احمد الحبيشي

يثير النص الدستوري على أن الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات بعد حرب 1994، إشكاليات خطيرة أهمها أن هذا النص دخل بقوة المنتصرين في تلك الحرب ضمن تعديلات أساسية على الدستور المُستفتى عليه!
وبحسب مُكوِّن أنصار الله والشهيد البروفيسور أحمد شرف الدين، فإن حركة طالبان عندما أقامت دولتها في أفغانستان ألغت الدستور، ونصت على أن الشريعة الإسلامية هي دستور البلاد ومصدر كل التشريعات والقوانين.. ثم أخضعت كل التشريعات للشريعة السنية الحنبلية الوهّابية.. ولم تعترف بالقانون الدولي، وأوقفت العمل بكافة المعاهدات الدولية التي وقعت عليها حكومات أفغانستان قبل وصول طالبان إلى الحكم.. كما أنها لم تعترف أيضاً بميثاق الأمم المتحدة.. ولم يكن في أفغانستان تحت حكم حركة طالبان نظام جمهوري تعددي ديمقراطي، بل إمارة كهنوتية اسمها إمارة أفغانستان، ويحكمها أمير، على طريق بناء دولة الخلافة عابرة الحدود والقوميات..
وفي إمارة طالبان تم تحريم العمل والتعليم وقيادة السيارات على النساء، وتحريم السينما والتليفزيون والصور الفوتوغرافية والرسوم.. كما تم إجبار الناس على إطالة لحاهم بما لا يقل عن طول الكف.. وتم أيضاً منع الأطفال من استخدام الألعاب الورقية والبلاستيكية والخشبية وأفلام الكارتون.. بالإضافة إلى إغلاق محلات التصوير وبيع الأشرطة الغنائية وجلد أية امرأة تخرج للتسوق أو زيارة الجيران بدون محرم!
ولذلك تم طرد نظام طالبان من الأمم المتحدة، وعزلها عن المجتمع الدولي، ولم يعترف بتلك الدولة الشاذة سوى 3 دول فقط، هي باكستان والسعودية والإمارات العربية المتحدة.
ومما له دلالة أن قناة (الجزيرة) الفضائية بثت مقابلة مع الشيخ جلال الدين حقّاني، وزير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أجراها معه تيسير علّوني، في أكتوبر عام 2011م، قبل شهرين من سقوط دولة طالبان، كشف فيها النقاب عن زيارة قام بها لأفغانستان وفد إسلامي كبير ضم الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والشيخ الدكتور محمد فريد واصل مفتي جمهورية مصر العربية آنذاك، والمفكر الإخواني الأستاذ فهمي هويدي، حيث كانت مهمة الوفد تتمثل في إقناع حكومة طالبان بوقف وتخفيف سياساتها الداخلية المتشددة، والتي تشوِّه صورة الإسلام، وتضر بالحركات الإسلامية التي تجاهد من أجل الوصول إلى الحكم في بلدانها عن طريق الانتخابات والبرلمانات..
كان رد الشيخ جلال الدين حقّاني أن طالبان مستعدة لإلغاء كافة سياساتها الداخلية بشرط إقناع فقهائها بأن السياسات الداخلية التي تُطبقها طالبان مخالفة للشريعة الإسلامية التي درسها فقهاء طالبان في الأزهر والجامعات السعودية والإسلامية!
والمثير للدهشة أن الوفد الإسلامي الكبير أكّد للشيخ حقّاني أن كل ما تنفذه طالبان صحيح 100%، ومطابق لتعاليم الشريعة الإسلامية، ولكن (مش وقته)!

نظام (طالبان) هو التجسيد الأمثل للتعديلات الدستورية بعد حرب 1994
في حديثه مع قناة (المسيرة) قبل بضعة أيام من استشهاده، قال الشهيد البروفيسور أحمد شرف الدين إنه طالب الإخوان المسلمين وحزب الإصلاح في مؤتمر الحوار الوطني، باسم مكون أنصار الله، بإلغاء كل التشريعات والمؤسسات الدستورية المعاصرة، وتطبيق الشريعة الإسلامية التي استقر عليها فقهاء المذهب الشافعي والمذهب الحنبلي، حتى لا يقولوا إن أنصار الله يريدون حصر السلطة في سلالة البطنين كما يزعمون!
كان جواب الإخوان المسلمين في حزب الإصلاح أن هذا غير ممكن، لأنه سيعزلنا عن العالم والبنك الدولي والدول المانحة، كما أنه سيشوِّه صورة (الجمهورية) في الخارج!
وهكذا يكون المنتصرون في حرب 1994 قد فرضوا وخلطوا بالقوة وبطريقة متناقضة وملتبسة أفكاراً كهنوتية مع أفكار مدنية معاصرة، بناء على صفقات ومصالح حزبية وسياسية ضيقة ومتناقضة، أهمها تغيير شكل رئاسة الدولة من هيئة رئاسة إلى رئيس جمهورية على نحو ما كان عليه الوضع قبل الوحدة!
ويُستدل على ذلك أن هناك مواد دستورية لم يتم تعديلها وتتناقض مع النص على العلاقة بين الدين والدولة، مثل التأكيد على الالتزام بميثاق الأمم المتحدة والقوانين والمعاهدات الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات الخاصة بحقوق المرأة والطفل، وجميع هذه المواثيق والمعاهدات تتضمن أفكاراً معاصرة (تتعارض) مع الشريعة الإسلامية التي استقرت عليها المذاهب السنية، وبالذات المذهب الحنبلي والمذهب الشافعي، بحسب رؤية الشهيد البروفيسور أحمد شرف الدين، الذي يؤكد أن المواد الدستورية الخاصة بالشريعة الإسلامية وُجدت فقط للتضليل على الناس، وهذا يندرج ضمن الكهنوت السياسي الجديد.
بوسع كل من يُطالع مؤلفات وكتابات الفقهاء التقليديين من أتباع المذهب الحنبلي في صيغته التي استقرت على أيدي ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وتابعهما محمد بن عبدالوهاب، ملاحظة إصرار الفقهاء المقلدين على تكفير الحكام والحكومات والمجتمعات التي تعمل بالقوانين الوضعية، وتلتزم بالقانون الدولي والمواثيق والمعاهدات الدولية، وتتحاكم وتتقاضى في المحاكم المتخصصة، وأبرز هؤلاء الشيخ حمود بن عقلاء والشيخ عبدالرحمن آل الشيخ والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ ربيع المدخلي والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ محمد بن نفيع العلياني والشيخ ابن العثيمين والشيخ عبدالرحمن البراك وغيرهم من الآباء الروحيين لشيوخ وتلاميذ الحركة الصحوية السلفية في اليمن والعالم العربي والإسلامي.
وبالنظر إلى ما قدمته إمارة (طالبان) في أفغانستان، والإمارات الإسلامية التي أقامها تنظيم (القاعدة) ومن بعده تنظيم (داعش) في بعض مناطق العراق وسوريا واليمن وليبيا وباكستان والصومال ومالي ونيجيريا، من ممارسات تطبيقية لأفكار الحركة الصحوية السلفية ومشروعها السياسي الذي تسعى إلى تنفيذه بواسطة الدعوة أو القتال أو كليهما معاً، فقد سلطت فتوى الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي التي أصدرها في أكتوبر عام 2000م، أضواء كاشفة على مخاطر المشروع السياسي المتطرف للفكر السلفي الذي ألحق خسائر مدمرة بالشعب الأفغاني وشعوب المناطق التي ابتليت بسيطرة هذا الفكر عليها مؤقتاً، ناهيك عن الخسائر التي تكبدتها العديد من دول العالم بسبب الطبيعة العدوانية والإرهابية لهذا المشروع التكفيري الإقصائي بشقيه الدعوي والمحارب.
والحال أن الفتوى التي أصدرها الشيخ بن عقلاء بشأن إمارة (طالبان) لا تختلف في الشكل والمضمون عن مختلف الفتاوى والآراء والأفكار الصادرة عن الآباء الروحيين للحركة الصحوية السلفية الذين سبقت الإشارة إليهم.. فالحكومة الإسلامية الشرعية عند هؤلاء هي تلك التي يقيمها المجاهدون في أية بقعة تدين بالإسلام، حتى ولو كانت جزءاً متمرداً من دولة عضو في المجتمع الدولي، وتلتزم بميثاق الأمم المتحدة والمواثيق الدولية، وما تحتاجه هذه الحكومة في حال قيامها (هو الدعم المالي من المسلمين لمساعدتها في حربها على معارضيها) بحسب الفتوى.
أما أهم ما يعطي المشروعية للحكومة الإسلامية التي تقيم حكم الله ولا تعمل بالدساتير والقوانين الوضعية بحسب فتاوى الآباء الروحيين لشيوخ وتلاميذ الحركة الصحوية السلفية في السعودية واليمن، وفي مقدمتهم الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي، فهو (الاهتمام بمناصرة المجاهدين في سبيل الله، ومن أجل أن يكون الدين كله لله في ديار الأرض، وهذا مشهود لحكومة [طالبان]) بحسب الفتوى التي تشير أيضاً إلى شروط أخرى تعطي الشرعية الدينية لحكومة طالبان، ومن بينها (أنها الدولة الوحيدة التي لا تعترف بما يسمى القانون الدولي والمواثيق الدولية وميثاق الأمم المتحدة، ولا تلتزم بالدساتير والقوانين الوضعية، ولا توجد فيها محاكم قانونية، وإنما حكمها قائم على شرع الله في المساجد ومجالس العلماء وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)!
وقد ذهب تلاميذ الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي وغيره من الآباء الروحيين للحركة الصحوية السلفية في السعودية واليمن ودول الخليج، هذا المذهب عندما بلور عدد من الشيوخ السلفيين الحركيين مشروعاً متكاملاً لطلبنة السعودية من خلال توجيه مذكرة النصيحة في بداية التسعينيات من القرن العشرين المنصرم، ومذكرة المطالب عام 2003 إلى الحكومة السعودية، حيث طالب الموقعون على هاتين المذكرتين بإعادة بناء الدولة السعودية على أسس تمنحها المشروعية الدينية التي أوضحها الشيخ بن عقلاء الشعيبي في فتواه التي عرضناها سابقاً بشأن حكومة (طالبان)، وكان أبرز ما تصدرته تلك المذكرتان هو المطالبة بإلغاء ما سموه القوانين الوضعية في السعودية.
في الاتجاه ذاته كرر شيوخ الحركة الصحوية السلفية في اليمن ما جاء في مذكرتي (النصيحة) و(المطالب) الصادرتين عن زملائهم في السعودية، حيث طالبوا الحكومات اليمنية السابقة في عدد من البيانات والمطالب، بإلغاء ما سموها (القوانين الوضعية) التي تبيح عمل المرأة في المؤسسات والشركات والمصانع والجامعات والمطارات والموانئ ووسائل الإعلام والمؤسسات العسكرية والأمنية، بذريعة أن عمل المرأة خارج البيت يؤدي إلى الاختلاط بالرجال وانتشار الفسوق وأولاد الزنى، كما طالبوا بتحريم الموسيقى والغناء، ومنع تولي النساء وظائف الولاية العامة، واستنكروا توجه حكومة الدكتور علي محمد مجوّر عام 2009، لإصدار تشريعات جديدة بهدف تحقيق المساواة بين دية المرأة القتيلة والرجل القتيل، وتحديد سن للزواج، ومنع نكاح الطفلة الصغيرة، وتجريم مفاخذة الطفلة الرضيعة بذريعة موافقة ولي أمرها على عقد قرانها، وهو ما يراه شيوخ الحركة الصحوية السلفية في السعودية واليمن تقييداً لحق أباحته الشريعة الإسلامية، على نحو ما طبقته حركة (طالبان) استناداً إلى آراء فقهية وضعية يجري تعريف الشريعة الإسلامية حصرياً بموجبها.
لا يمكن فهم إشكاليات الخلط بين الدين والدولة بدون التعرُّف على الطبيعة المذهبية الوضعية لظاهرة الدمج بين المَلَكيّة والدين من خلال تحالف الملوك ورجال الدين في مختلف مراحل التاريخ اليهودي والمسيحي والإسلامي، الأمر الذي يستلزم تسليط الضوء على أهم ملامح المسار السياسي والفقهي للمذاهب اليهودية والمسيحية والإسلامية الوضعية، وجميعها مذاهب ملكية باستثناء المذهب البروتستانتي والمذهب الإنجيلي اللذين ظهرا في غمرة الصراع بين العلماء والمفكرين في مواجهة رجال الدين والأكليروس المسيحي بعد ظهور الثورة الصناعية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، بالإضافة إلى المذهب الشيعي الاثناعشري الذي أحدثت الثورة الإيرانية تعديلات جوهرية فيه، من خلال استبدال عقيدة التقية بالثورة، وعقيدة الإمام الغائب بالمرشد الأعلى للثورة المنتخب من هيئة منتخبة لتشخيص مصلحة النظام، واستبدال الإمامة بالجمهورية الدستورية التي تقوم على قواعد الفصل بين السلطات. فيما ينتخب الشعب سلطاتها التشريعية والتنفيذية على أساس تنافسي.. 
ولما كان منهج هذا المقال يقتضي الانتقال إلى عرض أبرز ملامح المذهب الملكي السُّني، لجهة علاقته بمسائل سياسية ذات صلة بالعلاقة بين الدين ونظام الحكم في مجالات العدل والشورى والبيعة وطاعة الحاكم والتصرف بالمال العام والاستبداد والمعارضة والإجماع والحل والعقد، وما ترتب على ذلك من تراث فقهي استهدف إضفاء الشرعية الدينية على الخلافات والصراعات والثورات والانقسامات التي أرهقت التاريخ الإسلامي، حيث كان للمذهب الملكي السُّني دور بارز في إضفاء الشرعية الدينية على عملية إحياء العلاقة غير المقدسة بين الملكيّة الوراثية والدين، وإعادة إنتاج الدور الذي لعبه ملوك بني إسرائيل وملوك أوروبا القديمة في تشويه التاريخ اليهودي والمسيحي، وتحويل الأنبياء من رسل الله إلى شركاء له في التشريع الإلهي، واختراع أحاديث وروايات وضعها الملوك والأحبار والرهبان، ثم نسبوها إلى أنبياء العهد القديم والعهد الجديد، وصولاً إلى الزعم بأن رجال الدين هم ورثة قديسون للأنبياء، ومُشرّعون باسمهم، حتى أصبح الله بموجب هذه المعادلة الملكيّة (ثالث ثلاثة)، هم الله والملوك (الربانيون) الذين يحكمون باسم الله ورسله، بالإضافة إلى رجال الدين القديسين الذين يرثون رسالات الأنبياء، ويباركون الملوك الربانيين، ويحرسون دين الله على الأرض!
(يتبع)

أترك تعليقاً

التعليقات