استعرت الأزمة في صفوف الجبهة الداخلية مع اقتراب الفعالية التفجيرية التي رتبت لها البيروقراطية العسكرية القديمة حالمةً -عبثاً- بالعودة إلى موقع الهيمنة والسيطرة الآفل على دبابات العدوان وقطعانه الإجرامية.. ما الذي قلب الأمور فجأة رأساً على عقب، من التحالف والشراكة، إلى حالة من التنافر والشكوك، إلى الاتهام المباشر بحماية الفساد والتغطية على مؤامرات الخيانة، إلى التوتر والاحتشاد في الشوارع؟! ولماذا الآن في هذا الظرف العدواني؟  إلى أين ستصل الأزمة؟ هل هناك مجالات لتبريدها وإحداث خلخلة للمفاعيل والألغام التي زرعها العدوان ومرتزقته طوال الفترة الماضية؟! ثم أكان الوصول لهذا الحال نتيجة حتمية؟! 
كان التكتيك المتبع هو التظاهر بالانشغال الحزبي والحيادية العسكرية والتصريح بالدعم السياسي والثقافي، ليتضح أن الإمارات قد مولت نشاط -الآخذ شكل نشاط سياسي حزبي- حشد مليونية الطراز الانقلابي (نهج السيسي) التي تكمن كأداة رئيسية في تنفيذ الخطة المبيتة.
وخلال الأشهر الستة الأخيرة، تركزت أنشطة المؤتمر وقيادته في الداخل والخارج على النشاط التنظيمي (تنسيب وقطع نحو 150 ألف بطاقة عضوية جديدة لأي كان)، وكان ذلك هو الغطاء للتحشيدات التي يجري خلالها الإعداد للانقضاض على المدينة وتغطية التحركات الأساسية والتحضيرية للتقرب من الأهداف عن بعد وفقاً لاستراتيجية عسكرية موضوعة بدقة.
والهدف الاستراتيجي لهذه العمليات التنظيمية كان تشكيل احتياطات قتالية، علمت أو لا. والغالب أن العموم كان سيجير بالاستفزاز العاطفي باستغلال حدث مثل التفجيرات الإجرامية التي أُحبطت أو تفجير اشتباكات مع اللجان الشعبية أُحبطت هي الأُخرى، يجري الإعلان عن تخريجها في دفعات منها في دورات عسكرية (أُرسلت إلى الجبهات) الوهمية التي لا وجود لها إلا في حواري وأحياء العاصمة للأسف!

سلاح القوات الإعلامية
تكمن خطورة الدور الذي لعبة الإعلام في التهيئة والتحضير النفسي والروحي والعاطفي لتقبل الخطوات القادمة الخيانية، في أكبر عملية تضليل وكذب انطلت على الكثير من الناس الذين لبوا الدعوات بنوايا حسنة. كما جرى تضليل واسع للرأي العام المؤتمري والشعبي عموماً، حتى ساد اعتقاد أن صالح والمؤتمر وقواته مشاركون فعلياً في معارك الدفاع الوطني.
وقد تعاضدت الحملة العدوانية مع الحملة الصالحية في نسب إنجازات الجيش واللجان لقوات صالح التي لاوجود لها في الميادين إلا نادراً، كضرورة لتحقيق هدف تهيئة الناس للاعتقاد أن صالح هو الشريك الفعلي في المعركة العسكرية، وبالتالي الاعتياد على حركته المقبلة المتضمنة التصعيد العسكري الخياني تحت غطاء (دعم الجبهات والاحتشاد الاحتفائي)!
إن من المؤلم كثيراً أن نحو نصف مليون جندي -يرهقون بنفقاتهم ميزانية الدولة والمال العام- ما زالوا مشتتي المواقف والولاءات، قابعين في البيوت هروباً أو إحباطاً أو ادعاء الحياد أو غيره، أو التحقوا بصفوف العدوان.. والسؤال لا يزال قائماً وهو أن هناك نحو نصف مليون جندي وضابط -هم مجموع الجيش القديم- ما مصير هذا الرقم؟!
عقب انتفاضة 2011م الشعبية الشبابية، كُشفت وقائع لم يتمكن أحد من نكرانها، وهي أن نصف هذا الرقم ليس أكثر من أكذوبة فساد مالي عسكري سياسي، مارسته سلطة صالح بشكل واسع وعلني في جميع الوحدات والمرافق والإدارات العسكرية. مثل هذا الرقم وأكثر في الجهاز الإداري المدني القديم.. كانت العلاقة بين صالح والضباط الموالين له قائمة على المصالح المادية بكل تعرٍّ، فقد جعل ولاء الضباط للمصلحة الشخصية البحتة، وظل مع علي محسن يتنافسان على تجميع المال والثروات والنفوذ والسلطة على حساب الملايين من الجياع. كانت هذه العمليات القائمة عبر القادة تنطوي على معارك وحروب لا تقل عن الحروب الفعلية، التي راكمت لجملة من التناقضات البينية داخل صفوف المنظومة الواحدة، الأمر الذي أعاق سير مشروع ومخططات المدير الإمبريالي والرجعي الإقليمي والدولي اللاهث للحاق بما يمكن لحاقه بسبب التفجرات الاجتماعية الثورية والوطنية الصاعدة منذ الحروب الست حتى نهايتها في 2010م.

المخزون الاستراتيجي لتكتيكات العدو.. 
الضرب من الداخل
لم يكن لدى العدو الدولي إلا أن يخوض استراتيجية مواجهة جديدة مباشرة والتفافية، خاصة في ظل ظروف الصراع القائمة والمتصاعدة بين الوكلاء المحليين.
من هُنا تهيأ الدور الجديد لصالح، في ظل مسرحية كان فيها لجميع وكلاء الإمبريالية المحليين أدوار ومهام متعددة.. فحين تكون الصراعات مستعصية على الحل بين صالح وحلفائه السابقين، فلا بد من التوافق الإلزامي بأية كيفية كانت. إن العدو لا يعجز عن توظيف ما استطاع من تناقضاته وأزماته الداخلية.
لقد قررت القيادة العدوانية الاستفادة الإجبارية من التناقضات، وتوظيف الصراع الشخصي بين صالح وحلفائه في سبيل تحقيق اختراق استراتيجي على جبهة ومؤخرة القوى الوطنية الناهضة بزمام المواجهة والتحرر، وهو ما يظهر عقلانية مبررات صالح لتكتيكاته الجديدة، وسيكون النجاح مؤكداً نتيجة عنف الصراع واستحالة التوفيق الظاهري بين أطرافه في وقت قصير.
بواقع الحال، فالأولوية لدى القيادة الدولية والإقليمية للعدوان هي مواجهة القوى الثورية الناهضة في الشمال، ولما كان صالح قد أُبعدَ عن الواجهة -مؤقتاً- عُهد إليه دور احتواء تلك القوى الوطنية تحت ستار التظاهر باستمرار الصراع مع أنداده بأشكال سياسية وشخصية، وأن لا تسوية لمشكلاته مع حلفائه السابقين، وقد خلق مجالات تعاون بينه وبين الثورة الجديدة القادمة والزاحفة من الريف الشمالي القبلي الشعبي.
فلأعوام طويلة استمرت حتى الآن، عجزت الامبريالية الدولية عبر قواها المحلية والإقليمية وجيوشها وعدوانها الكوني، عن أن تهزم قوى الثورة، وصارت تفر أمامها مذعورة من المواجهة.. ولأنها تعرف مصير المواجهة مع القوى الوطنية اليمنية التي دوخت أنظمةً ودولاً رجعية عديدة، منها الدولة الرجعية العسكرية القديمة؛ فقد لجأت إلى مخزونها الاحتياطي الهام من التكتيكات والاستراتيجيات التي سبق وأعدَّتها من وقت مبكر ما قبل العدوان، متجهة لتوزيع قواها على أنساق متعددة، منها النسق المباشر في جبهات الحرب، ومنها الأنساق السرية الداخلية التي يأتي دورها لاحقاً في قمة المواجهة المعتملة من الداخل.
كان صالح أهم أنساقها السرية تلك -كما تجلى ذلك بوضوح مؤخراً- ذلك أن قواته لم يتم بناؤها من قبل الأمريكيين عبثاً، وهم الذين تكفلوا بتدريبها وتسليحها وإدارتها وتأهيلها تحت بند مكافحة الإرهاب بالمفهوم الأمريكي الذي يعني محاربة القوى الوطنية التحررية المقاتلة المناهضة لنفوذ واشنطن والرياض وتل أبيب. ولم يكن مصادفة أن السفير الأمريكي (جيرالد فيرستاين) أثناء مفاوضات تسليم السلطة في 2011م، قال صراحة (إن الحرس والقوات الخاصة تعد استثماراً أمريكياً يعاد هيكلته دون أن يلغى). وعليه حرصت واشنطن أن تشرف على الهيكلة التي اتجهت لتغيير الأسماء لا التركيبة والقوام والمهام والأهداف، ونقل القيادة شكلياً -من أعلى لأسفل- من تابع لآخر وضمن خطط ومهام جديدة تتوافق مع تركيبها وتدريبها وخبراتها ومعطيات الواقع الماثل آنذاك والمتوقع حدوثه مستقبلاً.
كان لا بد (لمنظومة السيطرة الدولية)، وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية اليهودية، أن تسارع بإغراق المجتمع الثائر في كل البلاد باستقطابات خارج تلك الناشئة في جغرافية الحروب الست وامتداداتها، تفككها لا تراكمها، تسير لخدمة المصالح الإمبريالية لا لخدمة التحرر الوطني اليمني والاجتماعي. فجاءت تحركات المشترك، ومشاريع الفوضى الخلاقة بشكلها اليمني الحذق الذي هدف لتفكيك بنية الثورة والمجتمع بالحفاظ على بنية النظام لكن مع تمثيليات عن تغييرات في السلطة وأوهام النقيض المعارض الذي لعبه المشترك، خلافاً للنماذج التي سارت في المنطقة، عوضاً عن تعزيز نزعات المناطقية والإثنيات وتسعيرها، والتي حضرت لأجلها أيادي ورجالات المخابرات الأمريكية بشكل مباشر (وأنا أحد شهود العيان الكُثر على هذه الأنشطة في تعز).. وأيضاً العمل لتفجير الأوضاع في جنوب البلاد في مسار مطالبي شخصي صرف، لاسيما عبر تسريح مئات الآلاف من الوظائف المدنية والعسكرية من المحسوبين على الحزب الاشتراكي وأبناء المحافظات الجنوبية، وقد جاءت بعد إغراق المجتمع هناك بالوهابية والإخوانية والريالات السعودية والإماراتية التي استجلبت في أكياس سلاطين الاستعمار والرجعية العائدين ما بعد حرب 94م بعد أن طرتهم الثورة والاستقلال.
 
واقع التبعية البنيوية وشروط بقائها
لا شك أن القراءة العميقة للواقع الموضوعي وشروطه وسياقه التاريخي، ستخبرنا أن منظومة وطبقة -كهذه القائمة وفق ظروف الواقع اليمني- نشأت بمعية الإمبريالية وعلاقاتها التبعية كملحق بنيوي وثيق الارتباط بها ورضعت من ضرعها كل وعيها ومصالحها وعلاقاتها وسلوكها ومنطقها...؛ ستخبرنا هذه القراءة أن لا فكاك بينهم موضوعياً، سواء وعت هذه القوى التبعية أم لا. فبقاء مصالح الطرفين - الطرفين مجازاً لا حالاً- لا تقوم بمعزل عن الأخرى، واستمرارها وأبديتها هو في استمرار هذه العلاقة البنيوية (راجع مثلاً مهدي عامل حول، نمط الإنتاج الكولونيالي).
إننا واهمون تمام الوهم، وسنكون في أشد الغفلة، إن اعتقدنا أن هناك من مصلحة للنظام القديم في استمرار مواجهة العدوان وفق الشروط الثورية الوطنية الموضوعية والمضي بمشوار المواجهة نحو النصر. وعلى العكس من ذلك، فالمصالح الإمبريالية الكولونيالية الكمبرادورية لجميعهم، وشروط وعلاقات السوق القائمة -التي تنخر الصمود الوطني من داخله- ومنظومتها الاحتكارية البنكية والمالية والتجارية... تخسر بلا شك، فالتحرر بالضرورة لن ينجز على مستوى القرار السياسي والسيادة... ما لم ينجز اقتصادياً. وصالح بالتأكيد يقف على رأس هذه المنظومة والطبقة.
تدرك هذه البقايا المتآمرة بشدة أنها يجب أن تنهي الوضع القائم بصفقة تساومية جديدة مع العدوان، تضمن له مصالحه، وبالتالي مصالحها.
هذا من جهة الحديث عن الواقع الموضوعي، أما عما دار في كواليس السياسة من وقت مبكر، فهو بلا شك مسار يتطابق مع هذا الحال التبعي القائم موضوعياً ببقاء هذا الواقع. ويتضح أن الأدوار قد وزعت من وقت مبكر بين المنظومة القديمة.
ويمكن أكثر التساؤل - من باب الجدل لا أكثر، باعتبار أن الحقائق مكشوفة- حول عملية تهريب الفار هادي من العاصمة من قبل قيادات مع صالح مثل الزوكا والبركاني والراعي وغيرهم الذين لم تتم محاسبتهم! ولماذا لم تشارك القوات الموالية لصالح في معارك الدفاع الوطني؟ ولماذا يتم تأزيم الوضع المالي للناس بسرقة المال العام مع إلصاق التهمة بالشريك؟ ولماذا تنسجم وسائل إعلام العدوان مع وسائل إعلام صالح في الخطاب المهاجم والمشوه لأنصار الله؟ ولماذا يتم الالتفاف على الاتفاقات والعمل المشترك وتحويله إلى خيانة تلصق بالأنصار خلافاً لواقع الحال الذي يقول بأنها لم تكن مهام من طرف واحد -من أساسها ليست خيانية- كما حدث مع لقاءات ظهران الجنوب؟ ولماذا لا يفعَّل القضاء؟ ولماذا يستعر نشاط منظم لجر قيادات ثورية إلى مربع الفساد والعبث، واستدراج لكوادر ككوادر الرقابة الشعبية؟ ولماذا يحدث أن يتفق الإخوان والمؤتمر والتحشيد معاً إلى السبعين؟ ولماذا لم تفعَّل وحدات الدفاع الجوي اليمني في مواجهة طيران العدوان، بحسب ما جاء على لسان نائب الناطق الرسمي للقوات المسلحة؟! ولا نهاية لقائمة الاستفسارات، لكن الإجابة هي واحدة بالتأكيد.
@ كاتب ومحلل استراتيجي وسياسي - رئيس تحضيرية الحزب الاشتراكي اليمني (ضد العدوان).