هذا المقال كان قد كُتب احتفاءً بالثورة الشعبية الجديدة المتصاعدة من رحم معاناة الشعب الكادح، وكانت قد وصلت الثورة ساعة كتابة هذا الموضوع إلى محافظة عمران والخُمري، تدك حصون الفساد والقهر، وركزنا في الموضوع رداً على الهجوم الإعلامي والسياسي الضخم الذي قادته النخبة اليسارية المزورة ضد الثورة، وراحت فيه تلفق الأكاذيب وتزور كل حقيقة وتشوه حاملي الثورة من أبناء الشعب البسيط المسحوق.. والموضوع لم يلق النور نتيجة لحصار خانق آنذاك كان مطبقاً، وخاصةً من قبل اليسار البيروقراطي المزور الجاثم على وسائل التعبير والتغيير. واليوم نجد من الضروري نشر الموضوع مع اقتراب العام على العدوان الذي هلع للفتك بالثورة دون جدوى، لتسليط الضوء على موقف هذا اليسار المزور المعادي للشعب وثورته تلك الفترة، بكل تكويناته من قوميين وبعثيين واشتراكيين، ولموقفه اليوم الذي لا غرابة أن يكون في صف العدوان على الشعب كمآل طبيعي للانحرافات الأخلاقية والفكرية والتاريخية، وانقطاعهم عن جذورهم المجتمعية الحقيقية، وكلها إفرازات الطبقة والمنظومة التي نشأوا في تصريفاتها، ومن أجل إعادة الاعتبار لليسار الحقيقي الثوري المتجسد بالطبقات الشعبية من فلاحين ومزارعين وعمال ومثقفين وطنيين ومقاتلين وجنود يخوضون اليوم أروع البطولات، وكذا لإعادة اللحمة بين الفلاح المسلح والفلاح المثقف، وهي اللحمة التي فككها المستعمر وبقايا ليبرالييه الكولونياليين.
مدخل..
لقد فشلت جميع ثوراتنا السابقة (ما قبل 21 أيلول) لأن من سيطر على قيادتها كانت نخب برجوازية (تجارية) صغيرة ومتوسطة وكبيرة، لا تملك مشروعاً اجتماعيا جديدا لرفع الواقع الاقتصادي الاجتماعي الاستغلالي القائم، بل كانت تنتمي بمصالحها الاقتصادية لذات الطبقات الاستبدادية الطفيلية التجارية. ولا شك أن الرهان الاجتماعي على صغار التجار الطفيليين بكل ارتباطاتها وإنتاجاتها الفكرية والنظرية والسياسية، كان رهاناً على كائن تم خصيه من منشئه، لأنه ولد مرتبطاً بالكولونيالية الأجنبية الإمبريالية بطبيعتها.

القيادة البرجوازية الاشتراكية
معضلة الاشتراكي في الثورة الحالية، هي أنه واقع تحت سيطرة برجوازية (طفيلية وسطى كبيرة وصغيرة) من حيث وضع قياداته النخبوية الراهنة، ومن حيث الخط الفكري السياسي الذي تتبعه، الخط الذي لا يعبر إلا عن مصالحها، وأهدافها وأوهامها هي، ولذلك فهي لا تتطابق مصالحها الاقتصادية الاجتماعية مع أوضاع وأحوال القاعدة الشعبية الكادحة العمالية الفلاحية الجندية الشبابية.
وذلك ما يجعلها عاجزة عن القيام بدور الطليعة الثورية للطبقات الشعبية الكادحة ذات الطابع والمزاج الثوري، فكل ما تفعله في الثورة هو البحث دوماً عن صفقات تعقدها مع العدو تتقاسم معه المكاسب والضرائب، فالوضع الاجتماعي الموضوعي للشعب الكادح قد بلغ درجة كبيرة من السخط والغضب والمطالبة بالثورة العنيفة الجذرية، مشتبكاً طوال سنوات دامية مع قوى السلطة الباطشة والعميلة، وتقديم آلاف مؤلفة من الشهداء في هذه الانتفاضات خلال السنوات الماضية، والتي مهدت لثورة الشعب الجديدة، التي يتكالب عليها العالم كله اليوم.
لكن القيادات كانت دوماً ما تطالب به بالتردد والتقلقل والركون إلى السلمية والانتخابات البرلمانية والإصلاحات السياسية (الانتخابية) التي لا تتجاوز مطلب إصلاح القائمة الانتخابية، وغيرها من التوافقات والإصلاحات الواهية. وهذا النهج السياسي والفكري لا يعبر إلا عن مخاوفها الفعلية الكامنة في هاجسها الداخلي الفزع من التغيير الحقيقي الاجتماعي والسياسي الذي يمس حتماً شبكة مصالح طفيلية أمست هي نفسها جزءاً من هذه المصالح الطفيلية والتكسبية.
إن الثورة الشعبية الفلاحية الزراعية والمدنية الكادحة التي شارك فيها ملايين الكادحين الفقراء، وتنامي الكفاح المسلح كخيار أخير شعبي ووطني يرد على العدوانات المتكررة على الشعب بسلاح تحالف الداخل العميل والخارج المستعمر، هي اليوم تتسع في كل مكان من الأرض اليمنية.
إن البيروقراطية الاستبدادية الحاكمة لا يمكن إسقاطها بالسلم ما دامت ترفع السلاح في وجه الشعب الأعزل، وتمطر الاحتجاجات بالقنابل والصواريخ والمدافع، وهذا ما يبادر إليه الجمهور الشعبي الريفي الذي حمل السلاح في وجه السلاح الرجعي الإمبريالي، والذي حقق انتصارات هائلة وأصبح الوقود على أرض الميدان، وأمام ذلك كله لا تزال هذه المسماة قيادات للأحزاب تسترزق علناً من صناديق السفارات السعودية والأمريكية والبريطانية والقطرية والإماراتية.
إن معضلة الاشتراكي هي أنه بات عاجزاً عن أن يكون قيادة ثورية شعبية، أي أن يكون اشتراكياً ثورياً وطنياً حقيقياً ملتحماً بشعبه، نتيجة لسيطرة الليبرالية البرجوازية على قيادته وعلى قراره وسياساته التي لا تخدم الشعب الثائر بقدر ما تخدم البرجوازية الطفيلية. وهي نفسها قد تحولت سراً من خلف ظهر رفاقها إلى مستثمرين ومافيات بأموال الثورة والشعب والرشاوى، ولا أسف. وقد صار عدد من رؤوس اليسار في عداد كبار المليارديرات (الحرامية) أو القطط السمان.
هذه القيادة قد حولت الحزب إلى جهاز بيروقراطي، جاف مفكك، تائه وفاقد الاتجاه والهدف، تحركه البرجوازية نحو الاتجاهات التي تخدمها وتخدم خياراتها في الحفاظ على المنظومة المسيطرة وامتيازاتها، وتحييد الكتلة الثورية الشعبية في اليسار وتتويهها في صراعات إثنية واستنزافية.
إن الثورة التي غدرت بها قوى الانتهازية السياسية بمبادرة السعودية، تنهض اليوم مجدداً بزعامة الفلاحين والوطنيين الثائرين المسلحين، وهم يسددون الضربات الموجعة الواحدة تلو الأخرى إلى بقايا دولة الاستبداد والفساد الطفيلي. ودون الالتفات لأوهام وتفاهات وثرثرات النخب الليبرالية من لندن إلى باريس إلى أبو ظبي.

الموقف الحقيقي لليسار
إن موقف اليسار الحقيقي هو في الانحياز إليهم لا الحياد، فالمعركة الحالية هي معركته هو، معركة الشعب الكادح ضد البيروقراطية والفساد، فكيف يقف اليسار في الاتجاه الخاطئ لحقوق وأهداف طبقاته الشعبية الكادحة؟!
كيف ينجر إلى توصيفات وتقييمات فئوية جغرافية ومذهبية في النظر إلى حراك شعبي اجتماعي عفوي هبت إليه جموع الفلاحين والكادحين والمفقرين وعوام القبائل الشعبية.

الفلاح المسلح
هل القبيلي هو العدو؟ لماذا! ومن هو؟
لماذا هذا التوصيف للقبيلي المسلح الثائر بأفظع الألفاظ وأكثرها عنصرية واحتقاراً لآدميته، بل واستنقاصاً لكونه مواطناً، ولا يعلمون أنه ضحيتهم وضحية غياب الحامل لحقوقهم ومصالحهم الاجتماعية، ولذلك عليهم أن يتحملوا اليوم ثورتهم العامية التي صنعوها بأيديهم.
هل القبيلي هو أجنبي أم هو واحد من الشعب مزارعي وفلاحي هذه البلاد، إلا أنه قبيلي مسلح، فكل اليمن قبلية إلى القرون القريبة. وغالبية الشعب اليوم هم لا يزالون ضمن بنية القبيلة، وأكثرهم قبائل مسلحة في الشمال والجنوب والشرق والغرب والوسط.. أليس هذا القبيلي فلاحاً مزارعاً كادحاً وفقيراً من أهدافه ومصالحه التحرر والثورة؟!

القبيلي الفلاح العامل الكادح.. حقيقة موضوعية
إن كل من ينكر أن القبيلي مزارع وكادح وفلاح وراعٍ ووطني، هو لا عقل له إطلاقاً، ولا يجوز مجادلته من الأساس لأنه تافه الفكر والروح.
فإذا كان القبيلي فلاحاً ومسلحاً وثائراً، فأين المشكلة معه؟
وهل كانت السلطة التي تقهره لـ50 عاماً، سلمية وعارية من السلاح حتى تطالبه بترك السلاح؟ وهل هو المبادر للسلاح، أم أن السلطة هي التي رفعت السلاح والعدوان؟ ولم تمنع أية وسيلة لوقفه سوى السلاح الشعبي الممتد في الحركة الشعبية القبائلية الثائرة.
إن انتفاضة القبيلي هي انتفاضة الريف المظلوم ضد البيروقراطية المستبدة التجارية الفاسدة العميلة. وهذه الحركة شعبية لأنها تخدم مطالب كل الشعب الكادح المظلوم، أما النافذون الرساميل الطفيليون أصحاب الامتيازات، فهم إن خافوا _ويجب عليهم ذلك _ من مواجهتها لأنها فعلاً تستهدف جميع مصالحهم القائمة على الاستغلال والفساد والعمالة والاتجار بمعاناة الشعب.

التبرجز القيادي والإفقار القاعدي
ليست المسألة الاشتراكية الحالية مسألة استبدال رئيس برئيس جديد مادامت النخب الطبقية المسيطرة هي نفسها طوال عقدين وأكثر بغير تغير، وقد أصبحت شريحة برجوازية ورأسمالية بيروقراطية نتيجة هذا التحول الرأسمالي الطفيلي الذي أصاب القيادة العليا للاشتراكي، فلقد نشأت طبقة جديدة في قمة الهرم الحزبي، طبقة غريبة معادية موضوعياً لكل أهداف الشعب الكادح الذي يمثلها ويعبر عنها، والذي يفترض أنها طليعة الطبقات الكادحة وضمان المطالب الفقيرة للمحرومين والكادحين.
إن قولنا هو حول التحول البرجوازي الطفيلي في القيادة الحزبية (خلال عقدين منصرمين)، حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها إلا من قبل العميان وحدهم، لأنها واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، وهم لا ينكرون برجوازيتهم العامة.

التبرجز والتجارة العامة
أن يكون للحزب أموال عامة تعود عليه من الاستثمار التجاري، هو شيء طبيعي، وليس موضوعنا، لأنه أمر عادي لا يخص أفراداً، لكنه عمومي، فهو في الأخير مال عام.
إن ما نقصد به هنا أن قيادة الاشتراكي التي صعدت إلى قمته خلال العقود الثلاثة، ولم تزل على القمة بطرق بيروقراطية استبدادية، قد صعدت وهي كادحة وتتكلم عن الكادحين والعمال، ولم تكن تمثل إلا هؤلاء حين كانت منهم وإليهم.
أما اليوم فقد تحولت بفعل علاقاتها السلطوية البيروقراطية، فقد وظفت مواقعها للإثراء الشخصي، سواء إثراء من أموال الحزب أو مصادر أخرى خارجه، وخصوصاً في فترة تسلط السيد ياسين وإخوانه.
وقد تحولت الطبقة الواقعة في هرم الحزب إلى طبقة جديدة برجوازية كبيرة لا تعمل في المجال الإنتاجي حتى تصبح رأسمالية حقيقية، بل هي تنشط في المجال التجاري الريعي الطفيلي البيروقراطي الكولونيالي الكبمرادوري، الضار بالاقتصاد الوطني الذي يشارك في عملية امتصاص دم الشعب، ونتيجة لذلك قد انتقلت طبقياً وموضوعياً واقتصادياً من مواقع الطبقة الشعبية البسيطة العامية، إلى مواقع معادية اقتصادياً واجتماعياً، إلى مواقع النخبة المالية الكولونيالية، مواقع الخصم الطبقي الاجتماعي لليسار.

قيادة الصراع الطبقي ضد من إذن؟
خلال العقدين الأخيرين اشتد في البلاد الصراع الاجتماعي الوطني بكل أشكاله، في إطار أزمة وطنية مجتمعية ثورية شاملة، كونت الأرضية الموضوعية للتناقضات الثورية أو الوضع الثوري، وفرضت على (الطليعة الذاتية) أن تتطابق وتتناغم مع مقتضيات هذا الوضع الثوري، أي أن تكون ثورية وتتبنى خطة ونهجاً ثورياً. وهنا ظهرت الأزمة والتناقض البنيوي بين الرأس والجسد، أي أن الطليعة أصبحت موضوعياً ضد اندفاع الثورة أو تولدها، واستبقت الوعي بأفكار وأطروحات زائفة ومشوهة ونافية للثورة وضرورتها.
وبالتالي، وقياساً بمواقف هذه النخب الطفيلية من الشعب وقضاياه، فإن الصراع ضد من بالضبط؟ ومن قواه الحقيقية إذن؟ ولذا فقد اتجهت هذه النخب لخيانة الثورة مع أعداء الثورة.

 اليسار يناضل ضد نفسه
في الواقع الفعلي، من المؤكد أن هذه النخب الطفيلية سوف تخدم مصالح طبقتها هي أولاً، بينما لن تخدم القضية الاجتماعية الوطنية وتدعمها إلا بشكل مشوه ويائس.
ولذلك فإن اليسار من خلال قيادته سيجد نفسه ضد قضاياه التاريخية، وذاته أيضاً، وضد حقوقه ومصالحه الاجتماعية وثوراته ومعاركه ومطالبه، لأن القيادة أصبحت في حالة عداء اجتماعي تناقضي مع عامة الشعب والوطن، موضوعياً بغض النظر عن الرغبات الذاتية لبعض الشخصيات المثالية الوسطية التي تعتقد أنه يمكن التوفيق بين المتناقضات الواقعية ذهنياً!
إن خطورة هذا الصراع بين اتجاهين لا يلتقيان، صراع طبقي تناحري داخل الحزب الطبقي نفسه وقيادته، وإن هذه حقيقة قائمة اليوم، وإن لم تكشف بشكل مباشر، وهو السبب الرئيسي في هذا الجمود والتفكك والتشتت والتيه والضياع والفساد السياسي والإداري والمالي والرقابي على المستويات المختلفة.
والصراع الواقع اليوم، حقيقة قائمة، أما ما يجري من صراع عنيف ومكتوم على المستويات التنظيمية، فإنه سرعان ما سيتفاقم ويفجر الأطر التي تخنقه اليوم، أو يقود إلى تحللها جميعاً أو ما يسمى (الغارغرينا) الفكرية والسياسية، وسيؤدي ذلك لتعفن ظاهرة اليسار ككل، وعجزها عن تصحيح أوضاعها، وستجد نفسها في سلة التاريخ تموت بلا مجد كملحق من ملحقات اليمين الإمبريالي.

أحزاب الاشتراكيين ليست أحزاباً برجوازية
في أحزاب البرجوازية، يكون مفهوماً أن يتحول قادتها إلى نخبة تجارية، لأنهم مسؤولون عن مصالح التجار عامة، وهذا من الطبيعي جداً بالنسبة لهم؛ لأن ذلك جزء من نشاط هذه الأحزاب الطفيلية، وجزء من حياتها أن تمارس هذا الاستغلال المقيت، وهي إذ تفعل ذلك فإنها تدافع عن طبقتها وعن مصالحها وعن نشاطها الشرعي واللاشرعي.
لكن من غير المنطقي وغير الطبيعي أن تكون نخبة تجارية، بدأت تتكون على حساب حزب يساري قام من الأساس على الدفاع عن مصالح وحقوق وأهداف الكادحين أولاً وأخيراً.
وليست هذه المسألة حسداً أو كراهية؛ لأن تحسين أوضاع هؤلاء القادة إلى حد ما أمر شخصي، ولكن الأمر غير الطبيعي هو أن تحسن المعيشة والدخل والرفاهية يكون على حساب الكادحين والمسحوقين، ولو علمت حقاً القاعدة الشعبية الحزبية الشريفة بهذه الأوضاع الفاسدة، لكان لها مواقف أخرى غير مرضية لهم.
أخيراً، لا غرابة أن نجد مواقف هذا اليسار المزور من الشعب الكادح وقضاياه وثورته على هذه الشاكلة من التضليل والتفاهة والتسطيح والاحتقار، واستهجان بساطة الناس وعاميتهم وسلاحهم الشعبي، لأن مثل هؤلاء يعيشون مغربين عن واقعهم الاجتماعي، منقادين بواقع الإمبريالية ووهمها وخداعها. وليست هذه التناولة إلا جانباً يسيراً من ظاهرة تاريخية ستتناول في حلقات أخرى.