حتى أعوام خلت كان على الجمهور العربي أن يتسمر ساعة كاملة أمام التلفزيون مستغرقاً في الخلافات التي تندلع بين مهند ونور في المسلسل التركي الشهير (نور)، إلا أن حضور الدراما الإيرانية، أيقظ إحساس الجمهور العربي من حالة الغيبوبة التي استحوذت عليه منذ سنوات، بفعل إسفاف الدراما المدبلجة، الأمر الذي أثار غضب قوى الهيمنة الأمريكية، والتي تتخذ من الحرب الثقافية وسيلة مهمة للمضي في مشاريع إخضاع العرب.
صفعة لمشاريع حرب الوعي والهوية
فقبل أن تقفز فوق أسوار المقاطعة، وتحوز على أكبر نسبة مشاهدة في الوطن العربي، كانت الدراما الإيرانية توجه صفعة لروتين التسطيح الذي يتعرض له الجمهور العربي في إطار هجمة ثقافية تهدف الى نزع المجتمع العربي من هويته الثقافية وبنائه الفكري لصالح مشروع سلخ المواطن العربي من جذوره، وشده الى فراغ وجداني خارج التفاعل مع قضاياه ووجوده الإنساني، وبما يجعل أفراد المجتمع بحالة عجز عن مواجهة مشاريع طمس الهوية.

مضخة هائلة للتسطيح
وتحت الاعتقاد السائد بأن المشاهد العربي يحتاج إلى مواد ترفيهية خفيفة، للهروب من الواقع القاسي، بعيداً عن كل ما هو جاد يثقل كاهل المشاهد، تكاثرت الخفة، وتحولت إلى استخفاف، وباتت الدراما المدبلجة مضخة هائلة لتسطيح الوعي والاستخفاف بعقل وخيال المشاهد الذي بات مسلوباً في فضاء واسع كل ما فيه مجرد تكرار لدراما بنفس المضمون تكرس للفراغ، ورغم كثرة أعمال الدراما (الخفيفة)، إلا أنه لم يطرأ على الواقع أي تحسن، بل على العكس زادت الواقع سوءاً.

نتائج سلبية على التقاليد
أظهرت نتائج الدراسات التي أجريت في عدد من الأقطار العربية أن هناك نتائج كارثية نجمت عن انتشار المسلسلات المدبلجة، أثرت سلباً في عادات وتقاليد المجتمع العربي، من حيث خدش قيم الحياء، والتفسخ الأسري، وانعدام الاحترام، وتقوية الغرائز الجنسية، والنزعة الفردية الأنانية رغبة في الاستحواذ على كل شيء، وذلك بسبب الإيحاءات المتولدة عن المسلسلات المدبلجة، والتي أشاعت حالة من الانفلات خارج الضوابط والأعراف العربية، بفعل تكرار تلك الإيحاءات السلبية على مدى سنوات طويلة، وبدلاً من أن تحاول الدراما محاكاة الواقع، أصبح الواقع يقلد الدراما المدبلجة.

عاصفة القوة الناعمة
تأثيرات المسلسلات المدبلجة على المجتمع العربي، لم تكن وليدة الصدفة، حيث يرى عدد من الباحثين أنه لا يمكن الفصل بين تأثير الدراما المدبلجة، ونظرية (القوة الناعمة) الأمريكية، والتي عبر عنها جوزيف ناي، رائد نظرية القوة الناعمة، بالقول: (إن أفضل الناطقين باسم الأفكار والأهداف الأمريكية هم غير الأمريكيين). وقد لقيت هذه النظرية الكثير من القبول في أوساط الدوائر الرسمية الأمريكية منذ عدة أعوام، وخصوصاً بعد فشل القنوات والمحطات الأمريكية الناطقة بالعربية، مثل قناة (الحرة)، وراديو (صوت أمريكا)، واضطرار الحكومة الأمريكية لإغلاق المحطة الإذاعية بعد أن عجزت عن جذب اهتمام الجمهور العربي، وفي سبيل تطبيق توجهات الهيمنة الأمريكية عبر (القوة الناعمة)، تم توظيف قنوات فضائية وشركات إنتاج من مختلف أنحاء العالم، وبما يجعل الشعوب مستسلمة للتصورات الأمريكية في تسيير الحياة، وكل فكر يعمل خارج الرؤية الأمريكية يعتبر عدواً للولايات المتحدة.

معركة بين الفتوى والدراما
ظهور الدراما الإيرانية شكل صدمة قوية لمشاريع تخدير الوعي العربي، فقد أعادت الدراما الإيرانية شيئاً من الاتزان لوعي المشاهد العربي، وأثبتت في نفس الوقت استعداد المواطن العربي لتقبل الأعمال الجادة، بدليل حصول الدراما الإيرانية في عدة مسلسلات على أكبر نسبة مشاهدة عربية، رغم حملة التحريض ضدها بغرض مقاطعتها، والتي بدأت مع مسلسل (يوسف الصديق)، وقد جاءت تلك الحملة على أساس منطلقات دينية تحرم تمثيل الأنبياء، إلا أن الحملة أخفقت، وحقق المسلسل نجاحاً غير مسبوق في العالم العربي، ويمكن اختزال آراء النقاد والمثقفين العرب برأي الناقدة التونسية جميلة القصوري التي قالت: (نعتقد أن غزو الدراما الإيرانية، وخلافاً للدراما التركية، له ما يبرره من حيث جودة المستوى الفني والقيم الرفيعة التي تراهن عليها الدراما الإيرانية، والمضامين التي تطرحها، والتي تضيف الى رصيد المتفرج العربي، وتثير لديه هواجس السؤال وعمق التأمل في القضايا الإنسانية أياً كانت المرجعيات الفكرية والثقافية أو التاريخية الدينية التي تستند إليها).

 بعيداً عن الاستخفاف
لم يكن نجاح الدراما الإيرانية، ضمن حالة الموضة الرائجة في العالم العربي، والتي كان يتم تبادل الريادة فيها بين المسلسلات التركية والهندية والكورية، ليتم نسيانها في اليوم التالي، وكأنها لم تكن موجودة، فقد تمكنت الدراما الإيرانية من شغل اهتمام الجمهور حتى بعد انتهاء عرضها، والسبب في رأي النقاد ليس لكونها تستمد قوتها من الموروث الديني والعقائدي، وإنما لقيمتها الفنية وعمق الأفكار التي قدمتها.

صناعة الإبداع
(السيناريست) الخاص بمسلسل (يوسف الصديق)، والذي يعني تطبيق النص على الحركة والأجواء، تم استخلاصه في 18.000 صفحة، عمل على إعدادها 20 باحثاً في المجالات الدينية والتاريخية، بينما أخذ النص الحواري بين شخصيات المسلسل يتدفق بالصور حياة نابضة، من خلال المزج بين المنطق العميق والفلسفة التي تعطي مواقف كل شخصية من شخصيات المسلسل حجة في التعاطي مع الآخر بعيداً عن (السلق) وتجريد الأشرار من المنطق.
بينما تم إعداد الديكورات الخاصة بالمسلسل في 3 أعوام، والتي حظيت بإعجاب النقاد والمتخصصين، وقد استغرق تصوير المسلسل قرابة عامين، في حين كانت الاكسسوارات والملابس متقنة بشكل جمالي لم يسبق أن عرفه الجمهور العربي.

 فن من أجل المكايدة  
الزج بالفتوى الدينية وإجبارها على خوض غمار المنافسة مع الأعمال الإبداعية القادمة من إيران، تبين لاحقاً أنه لم يكن من أجل حماية الثوابت الدينية، بقدر ما كان خدمة لأغراض سياسية تهدف إلى عزل إيران عن محيطها العربي، فقد قامت السعودية بإنتاج مسلسل (عمر) بعد عامين من عرض مسلسل (يوسف الصديق)، وقد تم عرض مسلسل (عمر) دون أي اعتبار للفتاوى التي كانت تحرم تمثيل شخصيات الخلفاء الراشدين الأربعة في المذاهب السنية.
وقد تمت الاستعانة بخبرات الفنيين الإيرانيين في إعداد ديكورات واكسسوارات وملابس مسلسل (عمر) الذي يرى البعض أن السعودية دخلت فيه مضمار المنافسة الدرامية من باب المكايدة خوفاً من تسيد الدراما الإيرانية في المجتمع العربي، بينما لم تحرك السعودية ساكناً لدخول ميدان الإنتاج الدرامي لمواجهة هجمة الدراما المدبلجة قبل دخول الدراما الإيرانية.

جديد على العرب قديم في العالم
بعد فشل محاولات فرض الطوق على الدراما الإيرانية عبر الفتوى، استمرت الهجمة باتهام المسلسلات الإيرانية بأنها ناطق باسم توجهات الحكومة الإيرانية لنشر المذهب الشيعي، لكن هناك من يبطل هذه الحجة من خلال الاستشهاد بالنجاح الذي حققته الدراما والسينما الإيرانية في مختلف أنحاء العالم منذ أكثر من 40 عاماً، والتي كان آخرها فوز فيلم (البائع) الإيراني بجائزة الأوسكار الأمريكية عن أفضل فيلم أجنبي خلال مهرجان جوائز الأوسكار في مارس الماضي، لكن هذا النجاح لم يعرف في العالم العربي إلا في السنوات الأخيرة.
 
 المدبلج بديلاً عن سوريا الأصيلة
يبدو أن كل من يحاول التحليق خارج المعايير الأمريكية سيواجه بعقوبات لن تتوقف عند الحصار والمقاطعة، حيث شكلت سوريا قوة ثقافية عربية في مواجهة مشاريع التمييع التي تتعرض لها الهوية العربية عبر حمل القضايا العربية وتجسيدها بقوالب فنية تتسم بالجمال وقوة المضمون، إلا أن قطاع الإنتاج التلفزيوني والسينمائي السوري كان أكثر المتضررين من حرب الإرهاب على سوريا، فقد تعرض إنتاج الدراما السورية للمقاطعة منذ بدء الهجوم على سوريا، الأمر الذي أفسح المجال أمام المسلسلات المدبلجة لتملأ الفراغ الذي خلفته الدراما السورية.