سطروا أعظم البطولات التي سيكتبها لهم التاريخ بماءِ الذهب، وتُنحت في الصخر، وثباتهم في ميدانِ الوغى، أولئك هم الشهداء الحفاة فوق قمم الجبال، وبطونِ الأودية، بين حرارةِ الشمس اللاهبة، والبرد القارس، بياداتهم الطاهرة التي حفرت في الرمال مآثر سيخلدها الزمن، أنهم واجهوا أبشع عدواني كوني، ودافعوا عن كرامةِ وطنٍ أرخصوا من أجله أرواحهم... ماذا قالوا في آخر مكالماتهم مع عائلاتهم، وأسرهم؟ وما هي المواقف التي سبقت استشهادهم...؟
لحظات لا تنسى
قصصهم تؤكد أن الشعب اليمني سينتصر لمظلوميته، والظلم الذي بلغ منتهاه، من كل دول العالم... أم حمزة الوشاح تحكي: كان آخر لقائي بأخي الشهيد محمد عندما جاء لوداعنا كأنه يعرف أننا لن نراه مرة أخرى، ويلتحق بالعظماء بعد أخي الأصغر الذي كان سبباً في إرشادنا للمسيرة القرآنية.
وتقول: لحظات لا تنسى وقت الوداع، حيث إن الشهيد تغيّر كثيراً بعد التحاقه بأنصار الله من خلال معاملته لوالدتي وإخوتي، وكان حسن المعاملة والأخلاق، وطلب من الجميع المسامحة.

تنبؤات مبكرة...!
تضيف شقيقة الشهيد محمد: لنا موقف مؤثر وغريب، وهو مع أخي الأصغر ابن الـ18 عاماً، والموقف أشبه بالقصة، حيث كان الشهيد يحدثنا عام 2010 بأشياء حدثت بعد استشهاده، ومنها الفتح لدخول صنعاء، وأن مقرات المجاهدين ستكون في كل مكان، وسيصلون لقيادة الدولة، وكان الأمر أشبه بالخيال، وكنا لا نهتم لكلامه، وكان يقول إننا سنفتخر به وبالشهادة، وأنه سيشيع تشييعاً مهيباً ورسمياً، وتكون شهادته مثل الدكتور شرف الدين.
وتواصل بمرارة: وككل مرة كنا نستهتر بكلامه.. أما آخر مكالمة له معنا فكانت مؤثرة جداً، حيث اتصلنا به لحضور حفل تخرج زوجي من الجامعة، فقال أيش يحصل فيه، فقلنا له تكريم ويستلم شهادة التخرج، فرد وقال مبروك لكم، أما أنا سأنال الشهادة، وأيهم أكرم عند الله. ومثل كل مرة لا نهتم بكلامه، والحمد لله وصلنا نبأ استشهاده بعد يومين من آخر تواصل معه، قبل حفل تخرج زوجي بيومين، وكانت شهادته باغتياله أثناء مرافقته للدكتور إسماعيل الوزير، وفعلاً تم تشييعه تشييعاً مهيباً يليق بالعظماء، ونال ما تمناه.

خنساء اليمن تحكي لحظات وداع أبنائها الأربعة
أما خنساء اليمن سيدة اللاحجي، الأم التي استشهد لها 4 من أبنائها، تحكي بصبرٍ وثبات، مؤمنة بنصرٍ من الله، وتتحدث عن آخر مكالمةٍ مع كل واحدٍ منهم، تبدأ قائلة: آخر وداع بيني وبين ابنيّ الشهيدين مجد الدين وعادل، اتصلا بي وقت العصر قبل استشهادهما بحوالي ساعتين، فكلمني مجد: لا تقلقي يا أمي الغالية، وادعي لنا، وإن شاء الله نرجع نتصل بكم، وأخبرني أنهم في البيضاء برفقة الشهيد عادل، وكنت أحس بقلق كأن شيئاً سيحدث، وكنت أشاهد قناة (المسيرة)، بعد صلاة العشاء، ورأيت خبر انفجار السيارة المفخخة في بيت إدريس، وكنت أتصل بهم وهواتفهم مغلقة.
تواصل الأم المكلومة: انتظرت ولم يجبني أحد، وذهبت للنوم، ورأيت في المنام أنني أنجبت ولدين، وفي صباح اليوم التالي تلقيت خبر استشهادهما، أتى ابن أختي يسلم عليَّ وهو مرتبك، وسألته من في الانفجار حق البيضاء، وقال: عظم الله (أجرش)، استشهد مجد الدين وعادل وفؤاد ابن عمهم، وقلت: حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم تقبّل مني هذا القربان.
تضيف الأم المكلومة سيدة اللاحجي: وبعد مرورِ 100 يوم استشهد شقيقهما الثالث أيمن الملقب بالساجد، وقبل استشهاده تواصلت معه، وقال لي: أنا الآن مشغول، وإذا بدكم شيء أرسلوا رسالة. وشعرتُ بقلق، لأني لم أكلمه من الصباح، فأتي ابن أختي لزيارتي، وقال: استشهد أيمن، فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله.
وتختم أم الشهداء الأربعة بآخر مكالمة عن الشهيد الرابع من أبنائها، تقول: أما هاشم ليث المعارك فقد استشهد مع مجموعةٍ من الشجعان في مهمةٍ في البيضاء، وقبل ذلك كنت مشتاقة لرؤيته، واتصلت به فرد: لما أخلص عملي سأزوركِ يا أمي الغالية، فجاءني أحد إخوته ليخبرني أن هاشم استشهد، وفوضت أمري إلى الله إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى، وحسبي الله ونعم الوكيل.

رافعين الرؤوس
تكاد لا تخلو أسرة في اليمن ممن قدموا فلذات أكبادهم في الدفاعِ عن اليمن في جبهات الشرف والبطولة، يحكي سلطان الكحلاني أن بداية انطلاقة شقيقه عبدالعزيز ويكنى بـ(أبو العز)، من محافظةِ عمران، بعد أن تجلى الحق وزهق الباطل، فالتحق بأنصار الله متجهين في الخطوة الثانية إلى صنعاء، ومن ثم إلى إب، تلقى فيها الدورات الدينية والعسكرية، فبدأ بتثقيف الناس في الجوامع في إب، ثم اتجه إلى ذمار مع المجاميع المؤهلة، ومن ثم اتجهوا إلى البيضاء، وكانت انطلاقته لله وحده، وبعدها اتجه بمجموعة وكان قائدها إلى الضالع، ودارت هناك معارك، وفيها وقعت الخيانة من قبل الحرس والانسحابات دون علمهم، وحدث للأنصار ما حدث، فمنهم من قُتل ومنهم من اختفى ولم يُعلم مصيره حتى الآن، وبقي عبدالعزيز ومعه 11 فرداً ممن تبقوا منهم، وهناك من أُسر من قبل مرتزقة التحالف الخونة، ومكثوا 3 أشهر قبل فك أسرهم، حتى تمت مبادلة الأسرى، وعادوا رافعين الرؤوس، غير مبالين بما كان يحدث لهم من تعذيب نفسي وجسدي خارج إطار الإنسانية.

في سبيل الله يرخص الغالي
يواصل سلطان سرد ما حدث لشقيقه الشهيد هيثم: عاد الأسرى إلى أهاليهم، وتعهدوا بالثباتِ حتى لو تمزقت أجسادهم، واستقبلنا نحن إخوة عبدالعزيز مستبشرين وفرحين بعودته سالماً، فقال لنا: والله يا أشقائي إننا مع الله لا نشعر بأي تعب أو معاناة، لأننا سلمنا أنفسنا وبعنا من الله أرواحنا بدلاً عن الدنيا الدنيئة، ومكث عندنا بضعة أيام، وكان يحدث أصدقاءه في آخر أيامه: والله لو اشتد بنا في الجبهات الجوع والحصار، ونقص المال والعتاد، إننا صابرون، وما صبرنا إلا بالله. بعدها اتجه إلى البيضاء ومكث شهراً، بعد أن هدأت جبهة البيضاء اتجه برفاقه إلى جبهة كرش، وكانت هناك الصراعات قائمة ومتواصلة من قبل المرتزقة ومقاتلات الجو، وفيها أصيب بجروح واستشهد بعض رفاقه، وعاد ليشيع رفيقه أبو عبدالله الخدري، وكان متأثراً بشظايا، في حين كانت أذنه اليسرى فقدت السمع تماماً جراء الضربات. وكان هو مدفعياً، وخضع للمعالجة دون علمنا لكي لا نتأثر بجراحه التي أخفاها عنا طيلة 20 يوماً، وجاءت آخر ساعات سفره، ولا نعلم أنها آخر ساعات حياته التي عاشها بين أهله ورفاقه وفي الجبهات، فقعد في المركز لساعات يحث زملاءه من يذهب معي ليستشهد، يقولها بكل شجاعة، وإن كنتم قد قنعتم بسبب ما حدث من قصور معكم في الجبهات، فلا تتخاذلوا، وإن لم يوجد طعام صبرنا، وإن لم يوجد مشرف مؤتمن صبرنا، وإن لم يوجد مدد صبرنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وودع رفاقه وعاد إلى البيت بين المغرب والعشاء، ثم ودّع كافة أفراد الأسرة، وأخذ كيس (الكعك) للجبهة، وكان آخر وداع وسلام، وحين عادنا فاقداً السمع أجبرناه أن يجلس ريثما نعالجه، قال: والله إننا لو قطعنا أوصالاً، ففي سبيل الله يرخص الغالي والنفيس. وحين كنّا على غفلةٍ من أمرنا، جاء نبأ استشهاده، وقد نال شرف الشهادة رحمة الله عليه.

لا تخبروا أهلي..
يحكي سلطان الكحلاني عن انطلاقة الشهيد الثاني من العائلة شقيقه محمد الكحلاني، ويكنى بــ(العاقل)، نتيجة تأثره بما يحدث للوطن من دمار، وحصار، وتجويع، وتشريد، وأول انطلاقاته الجهادية من مركز حارة في عمران، بدأ فيها بنقطة (تفتيش) وسط المدينة، وكان يحدث أصحابه في النقطة ويرشدهم إلى الطريق الحق، هو الثبات معه، واستمر لأربعة أشهر، وانطلق لجبهة كرش مباشرة، وكان هناك الشقيق عبدالعزيز الذي استشهد فيها، وكان محمد قد جلس لأسبوعين، وأثناء زحفٍ عليهم أصيب بقنّاصة في الحوض عندما كان يريد أن يسعف أحد المرتزقة من النزيف لكي لا يفارق الحياة، فقد عاملهم بأخلاق المسيرة القرآنية، بينما هم تعاملوا بالخيانة، وأسعف محمد إلى مستشفى الثورة في إب ليخرجوا الطلقة، وكان يقول لمن حوله: لا تخبروا أهلي أنني أصبت.

إصابة قنّاصة
ويستطرد سلطان: مكث محمد أسبوعاً في إب، واشتدت حالته، وأرسلوه إلى مستشفى الثورة بصنعاء، واتصل لي وقال: تعال إليّ، فشعرتُ حينها أن رأسي انشق نصفين بإصابته، فقلت له لا تقلق أنت مع الله، وسافرت صنعاء، ووصلت إليه متشوقاً لرؤيته، وكان وحيداً دون مرافق، وأكملت له بقية الإجراءات، ونقلته إلى مستشفى الشرطة، وكانت الطلقة عالقة في جسده، ثم طلب مني أن يسافر عمران لرؤية أمي وأفراد العائلة، قلت له: انتظر حتى تتعافى، فقال العافية من الله، وليست من الطبيب أو المرهم، وعدتُ به إلى البيت، وكنا نجارحه، وكانت العافية تدبُّ في جسده، يوماً بعد آخر، وبعد 10 أيام عدنا إلى صنعاء لنجري له عملية، فعاد ومازالت العملية لم يتعافَ منها، وكانت مجارحته يوماً بيوم، ولسانه لا يفارقه التسبيح والاستغفار، وتعافى، وكانت الطلقة مازالت فوق الحوض، ولم نخرجها من جسده، فقرر السفر بعد شهرين من الإصابة، وقد كنا منعناه من العودة إلى الجبهة إلا بعد أن يتعافى، فأصر على السفر، وجهز أمتعته وأخذ بندقيته، واشترى له بعض الذخيرة بالرعايةِ التي استلمها، وودعناه في الــ15 من رمضان.

وداع مفارق..
يضيف سلطان: انطلق بعد أن ودّع كامل أصدقائه في الحارة، وكل من يحب قريباً وبعيداً، وكان آخر وداع، وكنا نحسُّ بملامحه التي ظهرت على وجهه، وابتسامته التي لم تفارق شفتيه، وهو يودّع الجميع بحرارة، وكنا نتواصل معه أسبوعياً لنطمئن على صحته، وكان يوصيني على الوالد والوالدة رغم أنه الأصغر فينا، ولم يكن متزوجاً، وكان زاهداً، ويقول: ما لنا بنساء الدنيا نصيب. ووعدنا بما هو أغلى وأفضل في الجنة.

آخر اتصال
ويتحدث سلطان عن آخر مكالمة لشقيقه محمد، ويقول: كانت بعد عيد الفطر، قال لنا: إنه سيأتي إلينا ويزورنا، وقبل الزحف عليهم، حدثني أصدقاؤه وكانوا يقولون له اصبر يا محمد حتى نتغذى، وكانوا بعيدين عنهم، فقال: والله ما أتغذى إلا عند الإمام علي كرم الله وجهه، وحصل لهم الزحف، وثبت وصبر بكل شجاعة واستبسال أمام المدرعات الزاحفة أمامه هو ورفاقه، وتقدّم وأصيب في قدمه اليسرى بطلقة، وثبت وقاتل، وكانت الطلقة الثانية من مدرعة في صدره، التي أدت إلى استشهاده، وكانت أمنية الشهيد ورايته الدينية.

محاصرون لكننا أحرار
أما وليد مقحط فيحكي عن آخر مكالمةٍ لأخيه الشهيد هيثم: اتصل لجميع أفراد العائلة يودعهم فرداً فرداً بدءاً بالوالد والولدة: واطمأن على كل من في البيت، واطمأن على أخي الجريح قحطان، وقد كان الشهيد يكتب عباراته الرافضة للظلم على جدران الأسر حين وقع أسيراً، ومن أقواله: ما أجمل تلك الحياة، حياة الجهاد يكون التسابق فيها على الموت، والفائز منهم أول من يقتل، فلله درهم رجال أرخصوا أرواحهم في سبيل الله.