيع الثروات ونهبها، تعرض له أهالي المحافظة الساحلية الأزخر بالعطاء في اليمن زراعياً وتجارياً، كما أن الجمرك المحلي والدولي الذي يدر مئات المليارات من الريالات، لا يراها أو يلمسها أصحاب الأرض.

سلام غير مأمون
كانت لـ"لا" زيارة سريعة إلى ميناء الحديدة الذي يقع في مواجهة المعركة، ويحاذي الشارع الوحيد الذي يتم الدخول منه إلى الحديدة (شارع الميناء) عبر الخط القادم من طريق (الكدن - الضحي)، وقد أغلقت بواباته ما عدا البوابة الشرقية، والميناء يعمل بقلق من ينتظر هجوماً على حين غرة. وحسب مصادر لـ"لا" في الميناء، فإن الحركة قد تحسنت قليلاً، والآمال قائمة بمزيد من التحسن والاستقرار في الميناء والمدينة عموماً، ولكن لا رهان جدياً على سلام من قبل العدوان ومرتزقته.
وفي حالة التوقف المؤقت لمدينة الحديدة وسكانها في منتصف الطريق بين الموت والحياة، لا شيء في الأفق يشير بشكل واضح إلى مصير المدينة المختبئ خلف غبار الرمال وأمواج البحر.