وصلت المعاناة الإنسانية لملايين اليمنيين ذروتها شمالاً وجنوباً بعد عامين من حرب عدوانية لم تقتصر على الجانب العسكري، بل امتدت لتطال الغذاء والدواء وشربة الماء. الطبيعة الشاملة لهذه الحرب أشار إليها بوضوح (أحمد عسيري) الناطق باسم تحالف العدوان، لصحيفة أمريكية، مطلع الحرب، بتأكيده على أن (المملكة تحارب في اليمن وفقاً للمدرسة الغربية التي تقوم على جوانب متعددة).
وضع بلد بكامله وبتعداد سكانه الذي يربو على 27 مليون نسمة، تحت مقصلة التجويع، هو جريمة يتواطأ فيها حلف دولي غير معلن يشمل دولاً كبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، التي توفر السلاح والعتاد والتدريب، وتشارك في إدارة وتوجيه العمليات وتوفير الدعم اللوجستي لها، والأهم من ذلك الغطاء السياسي والدبلوماسي والإعلامي، ومصادرة حق الضحايا حتى بإسماع أصواتهم للعالم.
وفي إحدى لحظات مشهد الجريمة الذي عجزت الدعاية الإعلامية عن ستره وتغطيته، ينسل الجلادون والمتواطئون فيها إلى إحدى العواصم الأوروبية في أثواب القديسين، ليراهم العالم وهم يبذلون المال لإطعام (ضحايا الحرب) في اليمن و(إغاثة) المنكوبين فيها.
جنيف.. وما يخدعون...
في وقت ارتفعت فيه أصوات بعض المؤسسات الدولية المستقلة بالدعوة إلى خطوات دولية تجبر تحالف دول العدوان على وقف الحرب، انعقد مؤتمر للمانحين في جنيف يتعهد لليمن بحزمة مساعدات إنسانية تبلغ 1.1 مليار دولار. أخبار المؤتمر أوردتها معظم وسائل الإعلام الدولية، مساء الثلاثاء الماضي. إيراد الخبر تضمن إشارة لمقدار مساهمة الدولة التي تبث منها تلك القنوات التلفزيونية، فـ(بي بي سي) ذكرت في مضمون الخبر مساهمة الحكومة البريطانية، و(سي إن إن) أشارت إلى المساهمة الأمريكية، ووسائل الإعلام السعودية والإماراتية ذكرت بالأرقام حجم مساهمة الدولتين.
بعد انتهاء المؤتمر غرد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، على حسابه في (تويتر)، وقال بلغة ممتنة: (شكراً لكل المانحين على كرمهم وتضامنهم في مؤتمر ساعدوا اليمن).
الطريقة التي خرج بها المؤتمر الذي خلا بيانه من أية إشارة إلى ضرورة وقف الحرب أو حتى إلى الدعوة إلى الحل السياسي، طرحت الكثير من علامات الاستفهام والتعجب، خاصة وأن الأزمة الإنسانية في اليمن تناولها المشاركون كأنها نتيجة كارثة، وليست نتاج حرب عدوانية تشنها مجموعة دول ضده. وخلو فعاليات المؤتمر من أية إشارة للحرب ولمسببات المعاناة نظر إليه عدد من متابعي الوضع اليمني بأنه مؤشر على أن المجتمع الدولي يحاول التخلص من تبعات دوره المتخاذل والمتواطئ بحزمة مساعدات مؤقتة، ويفتح أفقاً جديداً لإطالة الأزمة في اليمن من خلال تلميع الدور السعودي والأمريكي فيها.

المانحون هم القتلة
آراء وكلمات عدد من الفاعلين الاجتماعيين اليمنيين والأجانب على (تويتر) كانت مختلفة عن كلمات غوتيريس الاحتفالية، وكتب بعضهم تغريداته على وسم (هشتاج) يقول المانحون هم القتلة #Donorsarekillers، كاعتراض على الدول المشاركة في المؤتمر كمانحين، بينما هي ذاتها سبب الأزمة الإنسانية في اليمن.
من نافذة (تويتر) يمكن للمتابع التقاط ما يعتمل في عقول اليمنيين وبعض المهتمين غير اليمنيين إزاء مؤتمر المانحين في جنيف.
فهذا مغرد يمني يشير إلى مفارقة مشاركة بريطانيا وأمريكا والسعودية في القتل ثم التبرع للمساعدات، فغرد ساخراً: (أمريكا وبريطانيا والسعودية تقود حملة لقتل وتجويع الناس منذ عامين في اليمن، والآن تقدم مساعدات في مؤتمر المانحين)، يمني آخر يبدي استغرابه من الأمر ذاته، متسائلاً: (كيف تعملون على حصارنا وقتلنا وتدمير بلدنا، ثم تتظاهرون بأنكم إنسانيون؟ عار عليكم). وفي أحد الردود على كلام الأمين العام قال أحد أبناء بلاده البرتغال موبخاً إياه على موقفه المداهن للسعوديين: (كنت من قبل تمثل البرتغال، واليوم ها أنت تقبل بالسعودية كرئيس للجنة حقوق الإنسان العالمية، يا له من عمل عظيم يا أنطونيو).
مغرد يمني آخر يرى أن الحل ليس في مجرد توفير الطعام، ويقول: (توفير الطعام للناس ليس كافياً، فهم يحتاجون لتدابير وخطوات تعمل على حل أسباب الكارثة الإنسانية). الشيء نفسه أكدت عليه ناشطة أمريكية فغردت مخاطبة الأمم المتحدة: (أوقفوا هذه الحرب لترفعوا المعاناة عن أطفال اليمن). وفي كلمات أكثر حدة قالت يمنية مهاجرة في سويسرا موجهة كلامها للأمم المتحدة: (لا نحتاج أموالكم وكرمكم، فقط قوموا بعملكم وأوقفوا هذا العدوان). وفي تعليق على كلام غوتيريس رد أحد اليمنيين: (لو كان لديكم احترام لأنفسكم لأرسلتم رسالة إلى مجلس الأمن الدولي ليضع حداً للحرب السعودية على اليمن، أنا متأكد أنكم لن تفعلوها أبداً)، وفي تغريدة يمنية تعكس غيظ كاتبها من خديعة التستر بجلباب المانحين، يقول كاتبها: (أوقفوا دعمكم للجرائم السعودية في اليمن، نريد إنهاء الحرب والعدوان، لا أن تقتلونا ثم تدعوا أنكم تساعدوننا).

رباعية الحرب
أرسى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، مفاهيم وممارسات ما عرف بـ(لعبة العصا والجزرة) في غمرة الحرب الباردة، وفقاً للعبة، فالجلاد هو نفسه ملاك الرحمة، وما يبديه الجلاد من تضامن مع ضحيته ليس مجرد تكتيك لحظي لتحاشي بعض الضغوط فحسب، بل هو أيضاً جزء من استراتيجية مكتملة تقوم على خلق العوز والحاجة، ومن ثم الاستجابة الانتقائية له، لتحقيق مصالح معينة، وللدعاية السياسية بأن الدولة التي تمارس دور الجلاد ليست متوحشة، بل أجبرها السياق السياسي على استخدام القوة، ولذلك عندما تستجيب لتلبية حاجة الضحية فإنها تبرهن على التزامها الإنساني والأخلاقي، واحترامها لمنظومة قيمها المعلنة (أو توحي للآخرين أنها كذلك)، وليست دولة مارقة تمارس القتل والتدمير ضد خصومها بلا قيود، كما يقول كيسنجر.
يمكن اختبار ما نظَّر له كيسنجر وأسسه كمنهج عمل في سياسة بلاده الخارجية، من خلال استعراض قائمة المشاركين والدول التي عملت على التئام الاجتماع وإخراجه بهذه الطريقة.
فقد شارك في مؤتمر جنيف كل من الاتحاد الأوروبي وألمانيا والصين واليابان وبلجيكا وكوريا الجنوبية والكويت وإيطاليا وأستراليا، إضافة إلى رباعية كهنة الحرب على اليمن، وهي السعودية التي تبرعت بـ150 مليون دولار، والإمارات 100 مليون، والولايات المتحدة 95 مليوناً، وبريطانيا 178 مليون دولار.
باستثناء مساهمة الاتحاد الأوروبي 150 مليون دولار، ومساهمة الكويت 100 مليون دولار، فإن (كهنة الحرب) الأربعة (أمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات) هم الأكثر مساهمة، وتمثل المبالغ التي تعهدوا بها أكثر من نصف إجمالي التعهدات التي خرج بها المؤتمر، وهي مليار و100 مليون دولار، ما يعني أن الدول الأربع هي المنظم الفعلي للمؤتمر الذي تبنت تنظيمه السويد وسويسرا، وكلاهما لم يرد اسماهما في قائمة المتبرعين.

ملاليم (مساعدات) مقابل تلال من الدولارات والأرباح
لغة الأرقام كفيلة بإثبات ما اجتهد (كهنة الحرب) الأربعة في نفيه أو صرف الأنظار عنه بتبرعاتهم في جنيف. حجم الخسائر الاقتصادية التي لحقت باليمن واليمنيين، فضلاً عن خسائر الأرواح، إضافة إلى ما اجتنته كل من بريطانيا وأمريكا من أرباح من السعودية بسبب الحرب على اليمن، كل ذلك يظهر مدى ضآلة مبلغ الـ1.1 مليار دولار الذي نفخ فيه الإعلام الدولي والمنظمة الأممية، وأسبغوا على مانحيه التغطيات والتقارير الإعلامية وكلمات المديح.
بحسب بيان للخارجية الأمريكية، الخميس الماضي، فإن مجموع المساعدات الأمريكية لليمن بلغ 440 مليون دولار من بداية العام 2015 حتى مؤتمر جنيف، الثلاثاء الماضي، وفي اتجاه آخر، وبحسب البيانات الرسمية الأمريكية وبيانات شركات إنتاج السلاح، بلغت قيمة مبيعات السلاح الأمريكية للسعوديين 120 مليار دولار خلال فترة رئاسة أوباما الممتدة من 2008 حتى نهاية العام 2016، منها 27 ملياراً أثناء الحملة السعودية على اليمن خلال العامين 2015 و2016.
الـ440 مليون دولار التي تتباهى بها بيانات وزارة الخارجية الأمريكية، ويحاجج بها أعضاء الإدارة في عهد أوباما أو ترامب أمام أعضاء الكونجرس في جلسات الاستماع والتصويت، هذا المبلغ لا يتجاوز 2% من حجم مبيعات السلاح الذي قدمته واشنطن للسعودية لتدعيم حملتها العسكرية على اليمن واليمنيين، هذا دون احتساب الصفقات المليارية الأخرى في القطاعات المختلفة، أو الاستثمارات السعودية الكبيرة في السوق الأمريكية مقابل ضمان استمرار دعم واشنطن لعدوان السعودية على جارها الجنوبي.

بريطانيا ملتزمة تجاه زبائنها
باعت بريطانيا سلاحاً للسعودية لدعم حربها على اليمن بقيمة 4 مليارات دولار خلال الفترة 2015/2016م، كما جاء في تقرير منظمة مناهضة تجارة السلاح البريطانية، وإذا ما قورن هذا الرقم بحجم المساعدات البريطانية لليمن التي بلغت 403 ملايين دولار خلال الفترة الممتدة من بداية 2015 حتى مؤتمر جنيف، وفقاً لبيان صادر عن وزارة الخارجية البريطانية، فإن حجم المساعدات لا يتجاوز 10% من مبيعات السلاح والذخائر لدعم الحملة السعودية على اليمن خلال نفس الفترة، هذا دون احتساب عوائد الدعم العملياتي والمستشارين والخبراء، ودون احتساب صفقات التبادل التجاري الأخرى والاستثمارات التي أبرمها السعوديون مع حكومة الملكة في لندن مقابل إبقاء دعمها السياسي والعسكري واللوجستي لحربهم التدميرية في اليمن.
تتبع العلاقة بين العائدات الاقتصادية لصالح بريطانيا وأمريكا من قبل السعوديين من أجل دعم العدوان على اليمن، ومقارنة تلك العوائد بأرقام المساعدات التي أعلنتها واشنطن ولندن، تجعل ما يسميانه (مساعدات) مجرد مصروف جيب لصبي في الـ10 لمدة يوم واحد، وأن لا تناسب على الإطلاق بين ما ربحوه وما منحوه على سبيل (الضريبة الأخلاقية على الأفعال والسياسات السيئة التي قد نجبر على انتهاجها)، بحسب تعبير كيسنجر، فما منحوه لا يرقى حتى إلى مستوى ضريبة كيسنجر الأخلاقية التي زعمها، هذا إذا اقتصرت المقارنة على الصفقات مع الحكومة السعودية فقط، دون الحكومة الإماراتية - ضلع العدوان الآخر- التي أبرمت أيضاً صفقات عديدة مع الحكومات والشركات البريطانية والأمريكية في إطار حربها على اليمن.

مقارنات حرجة
خسائر اليمن من الأرواح تخطت 10 آلاف قتيل و40 ألف جريح، بحسب أرقام منظمة الصحة العالمية، والرقم الفعلي يفوق ذلك بكثير، لتعذر تقييد وتسجيل كثير من الحالات في مناطق الحرب أو المناطق النائية. منظمة اليونيسف التابعة للأمم المتحدة قالت في تقرير لها صدر أواخر عام 2016م، إن طفلاً يموت كل 10 دقائق في اليمن بسبب أمراض يمكن الشفاء منها، جراء تردي الوضع الإنساني وسوء التغذية وانهيار الخدمات الصحية.
وإذا كانت الخسائر البشرية لا تقدر بثمن، ولا يصح وضعها موضع المقارنة مع تبرعات (كهنة الحرب) ومنحهم، فإن الإحصاءات الأولية للخسائر الاقتصادية التي لحقت باليمن وبنيته التحتية قادرة على حسم المقارنة وإبراز المفارقة بين ما يدعون وما هو واقع فعلاً.
في تقرير أصدرته صحيفة (دويتش فيله)، نهاية مارس الماضي، قدرت الصحيفة الألمانية أن ما لحق بالبنية التحتية العامة في اليمن من تدمير يقدر بـ10 مليارات دولار، أي الإنشاءات والمباني والخدمات العامة التي أقامتها الدولة للاستخدام العام كالطرق والجسور والمدارس والمستشفيات والجامعات والمؤسسات الحكومية والموانئ والمطارات، أما التقديرات اليمنية حول هذه الجزئية فتشير إلى خسائر تتجاوز 25 مليار دولار.

اليمنيون يستردون خسائرهم من المنح
ميناء الحديدة بمفرده أصبح بحاجة إلى 200 مليون دولار لإصلاح ما دمرته غارات الطيران، وفقاً لتصريح ستيفن أوبراين، نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، عقب زيارته للميناء، في حين تقول التقديرات الرسمية لمؤسسة موانئ البحر الأحمر إن حجم الدمار الذي طال منشآت الميناء بلغ 300 مليون دولار، أي أن ثلث ما اجتمعت كبريات دول العالم لتمنحنا إياه كمساعدات، بالكاد يكفي لإعادة إصلاح منشأة واحدة دمرها طيران التحالف.
بينما أدى توقف الميناء أو الانخفاض الحاد في نشاطه إلى خسائر على الاقتصاد اليمني تقدر بملياري دولار شهرياً، ليتجاوز مجموع خسائر توقف/ أو الانخفاض الحاد في نشاط الميناء خلال فترة عامين من الحرب العدوانية على اليمن، 48 مليار دولار. بعبارة أخرى إذا بقي مانحو جنيف على نفس إيقاعهم، فلن يستعيد اليمنيون ما خسرته بلادهم في ميناء الحديدة قبل حلول العام 2065 إذا اعتمدوا على ما تجود به إنسانية المجتمع الدولي.

القطاع الخاص.. تدمير ممنهج
خسائر القطاع الخاص في اليمن (يمثل أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي) بلغت 75 مليار دولار، كما أورد تقرير الغرفة التجارية الصناعية في شهر مارس 2017م، وهو رقم أقر به محمد الميتمي (وزير التخطيط الدولي) في حكومة فنادق الرياض، في لقاء أجرته معه صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية، هذه الخسائر نجمت عن قصف المنشآت التجارية والصناعية وتذبذب الصادرات والواردات بين مستوى التوقف التام أو الانخفاض الحاد جراء الحصار وتقييد حركة الملاحة البحرية وهروب الاستثمارات المحلية، إضافة إلى ما أسفر عنه توقف الأنشطة الإنتاجية الصناعية والخدمية والحركة التجارية من تسريح للعاملين أو خفض لأجورهم، حيث يشغل القطاع الخاص ما نسبته 69% من الأيدي العاملة، تلك الخسائر تشمل أيضاً القطاعين الزراعي والسمكي.
هذه الأرقام المرعبة التي تعكس مستوى التجريف والاقتلاع والتدمير المنهجي لكل مقدرات الحياة في اليمن، ليست إحصائيات نهائية وشاملة، وإنما خسائر أولية ومباشرة. أما الخسائر غير المباشرة أو التي تنعكس عن الخسائر الأولية المباشرة، فما زالت غير معروفة حتى اللحظة، كما أن الأضرار الواسعة على بنية الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية، والتي بذل العدوان مجهوداً هائلاً لتدميرها، فهي الأخرى غير معروفة حتى اللحظة، وما زالت خارج حساب الخسائر المادية.
في تقييم مشترك بين وزارة التخطيط والتعاون الدولي اليمنية والمانحين، نفذ قبل العدوان على اليمن، يخلص تقرير فريق التقييم إلى أن اليمن يحتاج 48 مليار دولار للانتقال من مستوى الدول الأقل نمواً إلى مستوى الدول النامية، لكن خيارات من كانوا يسمون شركاء اليمن ذهبت في اتجاه آخر تماماً (وسلبت من اليمنيين ما أنجزوه خلال الـ100 عام الماضية)، كما قال محمد حسنين هيكل، في وصفه للعدوان قبل عامين.