الدور الإسرائيلي في اليمن .. لعبة القط القذر
- تم النشر بواسطة صحيفة لا / طلال سفيان
الدور الإسرائيلي في اليمن.. تهجير وجواسيس وعدوان
لعبة القط القذر
لتاريخ طويل مدت الدولة العبرية أياديها البشعة باتجاه اليمن ، عبر حلقات متشابكة تمثلت بعمليات تهجير وتهريب أبناء الطائفة اليهودية اليمنية إلى الكيان الصهيوني الغاصب، وإرسال وتجنيد الجواسيس، والمشاركة في الحروب التي يقوم بها الخارج على اليمن، ومحاولة السيطرة على مضيق باب المندب.
في ساعة متأخرة من مساء الـ17 من نوفمبر الماضي، تمكنت الأجهزة الأمنية واللجان الشعبية بمحافظة ذمار، من القبض على خلية إرهابية تضم 17 عنصراً من الجنسيتين الصومالية والإثيوبية.. وتقوم هذه الخلية بمهام استخباراتية، إذ ضبط بحوزة أفرادها العديد من أجهزة الاتصالات المتطورة وأقراص الليزر التي سجلت عليها فيديوهات وصور لمقار مؤسسات أمنية ومدنية ومنازل وشوارع وعدد من المواطنين والشخصيات الكبيرة والهامة، بالإضافة إلى سجلات مالية تتصل بنشاط الخلية التجسسية.
مثل التدفق الهائل للاجئين من القرن الأفريقي، وانتشارهم غير المنظم في مختلف أرجاء الوطن، حالة من الخطورة, فالخلية التجسسية التي تم القبض عليها كانت تقوم بجمع المعلومات ورصد مواقع القوة البشرية والمادية اليمنية، لصالح العدو الصهيوني وربيبه السعودي، مستغلين روح التعامل الإنساني التي يتحلى بها الشعب اليمني الحر مع الغرباء الذين يفرون من جحيم الظروف في بلدانهم.
لابد من أخذ الحذر والاتعاظ من الدرس، والعمل لإسقاط كل المخططات العدوانية.
الأحد قبل الماضي, أجلت محكمة في صنعاء جلسة محاكمة شخص ينتمي للطائفة البهائية، متهم بـ(التجسس لإسرائيل)، يدعى حامد كمال بن حيدرة، المعتقل منذ سنتين ونصف.
اعتقال بن حيدرة يعود إلى نهاية عام 2013م، من طرف جهاز الأمن القومي، من مقر عمله في شركة للنفط، وتتهمه النيابة العامة بـ(التجسس لصالح إسرائيل من خلال التغرير ببعض اليمنيين لأجل الخروج من الإسلام، واعتناق البهائية، ممّا من شأنه الإضرار باليمن واستقلاليتها وسلامتها). وتقول النيابة العامة إنه مواطن إيراني اسمه الحقيقي حامد ميرزا كمالي سروستاني، وإنه انتحل اسمًا يمنيًا وزوّر وثائقه الشخصية.
وكانت الأجهزة الأمنية اليمنية اعتقلت شخصاً يحمل الجنسية الإسرائيلية. وفي 2009م كانت محكمة يمنية حكمت بالإعدام على مواطن يمني وجهت إليه تهمة التجسس لصالح إسرائيل، كما حكم بالسجن على يمنيين آخرين في القضية ذاتها. ولم تكن هذه الحالات هي الأولى في دائرة إرسال الموساد لجواسيسه إلى اليمن، وتجنيد خلايا لهذا الغرض, فقد سبقها قصتان لجاسوسين إسرائيليين وقعا في شباك الأجهزة الأمنية اليمنية، وظهرت معهما الكثير من الحقائق المخفية حول دور الجاسوسية الإسرائيلية على اليمن وأهدافها الخبيثة.
في سبتمبر 2012, ألقي القبض على شخص يحمل الجنسية الإسرائيلية، يعمل لحساب الموساد، ويقود شبكة تجسس في اليمن, يحمل اسمين أحدهما (علي عبدالله محسن الحيمي السياغي)، والثاني (إبراهام درعي).
وبعد عملية مراقبة ورصد ألقي القبض على إبراهام درعي في منطقة باب موسى بمدينة تعز، من قبل أفراد البحث الجنائي, توصلت التحقيقات مع هذا الجاسوس الإسرائيلي إلى اعترافه بأن كثيراً من الأطفال اليمنيين الذين فقدوا قبل أعوام، تم تهريبهم إلى دول الجوار عبر منظمات صهيونية، ومنها إلى إسرائيل، ومن ثم يقوم جهاز الموساد بتعليمهم وتدريبهم كعملاء له، ومن ثم إرسالهم إلى اليمن أو إلى أية دولة عربية أو إسلامية، بأسماء وجنسيات مختلفة أحياناً للعمل لصالح الموساد واختراق المنظمات الإسلامية.
ولد إبراهام درعي عام 1982 في مديرية ريدة محافظة عمران، لطائفة يهودية ولأب مجهول, وتربى وهو طفل لدى أسرة من آل السياغي في الحيمة، وهي التي تبنته، ثم حمل اسمها, غير أنه اضطر إلى تغيير اسمه إلى إبراهام في وقت لاحق، بعد أن أخبره بعض اليمنيين أن التبني لا يجوز.
هاجر درعي من اليمن وعمره 17 عاماً، عن طريق التهريب إلى دولة خليجية، ومنها تواصل مع القنصلية الأمريكية التي استضافته، وأخذت منه الحمض النووي، ومنحته رخصة مرور إلى إسرائيل عبر الأراضي السعودية مروراً بالأردن، حتى وصل إلى تل أبيب، ودرس التعاليم الدينية والأساسية في إحدى المستوطنات لليهود المهاجرين من اليمن في فلسطين.
منح درعي الذي يجيد العربية والإنجليزية والعبرية كتابة ونطقاً، إجازة دراسية من إسرائيل إلى روسيا لتلقي علوم الحاسوب والبرمجيات والفيروسات الإلكترونية الخاصة بالقرصنة وسرقة البيانات، وكان يتقاضى أثناء الدراسة في موسكو 3 آلاف دولار شهرياً، وكان دوره الأصلي يتمثل برفع تقارير للموساد تتعلق بالطلبة العرب في روسيا، وزار عدداً من الدول الأوروبية.
احتجز في اليونان لمدة 3 سنوات بسبب بحث كان يقوم به مرتبط بشخصية قراصنة إنترنت (هاكرز)، وعقب ذلك تم ترحيله إلى سوريا عام 2008م، ومكث فيها لمدة عام على أساس أنه يمني، حيث منحه عملاء الموساد جواز سفر يمنياً، وسحبوا منه جوازه الإسرائيلي الذي كان يحمل فيه اسم (إبراهام).
وأقر درعي في اعترافاته أثناء تحقيقات أجهزة الأمن في محافظة تعز، قبل نقله إلى النيابة في عدن، ومحاكمته في المحكمة الجزائية المتخصصة في مكافحة الإرهاب, أنه سافر إلى 14 دولة من بينها إسرائيل وسوريا وفرنسا، والتقى بعملاء لـ(الموساد)، جندوه للحصول على معلومات عن اليمن. ويأتي اعتقاله في إطار خطة يمنية لضبط شبكة تخابر واسعة النطاق تعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، وسبق اعتقال المتهم ثلاث مرات في جهاز الأمن السياسي (المخابرات)، وأنه لا يملك بطاقة هوية، وأن جواز سفره محتجز لدى الأمن السياسي.. وكشفت تحقيقات النيابة الجزائية في عدن كثيراً من التناقضات في اعترافات المتهم، حيث مارس المناورة.. يعترف مرة وينكر مرة أخرى، وثالثة يدلي باعترافات جديدة، ثم يقول إنه دخل المصحة النفسية بصنعاء لمدة عام.
ومنذ قدومه إلى اليمن مع اندلاع فوضى الربيع العربي عام 2011, قام الجاسوس الإسرائيلي بالتنقل عبر العديد من المحافظات, كما التحق بمعهد دماج في صعدة، متظاهراً بأنه يمني مسلم، والتقى هناك بالكثير من مشائخ السلفية.
ومن جملة الاعترافات التي أدلى بها درعي في التحقيقات التي أجريت معه, أن جهاز الموساد جنده قبل سنوات لتقديم معلومات لإسرائيل عن القوى التابعة لإيران في صنعاء وتعز وعدن ومدن أخرى.
في الربع الأخير من العام 2011 قام درعي بإرسال معلومات مهمة عبر بريده الإلكتروني، تضم قوائم بشخصيات سياسية يمنية، بينها أعضاء في مجلس النواب وإعلاميون وناشطون في منظمات المجتمع المدني وشخصيات مرتبطة بفصائل في الحراك الجنوبي والحوثيين, إلى جانب تقديمه للموساد معلومات مرتبطة بالتراث اليهودي في اليمن، وخرائط لمواقع أثرية كان يسكنها اليهود اليمنيون قبل مغادرتهم اليمن في عملية (بساط الريح)، أواخر خمسينيات القرن الماضي.
لكن.. ما هو مصير هذا الجاسوس الإسرائيلي؟ فبعد الحكم عليه بالسجن المؤبد، ودخوله أحد سجون مدينة عدن, أصبح مصير هذا الجاسوس يكتنفه الكثير من الغموض.. هل تم إطلاقه وتهريبه إلى الدولة الصهيونية؟ وغيرها من الأسئلة الكثيرة..! فبعد نزول العميل هادي إلى مدينة عدن، في 20 مارس 2015م, قامت مليشيات هادي والقاعدة باقتحام السجون وإطلاق المساجين، ودخلت بعدها اليمن بأتون عدوان وحرب من قبل السعودية المسنودة بالآلة العسكرية الأمريكية والإسرائيلية.
ومن قصة إبراهام درعي إلى قصة أخرى لجاسوس إسرائيلي وقع في الشباك اليمنية.
باروخ زكي مزراحي، يهودي مصري، ولد بـمحافظة القاهرة عام 1926م، كان والده واحداً من تجار الدخان، وسمح ثراء والده بإلحاق الابن عام 1940م بمدرسة الفرير الثانوية، المعروفة باسم مدرسة القديس يوسف، وحصل منها على شهادة التوجيهية، من القسم الأدبي، عام 1944، والتحق في العام نفسه بكلية التجارة جامعة القاهرة، وتخرج فيها عام 1948م، وتخصص في المحاسبة.
أصبح باروخ موظفاً ثرياً، بالمعنى المعروف في تلك الأيام، يقطن شقة أنيقة، تحوي كل متطلبات العصر، ويرتدي أفخر الثياب، ويتعطر بأغلى العطور، ويكفل أمه وشقيقته ، وكل شيء يسير معهم على ما يرام. حتى ظهرت فورتينيه.. كان هذا في عام 1955م، عندما التحقت فورتينيه الفاتنة الشقراء بنفس المدرسة، التي يعمل بها باروخ، وأصبحت زميلته في العمل, ومنذ اللحظة الأولي، التي وقع فيها بصره على شعرها الذهبي وابتسامتها الساحرة، غرق باروخ في غرامها حتى النخاع.
وتحت ضغط الهوى والحب، اقتنع باروخ بالهجرة إلى إسرائيل، ورحل مع والدته عبر سفينة من الإسكندرية إلى ميناء بيريه، في السادس من فبراير 1957م، بصحبة الفاتنة فورتينيه.
في الكيان المغتصب انتقل باروخ مع أمه، للعيش في مستعمرة معجان ميخائيل، حيث تعمل أمه في حياكة الملابس، ويعمل هو فلاحاً أجيراً.
بعد افتراقه عن فورتينيه التقى باروخ، أثناء عمله في شرطة الآداب، زميلته مارجريت، فوقع في حبها من أول نظرة، وغرق في بحر الهدوء المطل من عينيها الحانيتين، وسرعان ما تزوجها، وبدأ حياة أسرية جديدة، ينفق عليها من الإتاوات والرشاوى، التي يتقاضاها من قطط الليل، لغض البصر عن نشاطهن.
في أحد الأيام، استدعاه رئيسه، وقال له في لهجة آمرة حازمة، إنه قد رشحه لعمل مهم، وطلب منه أن يذهب إلى مكتب المخابرات، ويقابل رئيسه حايم أيدولوفيتش.. ومن هنا كانت البداية.. لقد التقى في الصباح التالي مدير مكتب المخابرات المحلي البولندي الأصل الذي تفحصه بنظرات سريعة، ثم أبلغه بأنه تم تعيينه في جهاز المخابرات الإسرائيلي، وأسند إليه مهمة مراقبة نشاط بعض الشيوعيين، في قلب إسرائيل, انغمس باروخ فجأة في هذا العالم, كان يغمر رئيسه بتقارير بالغة الخطورة عن نشاط الشيوعيين في إسرائيل، ويتقاضى مكافآت سخية مقابل هذا، وأمام براعته، استدعاه رئيسه ذات يوم، وابتسم ابتسامة كبيرة، وهو يطلب منه أن يذهب لمقابلة شخص مهم، في قهوة فيرد شمال شارع ديزنجوف في تل أبيب، في تمام السادسة مساءً.. وذهب باروخ في الموعد تماماً.. وبدأ خطوته الثانية في عالم المخابرات.
في البداية أسندوا إليه بعض أعمال الترجمة، لتقارير واردة من العملاء الأجانب، ثم استدعاه المدير ذات مرة، وأخبره بأنهم سيرسلونه في مهمة إلى هولندا، حيث افتتحوا مكتباً تجارياً هناك، كغطاء لأعمال التجسس.. فهم باروخ ما يعنيه الأمر، وسافر إلى هولندا، وهناك أقام علاقات جيدة مع المصريين المقيمين في العاصمة الهولندية، ونشطت علاقته بهم، وجمع قدراً كبيراً من المعلومات، جعله يؤكّد أن مستوى الوعي الأمني عند العرب منخفض للغاية.
وبعد النجاح الساحق لمهمته في هولندا، عاد باروخ إلى تل أبيب، ولم تمضِ فترة قصيرة حتى استدعاه مديره مرة أخرى، وقال في لهجة تشف عن أهمية الأمر وخطورته: إن المصريين قد ضربوا إحدى السفن الإسرائيلية، أمام باب المندب، وهذا ما دفعهم إلى أن يسندوا إليه مهمة بالغة الخطورة، يعلقون آمالاً كبيرة على نجاحه فيها، وأن رئيسة الوزراء شخصياً، شديدة الاهتمام بما سيحققه فيها؛ إذ سيسافر أولاً إلى عدن ثم اليمن الشمالية، وبعدها إلى دولة الإمارات.. ويريدونه أن يجمع أكبر قدر من المعلومات عن هذا البلد (اليمن)، ويتابع نشاط منظمة التحرير الفلسطينية والجبهة الشعبية فيها، ويريدون أن يعرفوا بالتحديد، هل يتدرب الفدائيون هناك على ضرب ناقلات البترول الإسرائيلية في البحر الأحمر أم لا؟
شعر باروخ بأهمية المهمة وخطورتها، وهو يبدأ رحلته، بجواز سفر مغربي، يحمل اسم أحمد الصباغ، وعلى كتفه، كأي سائح عادي، آلة تصوير جيدة، تساعده على التقاط صور الأهداف الحيوية، وقبل أن يستقل طائرته بأقل من ساعة، جال بخاطره أمر مقلق.. وماذا لو انكشف أمره؟ وعندما صارح رئيسه موردخاي بهذا، انفجرت عاصفة من الضحك في مقر المخابرات، وأخبروه بكل عنجهية بأن الخطة التي يضعها عباقرة الموساد يستحيل أن يكشفها عرب متخلفون.
وهكذا غادرهم باروخ، وهو يشعر بالزهو والغرور، لأنه يعمل في جهاز خطير ودقيق، مثل المخابرات الإسرائيلية، وسافر إلى عدن، وأنهى مهمته فيها بنجاح، ثم إلى الحديدة، حيث أقام في فندق الإخوة، وبدأ هناك عمله في ثقة وبساطة، فراح يتجوَّل في الأسواق، وبالقرب من الميناء، حاملاً آلة التصوير المعلقة بكتفه، والتي يلتقط بها عشرات الصور للميناء، والسفن الراسية فيه، وإجراءات الأمن من حوله، ثم يعود إلى حجرته في الفندق باسم الثغر، شديد الزهو والهدوء ولكن فجأة، وفي نفس اليوم الذي استعد فيه للسفر إلى أديس أبابا، فوجئ بشابين من رجال الأمن اليمنيين في حجرته، يسألانه في لهجة مهذبة بأنهما سيقومان بتفتيش الحجرة، فحاول الاعتراض، وثار ثورة مصطنعة، وهدد بالاتصال بسفارة المغرب، لم يعر جنود الأمن تهديداته أي انتباه، وعثر الشابان على الأفلام، فصاح مؤكداً أنها مجرد صور تذكارية للرحلة، ولكن أحدهما دسّ يده في جيب باروخ، وأخرج الرسوم الكروكية للميناء والمواقع العسكرية اليمنية، وهو يتساءل: أهذه رسوم تذكارية أيضاً؟!
سقط باروخ، واستسلم لهما وهما يقودانه إلى مبنى التحقيقات، ولكنه ظلّ يصر على أنه مغربي الجنسية، إلا أن الأجهزة الأمنية اليمنية ارتابت بنشاطه، وأبلغت المخابرات المصرية بسقوط الجاسوس، الذي حذرتها مصر من أنه سيصل إليها مسبقاً، بعد أن نقل أحد عيونها المعلومة إليها من قلب إسرائيل، وأرسلت مصر ضابط المخابرات المصري الأسمر رفعت جبريل الملقب بـ(الثعلب)، الذي واجهه، وكشفه أمام نفسه، ثم حمله معه إلى القاهرة.
لم تكن رحلة الضابط المصري مع (السهم المسموم)، من اليمن إلى القاهرة، سهلة أو هينة، بل كانت مغامرة عنيفة، تستحق مجلداً ضخماً لسردها، خاصة مع محاولات الموساد المستميتة لاستعادة ضابطهم.. حاول باروخ الانتحار في المعتقل بقطع شريان يده, وفي اليوم الذي استلم من قبل الضباط المصريين، حاول الهروب وفشل, وكان في انتظاره فرقة من الكومندوز الإسرائيليين, تم التقاطه بغواصة مصرية، وكانت وراءه المقاتلات الإسرائيلية، وبالرغم من ذلك لم يستطيعوا إنقاذ ضابطهم. ولكنهما في النهاية وصلا إلى القاهرة، وتسلمت السلطات باروخ، وقبل أن يبدأ نائب المدعي العسكري العام، تحقيقاته معه، مال نحوه، وأخبره بابتسامة هادئة، أن زوجته مارجريت رزقت بمولودة، أمس، وهي في حالة جيدة.. وهنا انفجر باروخ باكياً، واعترف بكل شيء.
بعد نهاية حرب أكتوبر 1973م، طالبت إسرائيل مصر بمبادلته بمجموعة من الجنود الأسرى، ولكن الجانب المصري رفض المبادلة بحجة أن مزراحي ليس جندياً أسيراً، بل جاسوس, هذا الأمر جعل رئيس الموساد آنذاك يسافر إلى واشنطن من أجل التوسط لصالح مزراحي, وفي منتصف المحادثات طلبت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير، عن طريق وزير دفاعها موشي ديان، الانسحاب من المفاوضات والخضوع للرأي العام، وتجاهل قضية إطلاق سراح مزراحي، والتركيز على استرداد الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى الجانب المصري، الأمر الذي دفع برئيس الموساد إلى تقديم استقالته.
عام 1974 تم الإفراج عن باروخ مقابل الإفراج عن الجاسوس المصري عبد الرحيم قرمان.
أنتجت الدراما المصرية، عام 2012م، مسلسل (الصفعة) الذي يحكي حول تفاصيل القبض على هذا الجاسوس مرزاحي في اليمن، وتوفي (السهم المسموم) سنة 2005م، بهدوء، بدون أن يصدر من الحكومة الإسرائيلية أي بيان رسمي يذكر فيه العرفان والامتنان لما قدمه طوال خدمته العسكرية للكيان الصهيوني، كما هي العادة.
عملية بساط الريح
تبرز العمليات الإسرائيلية في اليمن، وبشكل رئيسي، لتشجيع يهود اليمن على الهجرة إلى الأرض الموعودة، وتهريب آثارهم, ولازالت هذه العجلة تدور بفضل التحالف السعودي الإسرائيلي في كل الميادين والمجالات، فالرياض ومعها عواصم الخليج تقدم (مزهوة) الخدمات والأثمان لإسرائيل، وباتت رقاب حكامها بين أيدي مستشاري الأمن الإسرائيليين، والأموال النفطية وأجهزة الاستخبارات لدول مجلس التعاون الخليجي في خدمة المخططات والأهداف الإسرائيلية، وجميعها (دول الخليج) تتحرك بكل الوسائل نحو تطبيع عربي شامل مع تل أبيب، للتغطية على العلاقات الحميمية التي نسجتها منذ سنوات طويلة مع الدولة العبرية، وجر الدول العربية، والأنظمة المرتدة تحديداً، إلى حظيرة التطبيع.
ومن بين الخدمات التي قدمها مؤخراً النظامان السعودي والإماراتي إلى إسرائيل، نقل آخر مجموعة من يهود اليمن إلى إسرائيل، وتشير معلومات تم تداولها بين عدة عواصم عربية وغربية، إلى أن رئيسي أركان الجيش والاستخبارات في المملكة السعودية، وبمشاركة قائد القوات الإماراتية، وبإشراف أمريكي، نفذوا خطة نقل المجموعة اليهودية اليمنية، حيث نقلت أفرادها طائرة مروحية خاصة، من مكان تجميعهم على مقربة من مدينة عدن، إلى قاعدة الظهران السعودية، ومن هناك أقلتهم طائرة إسرائيلية إلى مطار العاصمة الأردنية، ومن ثم تم نقلهم لإحدى مستوطنات بئر السبع داخل الخط الأخضر المحتل.
ومع وصول 17 يهودياً يمنياً إلى إسرائيل، وبحوزتهم مخطوط من أقدم نسخ التوراة، عمره أكثر من 600 عام، يكون جزء كبير من تاريخ يهود اليمن قد غادر البلد الذي يصفه المؤرخون بأنه أحد أقدم مواطن اليهود.
بدأت هجرة اليهود من اليمن عقب قيام الدولة العبرية مباشرة، حيث أبرمت الوكالة اليهودية، وبالتعاون مع الحكومة البريطانية التي كانت تحكم مستعمرة عدن، اتفاقاً بترحيل نحو 45 ألفاً من اليهود اليمنيين إلى إسرائيل، عبر عملية شهيرة سميت (بساط الريح).
معظم من رحلوا في تلك العملية هم من سكان مدينة صنعاء ومحافظات ذمار وإب وتعز وعمران، وغالبيتهم أصحاب ممتلكات وحاخامات، لكن صلتهم لم تنقطع بمن تبقى باليمن، بل احتفظوا حتى اليوم بتقاليدهم ولهجتهم المحلية العربية، وبالأغاني الشعبية التي ما تزال حاضرة حتى اليوم، وبرز من أبناء هؤلاء فنانون كبار أبرزهم زيان جولان وبركة كوهين، وقبلهما عفراء هزاع وشمعة طيبي.
طوال عقود من الزمن كان عدة حاخامات من اليهود اليمنيين يزورون صنعاء بجوازات سفر بريطانية وأمريكية، ويلتقون بقادة البلاد، ويقدمون أنفسهم كمغتربين يمنيين اضطرتهم الظروف السياسية والاقتصادية إلى مغادرة البلاد.. أبرز هذه الزيارات التي تمت منتصف التسعينيات، ضمت فؤاد حبشوش رئيس الجالية اليهودية اليمنية بالولايات المتحدة الامريكية (ابن حاييم حبشوش أشهر القضاة اليهود في عهد الأئمة)، إلى جانب بعض الباحثين ورجال الدين والفنانين بقيادة شمعة.
ووفق تقديرات الطائفة اليهودية بقي في اليمن حتى مطلع التسعينيات نحو 35 ألف يهودي تركز وجودهم في محافظة عمران بمنطقتي ريدة وحصن ناعط ومنطقة زندان في مديرية أرحب بمحافظة صنعاء، ومجموعة أقل في منطقة السالم في محافظة صعدة، وفتحت لهم ثلاث مدارس لتعلم العبرية والتوراة، لكن هجرة هؤلاء نشطت في التسعينيات، إما عبر الولايات المتحدة أو بريطانيا. ويلاحظ مغادرة هؤلاء بشكل طبيعي إلى إسرائيل عبر الأردن والعودة إلى اليمن بدون أية مضايقات، حيث يفضّل هؤلاء الاحتفاظ بعاداتهم التقليدية المحافظة، ويخشون من تمرد بناتهم على أسرهم بموجب قوانين الدولة العبرية. وجذب الانفتاح والحياة العصرية الكثير من شباب الطائفة اليهودية اليمنية التي كانت تحرص على أن تلحقهم بمعاهد التعليم الديني، وتجنبهم الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي.
في الجانب العقائدي يعتبر اليهود اليمنيون الأكثر قرباً من طائفة الأشكناز المتشددة والمتمركزة في ولاية نيويورك، والتي لا تعترف بالصهيونية، وتعتبر مدن عسقلان وبئر السبع مراكز لتجمع اليهود اليمنيين في إسرائيل، حيث نقلوا إليها عاداتهم وحرفهم اليدوية، كما زرعوا شجرة القات في الأراضي المحتلة.
يمتلك اليهود اليمنيون إرثاً ثقافياً نادراً ومخطوطات من التوراة القديمة النادرة، كما يتكلمون لهجة عبرية قديمة جداً، لكن أدوارهم السياسية في إسرائيل ضعيفة، ولا تكاد تذكر، حيث دخل الكنيست عضوان منهم فقط حتى الآن، ولم يشغل أي منحدر منهم منصباً سياسياً رفيعاً. وهم غالباً ما يفاخرون بانتمائهم إلى اليمن، ويحنون للعودة إليه.
خلال عقد التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثانية، استؤنف نشاط الهجرات الجماعية الصغيرة لليهود اليمنيين, وفي العام 2013 أقدم أحد الأشخاص على قتل يهودي آخر في صنعاء، هو هارون زنداني، بتهمة السحر، فبدأت عملية هروب جديدة للمقيمين في صنعاء، فسافر منهم نحو 30 شخصاً، وبقي اليوم 43 هم الحاخام يحيى يوسف ووالده المقعد وأعمامه وأبناؤهم وزوجاتهم، وهم يتأهبون للرحيل بعد أن قطعت السلطات في صنعاء المساعدات المالية والغذائية عنهم.
التاريخ اليهودي في اليمن لم يطوه النسيان حتى اليوم، فالحي القديم في صنعاء والمعروف بقاع اليهود، لازالت ملامحه تحتفظ بالطابع المعماري ليهود اليمن, وفي تعز يوجد مقام وقبر الأديب والشاعر ورجل الدين سالم الشبزي، الذي يثار أن رفاته قد نقلت إلى إسرائيل منتصف التسعينيات، كما نقلت واحدة من أقدم مخطوطات التوراة التي وجدت في الجامع الكبير بصنعاء، وأهديت لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين، كما تم تهريب العديد من المخطوطات التلمودية من مكتبة ريدة إلى الدولة العبرية.
علبة صلصة مفخخة
نهاية مارس العام الماضي, استقبلت تل أبيب العدوان السعودي على اليمن بإيجابية.. الأمر لايثير الدهشة، فالسعودية لطالما ادعت بأن عدوانها الهمجي على اليمن يأتي في إطار مواجهة إيران، حليفة الحوثيين وعدوة كل من الرياض وتل أبيب، وهي نقطة الالتقاء بين العاصمتين اللتين سارعت وتيرة التقارب بينهما، الذي خرج من نطاق السرية والغرف المغلقة إلى العلن خلال السنوات الأربع الماضية، على خلفية توافقهما ضد إيران، ووحدة رؤيتهما لخطر البرنامج النووي الإيراني عليهما. لذا فإنه من العادي أن يزخر إعلام العدوان السعودي على اليمن، سواء على أرضية مواجهة نفوذ إيران عدوها الرئيسي، أو كونه يدفع المنطقة إلى أتون صراع طائفي ومذهبي الرابح الوحيد منه هو الدولة العبرية.
ومثلما تكشف بمرور السنوات دور رئيسي لإسرائيل-الناشئة وقتها- في حرب اليمن الأولى، وكيفية استثمارها لمواجهة مصر العدو الرئيسي لتحقيق هزيمة 1967، فإنه من غير المستغرب المشاركة الفاعلة للكيان الصهيوني في العدوان الحالي على اليمن، حيث تضاعفت قوة إسرائيل عن سابقها مرات، بموازاة تقدم كبير في علاقاتها مع السعودية، التي اتضح أنها استهلت بالتعاون ضد مصر في حرب اليمن الأولى.. فماذا يمنع أن يتكرر هذا مجدداً بتبدل أدوار الحلفاء والأعداء بالنسبة للاثنين.
لقد ألقى العدوان السعودي على اليمن الضوء مجدداً على مسألة عالقة في ثنايا تاريخ الصراعات الإقليمية في المنطقة خلال العقود الخمسة الماضية، وهي مسألة التوافق الإسرائيلي-السعودي تجاه دعم قوات الملكيين بهدف استنزاف وإنهاك الجيش المصري، الذي كان يدعم الثوار الجمهوريين في اليمن، إبان ثورة 1962، فبعد إشارات مبعثرة هنا وهناك عن تعاون بين تل أبيب والرياض، قد يكون الأول من نوعه بين العاصمتين في مراحل التطبيع بينهما، وعن دور إسرائيل في إضعاف الجيش المصري في اليمن، الذي كان أحد عوامل هزيمة 1967م، كشفت وزارة الدفاع الإسرائيلية عام 2011م، للمرة الأولى، عن مشاركة إسرائيل بجانب السعودية والأردن وبريطانيا، بنقل معدات وأسلحة ومقاتلين لدعم قوات الملكيين، وهو ما يؤكد وبشكل رسمي ليس فقط تقاطع مصلحة تل أبيب مع مصلحة الرياض في استهداف مصر عبد الناصر في اليمن، ولكن أيضاً على العمق التاريخي لمراحل التقارب والتعاون بينهما حتى ولو كان ضد دولة عربية.
وفي ظل تدخلات إسرائيل في الصراعات الإقليمية منذ نشأتها 1948 وحتى عام 1975, وكون أن اليمن يشكل مسرح مواجهة إقليمية واسعة، ليس الآن فحسب في ظل العدوان السعودي الأمريكي الإسرائيلي الحالي، ولكن حتى قبل 50 عاماً، حيث غيرت أحداث حرب اليمن الأولى (1962) ميزان القوى الإقليمية، وأدت بشكل غير مباشر إلى حرب يونيو 1967.
وكشفت الوثائق العسكرية التي أفرج عنها بمقتضى قانون الوثائق الإسرائيلي، أن تل أبيب تدخلت عسكرياً في الحرب الأهلية اليمنية الأولى، بوازع أن أي إضعاف لقوة مصر يأتي في صالحها، حيث إن مصر قد دعمت الجمهوريين بعد لجوئهم إلى عبد الناصر عقب ثورة 1962.
تركزت المخاوف الإسرائيلية من انتشار المد الثوري والتحرر من الاستعمار في كل الدول العربية، وقرر الثلاثة (السعودية، الأردن، بريطانيا) دعم القوات الملكية، السعودية والأردن تمثل دعمهما باللوجيستيات والتمويل، أما البريطانيون فلجأوا إلى مداراة غامضة الأسلوب في دعمهم، فتم تكليف المكتب السادس إم.آي.6 (الاستخبارات الخارجية البريطانية) بتكوين اتصال سري مع الملكيين، واستخدام شركة مرتزقة خاصة يملكها الكولونيل ديفيد سترلينج، الذي أنشاً القوات الخاصة البريطانية إس. إيه. إس، حتى تستطيع بريطانيا التنصل رسمياً من تهمة التدخل.
جند سترلينج عشرات من خريجي وحدته، وأرسلوا إلى اليمن كمستشارين للقوات الملكية. ساوى التدخل البريطاني ميزان القوى، الذي مال لصالح الثوار والمصريين في البداية، مصر عززت تواجدها العسكري مرات عدة، وصل عدد قواتها إلى نحو 60 ألف جندي، أي ما يوازي ثلث الجيش المصري وقتها، لحسم المعركة، لكن بغير فائدة.
ومع الدوافع الإسرائيلية للتدخل إلى جانب السعودية والأردن في دعم الملكيين بالأسلحة والعتاد، الذي أتى في مطلع عام 1963، اكتفت القوات المصرية بالتمركز في مواقعها جنوباً، وتحصن الملكيين شمالاً دون أي منفذ على البحر، مما صعب مهمة نقل الأسلحة والإمدادات إليهم إلا عن طريق الدروب الجبلية من السعودية، سواء عن طريق البر باستخدام الجمال، أو طائرات سلاح الجو السعودي الوليد، الذي عانى في ذلك الوقت من انشقاقات عديدة، حيث لجأ بعض الطيارين السعوديين إلى مصر بعد عصيانهم أوامر بنقل إمدادات للملكيين، واستقبلت المطارات المصرية عدداً من الطائرات السعودية التي كان من المفترض أن تنقل المعدات والأسلحة إلى الملكيين, الأمر الذي منع السلطات البريطانية في ظل تعهد ساستها بشكل علني بعدم التدخل في اليمن، وتخوف حلفائها في الأردن من القيام بمهمة النقل الجوي للأسلحة الموجهة للملكيين في اليمن، خشية إجراءات عقابية يشنها ضدهم عبد الناصر، لجأت بريطانيا إلى إسرائيل، التي كانت في تلك الوقت معزولة ومعرضة للتهديد من قِبل جيرانها، وسرعان ما وافق الصهاينة على الطلب البريطاني، فالخوف الغريزي من وجود زعيم عربي يوحد الملايين ضدهم برز مجدداً, قررت إسرائيل الإضرار بمصر كلما سنحت لها الفرصة بذلك. في خريف 1963 جاءت موافقة الدولة الصهيونية، وتبلورت خطة العملية التي سميت من جانب الجيش الإسرائيلي، ودخلت عملية (الصلصة) منذ ذاك التاريخ حيز التنفيذ.
حدد الـ31 من مارس 1964 كتاريخ أول عملية إسرائيلية في اليمن لنقل أسلحة وذخائر ومعدات، حيث في ذلك التاريخ اخترقت طائرة نقل إسرائيلية سماء اليمن، قاد طاقمها بقيادة الطيار آريا عوز، الطائرة نحو شمال اليمن، فوق معسكرات الجيش المصري، وبعد تلقيه إشارات ضوئية من الأسفل بدأ إنزال حاويات ضمت أسلحة وذخائر وإسعافات طبية, وعلى مدى عامين تكررت العملية أكثر من 14 مرة، لكن في إطار من السرية القصوى.
وفي السياق نفسه، يذكر الكاتب المصري، محمد حسنين هيكل، في كتابه (سنوات الغليان)، أن إسرائيل تولت الشق العملي من تسليح ونقل المعدات إلى كل من المرتزقة الأجانب الممولين سعودياً وقوات الملكيين في جبال شمال اليمن، وسميت تلك العملية بـ(مانجو)، وامتد التعاون بين الطرفين إلى نقل تل أبيب قوات خاصة من اليهود اليمنيين الذين هاجروا إلى فلسطين المحتلة، لتنفيذ عمليات خاصة في بيئة اعتادوا العيش والاندماج فيها.
قبل العدوان على اليمن بأيام قليلة, أبلغت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية شركات السفن (الإسرائيلية) بعدم التعامل مع سواحل اليمن بوصفها سواحل دولة معادية، ما يفرض عليها اتخاذ إجراءات متشددة على مستوى الحماية والتأهب عند عبورها مضيق باب المندب.
وفي العام 1997 ظهر للأضواء الدور الرئيسي لإسرائيل باحتلال إريتريا لجزيرتي حنيش.. البالون الإسرائيلي في عمق الأرض والبحر اليمنيين, يمثّل مضيق باب المندب مساراً بحرياً رئيسياً بالنسبة إلى الأسطول التجاري الإسرائيلي، إذ يعد بوابة الدخول إلى البحر الأحمر، الذي يمثل معبراً حيوياً للسفن في طريقها من الشرق الأقصى إلى (ميناء إيلات) أو قناة السويس, فيما ينطوي ساحل اليمن على إشكالية تجعله مختلفاً عن تلك السواحل، لجهة أن هناك مسافة واسعة داخل البحر الأحمر تفصل سواحل الدول في الضفة الأخرى عن عمق البحر، مما يعني أن إمكانية الابتعاد الإسرائيلي عن السواحل والأراضي اليمنية محدودة جداً.
المصدر صحيفة لا / طلال سفيان