من النقطة الرابعة إلى الـــــــ إف 16

ألم يغسل شلال الدم بقعة "البردقان" بعد؟!

هل تشعرون بالتميز السلبي حيال محافظتكم وأبناءها من قبل صنعاء؟؟
الحقيقة أن سؤال الحسناء الأمريكية ذات الـ(28) ربيعاً كنا فجاً ومباشراً أكثر مما هو عليه في صيغته الآنفة التي توجز فحواه لا حذافيره.
حدث ذلك في العام 2005، في تعز، وفي استراحة مؤسسة الجمهورية للصحافة تحديداً .
زارتنا - على غير موعد- شابة ثلاثينية برفقة شاب يقاربها في السنة، وقدّما نفسيهما بصفتهما صحفيين يعدان ملفاً عن اليمن لصالح الوسيلة الإعلامية (....؟!) التي يفترض أنهما يعملان لحسابها في الولايات المتحدة كان خدر القات وسحر الزائرة كفيلين بجعلنا نتسامح حيال عديد تفاصيل من بينها السؤال عن اسم (المجلة، الصحيفة، أو القناة) الافتراضية التي أوفدتهما، كما واسم الحسناء المنهمكة في طرح الأسئلة منذ لحظة ولوجها علينا دون توقف.
قالت - وهي تسحب على شعرها الأشقر شارباً أسود شفافاً انزلق إلى كتفيها-: "اضطررت إلى ارتداء نقاب والتعريف بنفسي كمسالمة أمريكية في كل النقاط الأمنية بين صعدة وعمران...".
كنت قادراً على استخلاص أنها تقوم بجولة مكوكية في أصقاع بلد تتعاطى معه الإدارة الأمريكية بوصفه سلسلة من الاثنيات والمذاهب والأعراق مفصومة الحلقات، أو هكذا يتعين أن تكون في لحظة مستقبلية ما، تستشرفها السياسة الأمريكية بتنضيج مقدمات ذاتية وموضوعية لها.
في (صعدة وعمران) طرحت الأمريكية الحسناء سؤالها الفج واللئيم في الصيغة المتعاطفة ذاتها، ولا ريب....: "هل تشعرون بالغبن والتمييز.. هل تزاولون طقوسكم المذهبية بحرية كزيود وإسماعيليين و... يهود؟!.. وفي (الحديدة) ستثير ذات العصف الذهني القائم على إحماء حالة في التراشق الصامت بوعد أن يصبح صخباً واحتراباً بين مكونات اجتماعية مغبونة لأسباب طبقية لا علاقة لها باللون والمذهب والعرق.. وفي النتيجة يكون الاحتكام للطاولة الأمريكية. سبيل المحتربين القسري إلى فض اشتباك عملت أمريكا على تأجيجه بصيغ شتى، مباشرة وغير مباشرة، أبرزها تبعية منظومية السيطرة المحلية لها على كل المصافات. ضعوا شقرة شعر الزائرة ولون بشرتها وهويتها جانباً، واختبروا أساليب عمل (منظمات المجتمع المدني) الناشطة في اليمن منذ مطلع التسعينيات.
لن يتطلب الأمر الكثير من الجهد ونفاد النظرة لتكتشفوا أن خلف كل شعر أسود وكل صلعة ذهنية (شقراء) تنتظم المحددات الأمريكية المعولمة نشاطها وعملها، وأن زائرتنا اللئيمة ليست نسيج وحدها في ظلام هذا المضمار.
لقد فقست معظم بيوض هذا النشاط الاستعماري المعولم، في تعز أبكر وأكثر من سواها من محافظات الجمهورية، فحيث يتزاحم أربعة ملايين نسمة على سكنى نطاق مديني قوامه (75 كيلو متر مربع) ويمتد على هيئة عشوائيات وتجمعات ريفية في انعدام شبه كامل للخدمات، تنشأ تحالفات متينة بين الفقر والإقطاع والبطالة والتنظيمات الإجرامية والمخدرات والوهابية السياسية والمرض ومشاريع مكافحة الملاريا واليأس وانسداد أفق الخلاص ودكاكين حقوق الإنسان.. وتفرد طبقة السيطرة بالوكالة مظلة الشرعة على كل نشاط مشبوه ومصالح استعمارية غير مشروعة.
بموازاة ذلك يتمتع الفرد في (تعز) بتقدير مرتفع للذات، يوقعه في حالة فصام قياساً بتردي واقعه الموضوعي، ويحدث أن يباهي مدمن العقاقير المخدرة الذي لم يكمل تعليمه الأساسي بكونه ينتمي إلى (عاصمة الثقافة والعلم المدنية) إذا ما استشعر منك نظرة استهجان حياله، بوصفك (الآخر) القادم من وراء تخوم (الحالمة).
تقول الأدبيات البائدة إن الأطر السياسية والثورية للحركة الوطنية تخلقت في تعز، ويقول الواقع اليوم أن هذه الأطر أو ما تبقى منها باتت أعجاز نخل خاوية، تحكمها الديدان والسوس وتوظفيها كروافع وأوعية للعقد الطائفية المقيتة، والتوجهات المعادية للوطن ونسيجه الاجتماعي.
وفي المقابل أو دار سينما انفردت به المدينة قبل غيرها من مدن شمال اليمن، توجد اليوم عشرات آلاف الأقبية والسراديب الوهابية التي تنتشر تحت يافطات تحفيظ القرآن والعمل الخيري.
بالتوازي مع انحسار أعداد الطلبة المبتعثين للدراسة في الخارج وتدني المستويات العلمية في صفوف الشباب، تدشن المدينة منذ مطلع الثمانينيات بعثات قوامها الآلاف من (المجاهدين) وتحظى بـ(سبعة وثلاثين معتقلاً) من أصل (99 معتقلاً يمنياً في جوانتانامو).. 
لقد أنهى قرار جمهوري رسمي حقبة الازدواج في التعليم الأساسي والثانوي بإلغاء الهيئة العامة للمعاهد العلمية التي تأسست في العام 1974م وخضعت لسيطرة إخوانية محضة على مصاف المالية والإدارة والفكر والكادر، رغم تبعيتها نظرياً للحكومة اليمنية.
إن (الإخوان) استعاضوا عن خسارة الهيئة كعصب وجودي بالسيطرة شبه الكاملة على سوق الاستثمارات التعليمية الدنيا والعليا والصحة العقارية والمصرفية والنفطية، وعوضاً عن النفوذ الرسمي المنحسر تعاظم نفوذهم الشعبي في أوساط اجتماعية مفقرة تمثل (تعز) صدارتها.
لقد أسهم الدور الأمريكي في شمال اليمن بصورة مباشرة وغير مباشرة في جعل يد الإسلام السياسي الوهابي هي الطولى على مصاف الجمهورية عموماً ومحافظة تعز خصوصاً.
من خلال الإخوان وقوى الإقطاع والمرتزقة أدارت واشنطن حربها مع عبدالناصر على الساحة اليمينة بين عامي 63 -67م وأجهزت على كيانات الحركة الوطنية الناشئة عام 1971م لتصبح الدفة كلياً في يد وكلائها.
وهو دور يقر يه ديفيد نيوتن الذي شغل منصب سفير واشنطن لدى اليمن منذ العام 1961م وحتى 1967م، وعاد بعدها في العام 71م ليشغل منصب نائب سفير يقول (ديفيد): "لعبت الإدارة الأمريكية دوراً وغداً في اليمن كانت حصيلته بروز القوى الرجعية وآل الأحمر....".
صرح بذلك في سياق لقاء جمعنا به في مؤسسة (مريديان) بواشنطن عام 2011م.
إن كثيرين اليوم يتداولون مصطلح (النقطة الرابعة) بوصفها تلك المنشأة الطبية التي خصّ الأمريكيون مدينة تعز بها دوناً عن سواها من مدن ومحافظات اليمن، مطلع الستينيات وقليلون جداً يدركون أن هذه النقطة ليست -بطبيعة الحال– إلا واحدة بين سلسلة نقاط أطلقها الرئيس الأمريكي هاري ترومان عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتتضمن آلية واشنطن لتدشين حقبة من الاستعمار الناعم يخلف الاستعمار الأوروبي الفج في بلدان العالم الثالث المناضلة من أجل الاستقلال.
وفي تعز كانت النقطة الرابعة غرفة متقدمة لوكالة المخابرات المركزية تدير جملة أنشطة تخريبية ضد مرافق حيوية وتنفذ اغتيالات بحق شخصيات وطنية وثورية مؤثرة في الستينيات.
وقد تظاهر مئات الطلبة حينها في تعز منددين بدورها وجرى تفريقهم بالعصي والرصاص الحي.
إن (كتائب الموت، وأحفاد يزيد، وحماة العقيدة، وجماعة أبو العباس، والمخلافي) علاوة على شريحة من اللابسين مسوح الاشتراكية والناصرية والناشطون في المنظمات الحقوقية هم ذراري الدور الأمريكي المبكر في تعز.. ذراري يتحدرون من رحم استخباراتي واحد رغم تعدد المسميات.
(ديزي أورجان) وهي بريطانية قدمت نفسها بصفة "مسئولة سياسية؟!" في السفارة البريطانية بصنعاء، كانت تلح في استجلاء موقفنا من (الإخوان) أثناء لقائنا معها إبان أحداث فبراير 2011م.
كانت الخشية الأمريكية البريطانية حينها أن تدفع تلك الأحداث بمكونات وطنية لا تروق لواشنطن ولندن، وكان (الإخوان) هم الخيار الأكثر تطميناً لمخاوف الإدارتين على سدة السلطة، تماماً كما كانوا هم الخيار الأمثل لهما في المعارضة قبل فبراير 2011م. 
إن زبدة الكوادر والطاقات والأيدي العاملة الماهرة التي توافرت عليها محافظة تعز ظلت على الدوام موارد متسربة خارج نطاق القُطر، بفعل جملة عوامل ذاتية وموضوعية أهمها الافتقار إلى الوعاء الوطني جامع يتيح توظيف هذه الموارد على مصاف تحديات النهوض باليمن.
يمكن مقاربة ثورتي سبتمبر وأكتوبر وما تلاهما من حراك ثوري وسياسي بوصفها محاولات حثيثة لبناء ذلك الوعاء الوطني الجامع استجابة للحاجة الشعبية الضاغطة باتجاه النهوض ولملمة شعث الغنى اليمني المتناثر من أقاصي القرن الأفريقي إلى أقاصي آسيا.
يمثل الدور الرئيس الذي لعبه المناضل الراحل عبدالغني مطهر في رفد الثورة والجمهورية العربية اليمنية الوليدة مالياً من خلال علاقاته بتجار المهجر؛ أنموذجاً هو الأكثر بروزاً في هذا السياق.
على النقيض لهذا المسار الوطني، جابهت حركة (الإخوان) وقوى الإقطاع وصنائع الاستعمار ومرتزقة السعودية، هذا الحراك بخطاب فئوي عصبوي وسلالي استهدف في المحصلة تبديد الغنى البشري لليمن عموماً ولتعز تحديداً خارج معركة النهوض الوطني، وإعادة توظيفه كطاقة مضادة، مدمرة للنسج الاجتماعي اليمني، ولكل محاولات لم الشعث وتوحيد الجهود باتجاه بناء الدولة الوطنية الجامعة.
إن تعز اليوم كنطاق إداري مأهول هي عبارة عن سلسلة من العشوائية وحواضن البؤس، تفصح في المحصلة عن مدى النجاح الذي حققته قوى الإقطاع الديني والاستعمار في الحيلولة دون أن تتدفق المدينة الحالمة في الفضاء الوطني الجامع كطاقة رافدة إيجابية، وقسرها عوضاً عن ذلك على الانكفاء في شرانق الحزازات القروية والمناطقية والطائفية المقيتة ضداً لهذا الفضاء وضداً لنفسها.
فقط في خطاب وقاموس (الإخوان) تنمسخ (الثورة) من وثوب فوق الأسيجة وأسوأ الهويات الانعزالية صوب فضاء واسع، إلى ارتداد مقيت وقميء للتموضع في عتمة زقاق..
لم يثر أبناء تعز في كل التواريخ الخوالي ليقطعوا وريد صلتهم باليمن بل ليصلوا ما انقطع بفعل الاستعمار والعزلة القسرية من أوردة بينهم وبين مجالهم التاريخي الرحب وطنياً وقومياً وإسلامياً.
غير أن لعبة الغزل المعقدة والمديدة التي زاولتها قوى الهيمنة إعلامياً إزاء (تعز الفريدة) وبرعت فيها، كرّست لدى شريحة واسعة من شباب المدينة شعوراً سادياً (بتفوق حضاري) مزعوم ويفتقر إلى أسانيد موضوعية على غيرهم من أبناء محافظات شمال الشمال.
حضرت (تعز) كصورة غلاف بارزة وممهورة بمانشيت تمجيد لئيم في مجلة (التايم) الأمريكية من خلال أحداث فبراير 2011م ولاحقاً أفسحت (الواشنطن بوست) مساحة وتيرة لـ(حمود سعيد المخلافي) هي عبارة عن (برومجندا) تسوّقه بوصفه (أسد عرين الثورة).
وفرّخت (الجزيرة) رتلاً من الأراجوزات الثورية الشابة لعبوا دور (مانيكانات) تعمم على شريحة الشباب أحجام ومقاسات الحلم الذي يتعين عليهم ارتداؤها.
لقد أفضت لعبة تطيير الفقاعات هذه إلى تبديد جل الطاقة الشابة التي تكتنزها تعز في أثير لتجريد، واندفع (الإخوان) بالنتيجة ليشغلوا فراغ الهوية والمكان بمسوخهم وقطعانهم وسعال منابرهم وغبار توابيتهم، فاختزلت رجولة المدينة في (شارب حمود أباتشي) وأنوثتها في (صفاقة توكل كيدمان).. واختزلت الثورة والحلم والحالمة في تخوم (حي الروضة).
لا ضير أن يرفرف اليوم علم داعش على سطح مبنى المؤسسة الثقافية الوحيدة في تعز والتي باتت (دار الحسبة) (السعيد) سابقاً.
لا ضير أن تسحل وتشوى الأجساد وتقطَّع الأوصال في الشوارع العامة.
لا ضير أن تدك طائرات العدوان السعودي الأمريكي (قلعة القاهرة) و(عبدالهادي السودي) و(الأشرفية) وتهرس صواريخها آلاف البشر تحت أنقاض المنازل.
كل ذلك لا يخدش هوية المدينة في عوينات نخبة الكارتون، كما يخدشها (بردقان إخوة التراب والمصير).
ويبدو أن كل براميل الدم التي سفكت طيلة ثمانية أشهر ليست كافية لأن تغسل إسفلت المدينة من بقعة (بردقان) بالنسبة لأدمغة نخبة يبصق (طويل العمر) عليها وتصفق لعطاياه من كل بد.