احمد الحبيشي

ارتبط ظهور الفقه الملكي السُّني بتحوُّل الخلافة إلى نظام ملكي وراثي على يد معاوية بن أبي سفيان، وحصر الحكم في قريش بني أمية، وصولاً إلى أخذ البيعة ليزيد بالقوة والنص من الحاكم، وتكريس ذلك الأسلوب لاحقـاً من خلال الوصيّة والغلبة وقوة الشوكة، وما ترتب على ذلك من مقاومة لهذا الاستبداد الذي وجد ما يبرره من خلال مخرجات فقهية صاغها المؤسسون الأوائل للمذهب الملكي السُّني في العهد الأموي، ثم واصلها في العصر العباسي فقهاء المذهب الحنبلي الذين صاغوا جهازاً مفاهيمياً  يقوم على المبالغة في تضخيم الأحاديث والروايات التي وضعها ونسبها إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، عدد كبير من مشاهير القُصّاص والوضاعين الذين نشرهم معاوية بن أبي سفيان في المساجد، وعلى رأسهم الأوزاعي، لتبرير التحوُّل من الخلافة إلى الملكية الوراثية، ومن الشورى إلى الاستبداد، والتنظير لحكم القهر والقوة والغلبة.
وقد بلغ هذا الجهاز المفاهيمي مداه عندما ادعى غلاة الحنابلة في العصر العباسي بأن الروايات والأحاديث الموضوعة والمنسوبة الى الرسول أقوى من القرآن وحاكمة عليه، وأن الصحابة كلهم عدول ومعصومون عن الخطأ، بالإضافة الى الخلط بين أهل الشوكة وأهل الحل والعقد في المسائل المتعلقة بالوصيّة لولي العهد والاستحلاف على طلاق الشخص من زوجته بعد مبايعته إن هو تراجع عن البيعة، واشتراط العنصرية السلالية القرشية للحاكم، وصولاً إلى تفويض السلطنة للسلاجقة والمماليك والانكشارية في العهود التي شهدت ضعف وهشاشة نظام الخلافة الملكي الوراتي، وما ترتب على ذلك من تكريس ثقافة الاستسلام من خلال معتقدات سياسية محضة آمن بها الفقهاء الأسلاف، كالجبرية والقدرية والإرجاء، وتحريم الثورة وفرض طاعة الحاكم، وتحقير المرأة، وتجسيم صفات الله في الذات الإنسانية للملوك ورجال الدين القديسين، ومحاربة العقل والفلسفة والعلوم الطبيعية والفنون واضطهاد المشتغلين في هذه العلوم وملاحقتهم وإحراق كتبهم. 
وبلغ الحصاد المر لتغوُّل نفوذ الفقه السني الحنبلي ذروته المأساوية بعد أن أصبح مؤسسة دينية ملكيّة رسمية، لعبت بعد وصول الخليفة المتوكل العباسي الى الحكم دوراً كبيراً في تكريس الفكر الاستبدادي والتشدد الديني بصياغات فقهية مذهبية وضعية، وهو ما أسهم في تشويه نظام الحكم الإسلامي منذ تحوله إلى نظام ملكي وراثي بدءاً بالنظام الأموي والعباسي، ومروراً بظهور دول ملوك الطوائف، وسيطرة السلاجقة والمماليك والانكشارية التي ارتبطت ببروز ظاهرة تفويض السلطنة في ظل خليفة قرشي ضعيف، وانتهاء بالخلافة العثمانية السلطانية التي أصابها الركود الحضاري والتفكك والانهيار، قبل أن تُمهِّد لدخول المجتمع الإسلامي في نفق التخلف والاستعمار والتبعية والاستبداد والتفكك.
ويعود إلى الفقه الملكي السُّني تراكم إرث ثقيل من الثقافة السياسية الاستبدادية الملتبسة بالدين، لجهة تمجيد الاستبداد والحث على الطاعة والخضوع وتبرير الظلم، على الرغم من أن الله تعالى أمر في القرآن الكريم بالعدل والقسط واتباع الحق، ونهى عن الظلم الذي جعله في مرتبة واحدة مع الشرك بما هو أشد أنواع الكفر، ثم توعد الظالمين في مئات الآيات بالعقاب في الدنيا والآخرة.
بيد أن الفقه الملكي السُّني أباح الاستيلاء على السلطة بالقوة والقهر والغلبة، وامتنع عن إدانة نهب المال العام والخاص من قبل الحكام، وسكت عن توزيع مقدرات الدولة والمجتمع على الأقارب والأصحاب والمناصرين، وأباح قتل وقطع عنق كل من يعارض الحكام الظلمة والمستبدين، ويطالب بالعدل والحرية، ثم احترعوا حديثاً نسبوه الى الرسول قالوا فيه: (أطع أميرَكَ واصبرْ عليه حتى لو أخذ مالكَ وجلد ظهركَ)، وما تبع ذلك من هدمٍ لأسس العدل في القرآن الذي جاءت آياته عامة ومطلقة وشاملة لجميع جوانب الحياة، ولجميع الناس (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (النساء: 58)، (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) (هود: 113)، (ومن يظلم منكم نـذقه عذابـاً كبيراً) (الفرقان: 19).
والحال أن فقهاء المذهب الحنبلي السُّني قاموا بإلغاء حاكمية القرآن اعتماداً على بعض الأحاديث والروايات الوضعية، وزعموا بحاكمية الأحاديث ـــ التي نسبها واضعوها إلى الرسول ـــ على القرآن، وشددوا على تخصيص الأحاديث لعموم آيات القرآن، حيث استثنى غلاة الفقه السُّني الحنبلي الحكام الظلمة من شمول آيات العدل والقسط بناء على أحاديث وروايات موضوعة وباطلة تأمر بالخضوع للحكام الظالمين وتوجب طاعتهم والصبر عليهم حتى وإن أخذوا أموال الناس وجلدوا ظهورهم، على نحو ما أورده البخاري ومسلم ومحمد بن عبدالوهّاب.
وعلى تربة هذا الفقه الملكي الكهنوتي الاستبدادي، وقع المسلمون تحت براثن الطغيان والظلم والفساد، الأمر الذي كان يؤدي دائمـاً إلى التمرد والثورة واستخدام العنف من أجل التغيير والإصلاح بالقوة، ثم يعود الحكام الجدد الذين وصلوا إلى السلطة تحت هذه الشعارات لممارسة الظلم والاستبداد والفساد من جديد، والاستعانة بالفقه الملكي السُّني مجدداً كغطاء لممارسة الظلم والاستبداد وقمع خصومهم السابقين واللاحقين بوحشية، وفتح باب جديد للثورة والتمرد عليهم، وهو ما أدخل المجتمع الإسلامي في نفق طويل ومظلم تعاقبت فيه الصراعات الدموية على السلطة والثروة، إلى أن انهارت دولة الخلافة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وسقط العالم الإسلامي تحت السيطرة الاستعمارية الأوروبية.
وقد أدى هذا السقوط إلى دخول المذهب الملكي السُّني مأزقـاً حاداً يشبه ذات المأزق الذي دخل فيه المذهب الإمامي الاثناعشري الشيعي في عصر الاستعمار وحقبة ما قبل تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران، على نحو ما أوضحناه سابقاً، لكن هذا السقوط تزامن مع ميلاد حركة فقهية جديدة تدعو إلى الإصلاح والنهضة في القرن التاسع عشرالميلادي، حيث دشنت هذه الحركة البدايات الأولى لثورة ثقافية في أصول المذهب السُّني، بهدف الدعوة إلى الإصلاح والتجديد والحرية والعدالة والنهضة. 
ومن نافل القول أن هذه الحركة بدأت في ظل الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر الميلادي، على أيدي مفكرين إسلاميين معاصرين أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وعبدالرحمن الكواكبي والشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا، الذين كانوا يرون في الشورى والديمقراطية مدخلاً للتخلص من رواسب الفكر الملكي الكهنوتي وثقافة الاستبداد.
ثم قام الصدر الأعظم مدحت باشا بسن أول دستور في تاريخ نظام الخلافة السُّني، وأجرى أول انتخابات برلمانية سنة 1876، ولكن السلطان عبدالحميد الثاني عاد فألغى الدستور وحل البرلمان المنتخب بعد سنة من إقراره، تحت تأثير ضغوط فقهاء إسطنبول الذين تأثروا بصحوة الفقه الملكي السُّني على يد الحركة السلفية الوهابية الحنبلية الجديدة بقيادة الشيخ النجدي محمد بن عبدالوهاب، في مواجهة حركة النهضة الإسلامية التي نشأت في مصر والشام بالترابط الوثيق مع ظهور الفكر القومي المناهض للاستعمار الأوروبي. 
ومما له دلالة أن خصوم حركة النهضة من فقهاء المذهب الملكي الحنبلي السُّني في صيغته الوهابية الإخوانية الجديدة بعد سقوط الدولة العثمانية، زعموا أن الإسلام يمتلك نظامـاً سياسياً فريداً هو نظام الخلافة القائم على مناهج النبوة وفق المذهب الملكي السُّني الكهنوتي الذي يضع السُّنة فوق القرآن، كما زعموا بأن القرآن يحتاج الى الحديث، بينما الحديث لا يحتاج الى القرآن، وهو ما يتناقض صراحة مع قول الله في القرآن الكريم: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) (الأنعام: 38)، وقوله تعالى: (فبأي حديث بعده يؤمنون) (الأعراف: 185)، الأمر الذي يستوجب العودة إلى بدايات ظهور هذا المذهب ومقاربة مسار نشوئه ومفاعيله حتى الآن. 
ولئن كان المؤرخون يُعيدون بدايات ظهور المذهب الملكي السني إلى فقهاء النظام الأموي بعد تحويل الخلافة إلى ملكية وراثية سلالية، فإن مؤرخين آخرين يذهبون إلى أبعد من ذلك، حيث يُعيدون جذور هذا المذهب إلى الفتنة الكبرى التي مهدت لنهاية عهد الخلفاء الراشدين. فقد كانت الثورة على الخليفة عثمان بن عفان في جوهرها ثورة للمهاجرين والأنصار والعرب والموالي في مصر والعراق والحجاز، ضد هيمنة قريش بني أمية، على أثر صعود (الطُّلقاء) من كفارها قبل اعتناقهم الإسلام، وتسيُّدهم على المهاجرين والأنصار العرب في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من مبادرة الثوار لانتخاب خليفة جديد بأنفسهم، حيث رفعوا عاليـاً شعار الشورى بعد مقتل عثمان.
والثابت أن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لم يشارك في التحريض ضد عثمان مثلما فعل طلحة والزبير، وهما صحابيان جليلان من أعضاء هيئة الشورى الثلاثية التي كلفها الخليفة عمر بن الخطاب باختيار خليفة بعده من بين 6 صحابة رشحهم قبل موته لخلافته.. لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن الجماهير الثائرة اتجهت صوب علي بن أبي طالب، وطوقت منزله 3 أيام لمبايعته خليفة بعد عثمان.
ويروي الطبري في تاريخ الرسل والملوك (ج3 - ص15)، أن الإمام علي بن أبي طالب خرج عليهم من داره، وقال لهم: (لا تعجلوا فإن عمر كان رجلاً مباركاً، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا حتى يجتمع الناس ويتشاوروا) (نهج البلاغة/ كتاب رقم 6). بيد أن الثوار أصروا على اختيارهم لعلي بن أبي طالب، فقال لهم: (فإن أبيتم فإن بيعتي لا تكون سراً، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين، وسأخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني.. وإن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر) (الطبري ـــ تاريخ الرسل والملوك ــ ج3 ــ ص450). وعندما تأكد من حصول ذلك بالاختيار وليس بالإكراه والعنف، قَبِل البيعة، وأصبح خليفة وأميراً للمؤمنين.
والمثير للتأمل أن طلحة والزبير اللذين قادا الثورة ضد عثمان، وأصرا على أن يخلفه علي بن أبي طالب، سعياً إلى الخليفة الجديد للتمتع بحصة مالية متميزة كما كان حالهما في عهد عمر وعثمان، إلا أن الخليفة علي بن أبي طالب بدأ يساوي منذ اليوم الأول لتوليه الحكم بينهما وعامة الناس في العطاء والشورى، ما أثار امتعاضهما ودفعهما الى مفاتحته، فرد عليهما: (والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به، فأتبعته، وما استن النبي (صلى الله عليه وسلم) فاقتديت به، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في هذا عتبى) (نهج البلاغة/205).
إلى ذلك، يروي ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة - الجزء الأول ـ ص89)، أن طلحة والزبير أدركهما اليأس من الحصول على وضع مالي متميز في ظل خلافة علي، فادعيا أن بيعتهما له كانت تحت الضغط والإكراه، ما أدى إلى قيامهما بالخروج على الخليفة الراشد الرابع على رأس جيش مسلح من أعوانهما في البصرة، حيث تزامن هذا الخروج مع قيام معاوية بن أبي سفيان بالتحريض ضد الخليفة علي بن أبي طالب والتشكيك ببيعته، فكتب إلى أهل مكة والمدينة رسائل طالب فيها بدم عثمان، كما كتب رسائل تحريضية مماثلة إلى كل من عبدالله بن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة بنت أبي بكر أرملة رسول الله، طالب فيها بدم عثمان!

أترك تعليقاً

التعليقات