أفضت حقائق المواجهات على الأرض، خلال عام من العدوان، بالعدو الى الإقرار بخسارة المعركة ميدانياً، كما خسرها ويخسرها على الأصعدة الأخلاقية والمعنوية والسياسية والاقتصادية والاستراتيجية والوطنية الداخلية، إذ تتفجر نتائجها شرراً مستطيراً على كل جهة، وفي كل فجوة تنذر شراً دائماً لفتحها أبواباً من الجحيم كانت مغلقة في مملكة النعيم والفراغ.
أما الآن، وبعد العدوان على اليمن، فقدت كل معنى للسكينة والهدوء والاستقرار، ولم يعد بمقدور أمراء الشر الخليجي إغماض الأعين، أمام انهيارات شاملة، ومصير كارثي يتهدد وجودهم وممالك نعيمهم، شكله هذا السيل من الدم اليمني الزكي المراق، يطارد أعناقهم، وأعين قتلتهم ومأجوريهم وفرسان عدوانهم، وصارت الأحلام الوردية التي رسمها عملاء الرياض وأسيادها، كوابيس وهلوسات دائمة بالمصير الموشك والتأزم الحاد الذي يكابدونه وعدوانهم. 

الحرب.. من المتاريس إلى الكواليس
خسارة عمرها 400 يوم
خسر العدوان، وبمقدمته السعودية، الحرب على اليمن، مرات متكررة، وهي تعترف الآن بهذا خلف الكواليس بعيداً عن الأضواء، ويناور قادتها بعيداً عن المسؤولية القانونية، مع مواصلة الغرق في الأوهام بتحقيق انتصار ومكسب ما، وهي أوهام؛ لكونها لا تستند على منطق واقعي، بل لنزوات ذاتية مجردة من العقلانية والتريث والمسؤولية.
وبعد خسارتها عادت من البداية بدلاً عن التوقف، تعيد تعبئة المخازن بالأسلحة والصواريخ والأموال، حتى وصلت إلى الهاوية وشفا الإفلاس والانهيار، وكانت الخسائر أكبر من أن تخفى لوقت طويل، آلاف القتلى والجرحى، وخسائر فادحة في العتاد العسكري بأنواعه، وأفضت الوقائع القاسية بالعدو على الأرض إلى الامتثال للواقع الجديد الذي ظل ينكره ويتعسفه بكل الوسائل، ولكن في الأخير كان حكم الشعب وإرادته هي الأقوى والغالبة، ولذا صار لزاماً عليه الإقرار بالوقاع والامتثال له، والتفاوض على أساسه، كقانون موضوعي لا يمكن تجاوزه، وقاعدة حتمية للصراع، وهي واقع مكشوف للطرفين، وللمجتمع الدولي والإقليمي الذي يرعى الصراع بقدر ما يرعى المشاورات الآن، ومطلع على كافة تفاصيلها، ويدرك حقيقة وضع أصدقائه، لذا هو ذهب ليعترف بقوة الإنجاز الوطني اليمني على كافة المستويات، واضطر لتغيير التكتيك التفاوضي من القسر والأمر إلى اللين وفرش (السجاد الأحمر)، ومخاطبة الغرور الوطني لليمنيين، ومعاملة الوفد الوطني كممثلي دولة مستقلة منتصرة قادمة من المعارك الظافرة، ويرجو هذا المحيط أن يستخرج منها الكثير من التنازلات لقاء هذا الترحاب الكبير لوفد القوى الوطنية، والإشارة إليها باعتبارها جوهر المشروع السلمي بكامله، فهي المتحكمة بمسارات الميدان، كما هو إقرار ضمني ببؤس الطرف الآخر حربياً واستراتيجياً، وتم تأكيد هذه الإشارة من خلال الضعف المتعمد في استقبال وفد الرياض، إذ عملياً لم يعامل كطرف مكافئ للطرف الوطني القادم من صنعاء، وهي إشارة أخرى بأن هذا فرع للرياض.. كما يقول واقع حال المشاورات الجارية، إن التسوية قد تمت سراً بين السعودية والطرف اليمني في الظهران، وأجملها المتحدث الرسمي لأنصار الله محمد عبد السلام، بأنها تضمنت توافقات وحلولاً لكافة قضايا العدوان ورفع الحصار، والانتقال لمرحلة السلم الوطني العام وإشراك كافة القوى، وإقامة حكومة وطنية انتقالية تشرف على انتخابات عامة تنبثق عنها دولة شرعية تحظى بشرعية ورضى المجتمع اليمني، وتسليم السلاح الثقيل أياً كان موقعه على الأرض اليمنية، إليها.

محاولة للذهاب إلى الحرب بالوكالة
قوانين الحرب والتفاوض
إن ضرورة وجودية وكيانية اضطرته لهذه الخطوات التنازلية، وليس الرغبة بالسلم ووقف العدوان، بل ما فرضه واقع المعركة وخياراته، خاصة وأن القوات اليمنية في أعماقها تتنامى إمكانياتها وقدراتها، لا سيما بما اغتنمته من الأسلحة والذخائر والمعدات الأمريكية السعودية، وأشارت إلى هذا الأمر الصحف الأمريكية والبريطانية التي أكدت أن ما غنمته القوات اليمنية في الحدود تتراوح قيمته بين نصف مليار ومليار دولار، كما باتت الحرب بنظر العدو وشيكة لتتحول من حرب دفاعية إلى حرب استرداد وتحرير وطني للأراضي المحتلة منذ الثلاثينيات، وهو ما تخشاه الإدارات السعودية والأمريكية، خاصة وأن القوى الوطنية اليمنية في المناطق المحتلة تعيش حالة من الغليان الوطني والقومي، جوهره الالتحام بالوطن والعودة إلى حضنه، في ظل الارتباط العميق بين بنية القبائل اليمنية في جنوب المملكة وشرقها الزاخر بالثورة، والمرتبط تاريخياً ووجدانياً بالقبائل اليمنية، وبمقدمتها قبائل يام الهمدانية النجرانية في القطيف والأحساء، والتي كانت مترابطة قبلياً كمنطقة واحدة مركزها نجران قبل هذه التقطعات التي فرضها المستعمر طمعاً ببحر الثروة الممتد من الشرقية وصولاً للربع الخالي والجوف ومأرب وشبوة.
ومن هنا، فإن الاستمرار بالعدوان بعد خسارته الميدانية الواضحة لا معنى له إلا تمزيق الكيان وانفلاشه، بدفع تناقضاته الداخلية إلى أقصى منطقيتها التفجرية، وهذا ما يسعى له المستعمر راعي المشروع التمزيقي للمنطقة الذي يعمل الآن.
وأمام هذا المصير الموحش الذي يواجه المنطقة العربية من مركز الغرب، بادر القادة الوطنيون والعرب إلى وضع أمراء السعودية أمام مجهر مصيرها الكاشف المخطط له من أسيادها، مناشدين السعودية برغم توحش عدوانها، أن تستفيق من ضلالها المقيم، إذ في الوقت نفسه الذي تقتل فيه الشعب اليمني وتنفذ مخططات تمزيقه، تخلق بهذه الطريقة كافة المقدمات الموضوعية والجدلية لتفكيك كيانها واندثاره، وهو ما أكدته المخططات والخرائط التي أصدرتها وزارة الدفاع الأمريكية واعتمدتها لدى المعاهد الاستراتيجية العليا للناتو كإطار عام لما ينبغي تحقيقه مستقبلاً، وهو أمر أثار استغراب عسكريين أتراك شاركوا في الدورات الأخيرة التي أقيمت في روما، فيما يرفض السعوديون التعلم من مصائبهم وأخطائهم، وبلا شك أن الحملات الأمريكية والغربية الإعلامية لفضح ملفات كانت مخفية عن الإرهاب ودور السعودية فيه واستقذار العلاقات معها الآن، والتي أبداها أوباما علناً في الصحف، هي جزء من مقدمات العملية المخططة، وليس حرصاً على الإنسانية، ولا عداءً حقيقياً للإرهاب الذي كانت السعودية وما زالت فقاسته بمعية الأمريكان والغربيين أنفسهم.
في هذا السياق، أدركت القيادة الوطنية اليمنية هذا المشروع الصهيوني وأبعاده ومترتباته، ولسلامة صدقها الوطني والقومي والاستراتيجي أتاحت للسعودية المخرج الآمن تنحياً عن الوصول لهذا المشروع الذي يدفع الاستعمار له بقوة الآن.
عندما تخسر دولة الحرب، عليها أن تبادر الى طلب الصلح من الخصم فوراً، لأن كل تأخير يزيد من تكاليف الصلح والصراع الذي يصبح أكثر تعقيداً، وهذه هي القاعدة الأصلية في الصراع الدولي، لكن السعودية تأخرت كثيراً عن اللحظة السليمة التي بدأت تتجلى في الأسابيع الأولى للعدوان، بعد فشل الضربات الصاروخية الأولى في تحقيق بنك أهدافها، وهنا كانت المعركة قد حسمت استراتيجياً لصالح اليمن.
وها هي الآن تحاول الصلح بعد كل هذا الخراب الشامل والكبير الذي لاقاه وطننا، إلا أنها ما تزال تتهرب من المسؤولية القانونية التي تلزمها بتحمل الأعباء والخسائر التي تسببت بها بعدوانها الغاشم، ووضع الضمانات بعدم التدخل في الشؤون اليمنية مرة أخرى.

 الردع اليماني الراهن
بعد الانهيارات العدوانية الآن لم تعد توجد أية قوة بإمكانها أن توقف التقدم والزحف اليماني نحو العمق السعودي إطلاقاً، لا أمريكا ولا بريطانيا، ولا بمقدور أية قوة المسارعة الى استباق الزحف اليماني الكبير الذي بدأ التحضير له على قدم وساق، ممثلاً بالخيارات الاستراتيجية والزحوف العظمى والأطواق والإرفاد والتحشيد الشعبي الكبير على جميع الجبهات الرئيسية، وهذا شكل شبحاً مرعباً يلقي بظلاله على الوضع السعودي كله.
لقد أدركت السعودية متأخرة جدية اليمنيين، الذين إذا ما عزموا، فلا راد لفعلهم أبداً، إلا أن يمضي إلا غاياته، ولو أرادوا خلع الجبال لخلعوها كما أخبر عنهم أحد ملوك الصين خلال المعارك الإسلامية التي خاضها قادة يمانيون، ووصلوا إلى حدود بلاده.

حدود التسوية التي تريدها السعودية
 نقطة الوجع الشديد
تريد السعودية تسوية مؤقتة تسمح لها بالخروج من الواجهة الحربية المباشرة والعودة سراً من الباطن، وخلف مقاولين جدد دوليين وإقليميين ومحليين، فالحساسية الشديدة لحدودها الجنوبية هي النقطة التي توجعها أكثر من أية جهة أخرى، وقد أدرك اليمني هذا الضعف، وراح يضغط عليه بقوة، واستغله جيداً في مواجهة العدوان حتى أذله، وما تزال ورقة قوية في قبضته.

اصطدامات الكويت الدولية والإقليمية
تتقاطع في الكويت اليوم العديد من المصالح والأجندات الاستراتيجية والمواقف الحقيقية للأطراف حول العدوان والسلم الذي يريده كل طرف في حدود مصالحه، وهناك الآن أجندتان رئيسيتان تتصارعان من بداية المشاورات على طاولة الكويت:
الأول، اليمني ووفده الوطني القادم من العاصمة صنعاء، وهو محمل بهم الوطن وإرادة السلم الشريف الشجاع. والثاني، يحملها الآخر وفد الرياض الذي يهدف الى تحقيق اختراقات تكتيكية توظف الوقت لتحقيق انتصارات بالخديعة والكذب والمناورات، كما يفعل دائماً في المشاورات السابقة، وهو يعبر فعلياً عن الإرادة الأجنبية، ويعمل لديها كموظف لا أكثر.

أجندة الوطن
وهي أجندة مترابطة وكلية لا تقبل التجزئة والتقسيم في الحلول أو التأجيل، ومفرداتها هي: الحل السلمي الكامل والناجز، وحل جميع المسائل المطروحة، ووقف الحرب والعدوان بكل ألوانه، ورفع الحصار عن البلاد براً بحراً وجواً، والاتفاق على آلية حكومية وطنية موحدة تضم الفرقاء جميعاً كحكومة انتقالية. كما فرضت النقاش حول تثبيت وقف إطلاق النار الشامل قبل أي مناقشات، وحاول وفد الرياض المراوغة دون جدوى، وراح يخسر مواقع جديدة نتيجة لخروقاته، حتى أعلن الوفد أنه سوف يلتزم بوقف النار بعد سفر الأمير الكويتي إلى العاصمة السعودية، لمعرفة الموقف الحقيقي للرياض، هل تريد أم لا تريد وقف النار؟ وكانت الإجابة بأنها تريد.

المآلات الموضوعية المتوقعة للكويت
المشكلات الراهنة المباشرة
الآن يذهب اليمني الى المفاوضات الجانبية بعد مفاوضات رئيسية تمت في الظهران مع الطرف العدواني الأصلي، مع المسؤول الأول للعدوان والاحتلال، أما المشاورات الحالية هدفها تنفيذ اتفاقات الرياض التي سبق التوافق عليها مطلع مارس، بعد انهيارات الربوعة ونهم وميدي، وهناك فارق حاسم بين اللقاءات السابقة في جنيف 1-2، وبين الكويت اليوم، إذ لم يكن قدوم الوفد المقابل والموافقة على الجلوس معه والتوقيع على المخرجات، إلا إذا حمل معه تفويضاً من الطرف الأصيل الذي يتحكم بالقرار.
وتعد عملية المكلا العسكرية الأخيرة، امتداداً لمشروع أمريكي سعودي بريطاني، لتكريس السيطرة الاحتلالية الدائمة للجنوب النفطي، ومحاولة تكريس وتمرير هذه الحالة على الوفد الوطني واستهداف إرادته ووعيه، وهي مسعى يهدد مشاورات الكويت الجارية وما سبقها من تفاهمات بالانفجار التام، إذ لن يقبل الموفد الوطني اليمني هذا الابتزاز الرخيص، لا سيما خلال المشاورات الجارية، وتحاول السعودية الاختفاء خلف لعبة الإمارات والأمريكيين والقاعدة لإخراج المسرحية الهزيلة التي كانت مجرد غطاء استراتيجي لنقل القوى الضاربة للقاعدة وداعش والأسلحة الثقيلة للمناطق الشرقية في مأرب والجوف وشبوة، وانخراطها بالحملات الهجومية المهددة للعاصمة، والمنطوية على ابتزاز رخيص آخر أكثر مما ينطوي على واقع قوة فعلية، وتم اختبارها خلال عام بمئات المواجهات.

أوراق المفاوض اليمني القوية
في سياق القرارات الدولية المجمع عليها من مجلس الأمن الدولي، وكمخرج من الأزمة السياسية الحالية تصبح الانتخابات النيابية والرئاسية والمحلية، أفضل مخرج وأهم آلية ديمقراطية تحظى بإجماع دولي ومحلي وشعبي. وهي ورقة قوية، خاصة الانتخابات العامة بإشراف الأمم المتحدة وبأطراف نزيهة دولية، ويحترم الجميع نتائجها، إذ إن القاعدة الشعبية في معظمها ليست مع العدوان ولا وكلائه، بل مع القوى الوطنية اليمنية.

العدو في ورطة 
الوضع في الميدان مضروب الآن، ولم يعودوا قادرين على تجميع 20 ألف مقاتل حقيقي على جبهة واحدة للقتال بجدية، منهكين ومتعبين مادياً ومعنوياً، إلى الحد الذي يعتقد العدو الآن أن أي تأخير عن عقد صفقة سلم مؤقتة سوف تؤدي إلى انهيار وهروب شامل في جبهاتهم، ولا مخرج للسعودية الآن وقواتها إلا توسل السلم والرضوخ للمطالب اليمانية.
عاشت الثورة الشعبية التحررية، وعاش الوطن حراً مستقلاً، ولشعبنا الآن أن يرفع سقف مطالبه إلى عنان السماء، استحقاقاً للنصر والصمود الأسطوري والمجالدة التاريخية أمام العدوان الكوني، وله أن يقرر طريقة وقواعد عيشه ومزاولة نشاطه السياسي وحريته كما حلم وناضل منذ عقود.