حـاوره:طارق الأسلمي / لا ميديا -
لم تكن غزة يوماً مجرد عنوان في نشرات الأخبار، بل كانت ومازالت قلباً نابضاً بالحياة رغم كل ما يحيط بها من رماد الحرب. هناك، بين ركام البيوت والملاعب المهدمة، ووسط أصوات القصف والغياب، وُلدت حكايات عن إرادة لا تنكسر، ورياضيين وصحفيين قاوموا بالكلمة والأمل. فحتى حين خمدت أصوات الجماهير ظلت قلوبهم تهتف للحياة في وجه الموت.
بين هؤلاء الذين لم يستسلموا للصمت يبرز اسم فادي محمد حجازي، الصحفي والناقد الرياضي الغزاوي، الذي عاش المأساة بكل تفاصيلها، وخسر ما لا يُعوض؛ لكنه ظل متمسكاً بالكلمة كوسيلة مقاومة وذاكرة لا تنطفئ. فادي لم يكن فقط شاهداً على ما جرى، بل كان جزءاً من الحكاية، يعيشها كل يوم بقلب الصحفي ووجع الأب.
15 عاماً من العمل الإعلامي صنعت منه صوتاً مميزاً في الساحة الرياضية، شارك خلالها في تغطية مختلف الأحداث الرياضية، ورفع اسم غزة عالياً حين كان أحد الصحفيين الذين واكبوا كأس العالم في قطر 2022، قبل أن تعصف الحرب بما تبقى من تفاصيل الحياة الطبيعية في مدينته.
"لا الرياضي" يستضيف فادي حجازي ويجري معه هذا الحوار الإنساني الخاص، الذي يفتح فيه قلبه متحدثاً عن تجربته بين الفقد والأمل، المهنة والذاكرة، وكيف يمكن للكلمة أن تظل واقفة رغم انهيار كل شيء من حولها.
 من هو فادي حجازي؟ وكيف تروي حكايتك مع الإعلام الرياضي؟
- اسمي فادي محمد حجازي، عمري 35 عاماً، من سكان غزة، خريج قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الإسلامية. على مدى خمسة عشر عاماً عشت تجربة مهنية غنية في مجال الإعلام الرياضي، تنقّلت خلالها بين مؤسسات صحفية متعددة، واكتسبت خبرات متنوعة صقلت شخصيتي المهنية. حصلت خلال مسيرتي على العديد من الجوائز المحلية والعربية والقارية، وكان من أبرز محطاتي مشاركتي ضمن الصحفيين الذين واكبوا تغطية كأس العالم في قطر عام 2022.
 بعد كل ما مررتَ به خلال العامين الماضيين، كيف تصف لحظتك الراهنة كإنسان أولاً، ثم كصحفي وناقد رياضي؟
- بصراحة، اللحظة الراهنة بالنسبة إليّ ليست سهلة الوصف.
كإنسان، أنا أقف بين الحياة والذاكرة، بين من فقدتهم ومن مازلت أعيش لأجلهم. قلبي مثقّل بالحزن؛ لكن عقلي مصرّ على ألّا أسمح للحرب بأن تكسر آخر ما تبقّى فيّ. أما كصحفي وناقد رياضي فلست كما كنت. الصوت الذي كنت أتحدث به عن المباريات بات يخرج من مكانٍ مجروح؛ لكنه ما زال موجوداً ربما أكثر هدوءً، أعمق، وأصدق.
 كيف تغيّر إحساسك بمعنى "الخبر" و"الحدث والتحليل" بعد أن أصبحت جزءاً من المأساة؟
- قبل الحرب كنت أتعامل مع الخبر كمعلومة؛ أما اليوم فقد أصبح الخبر وجهي ووجهَي ولدَيّ محمد وزينة، وصوت الدمار الذي سمعته بأذنيّ. التحليل لم يعد مجرد رأي، بل أصبح شهادة. صرت أزن الكلمات كما لو كانت أرواحاً لا جُملاً، وكان لهذا التحوّل وقعٌ كبير على قلبي.
 هل مازلت ترى في الصحافة والرياضة مساحة للأمل؟ أم تحولت إلى ترف لا مكان له في زمن الحرب؟
- قد يبدو الأمر ترفاً من الخارج؛ لكن جوهر الصحافة والرياضة مازال مساحة أمل. فالإنسان مهما اشتد عليه الضغط يحتاج إلى متنفس. الصحافة والرياضة كانتا لي ولسكان غزة نافذة صغيرة نطل منها على حياة طبيعية كنا نحلم بها؛ لكنها في زمن الحرب فقدت الكثير من طعمها.
 فقدت طفليك في الحرب، وهي جريمة تفوق قدرة اللغة على الوصف. كيف تعاملت مع هذا الفقد؟
- لم أتعامل مع الفقد، وبصراحة أكون كاذباً لو قلت إنني بعد قرابة عامين قد استوعبت رحيلهما. أنا فقط أتعايش مع الفقد لأنه يشبه النار التي لا تنطفئ؛ لكنك تتعلم أن تمشي وأنت تحمل حرارتها. محمد وزينة ليسا ذكرى، بل الحافز الذي يجعلني أتمسك بالحياة. لم أتجاوز الفقد، ولن أتجاوزه يوماً، لكنني تعلمت أن أكون موجوداً رغم وجعه.
 كيف تبدو ممارسة العمل الصحفي والرياضي في غزة اليوم؟ وهل لديك القدرة أو الرغبة في الاستمرار في النقد والتحليل الرياضي؟
- العمل الصحفي اليوم في غزة لم يعد مهنة، بل مقاومة صامتة. بين القصف والنزوح والدمار نحاول أن نكتب ونوثق. أما التحليل الرياضي فالرغبة مازالت موجودة؛ لكن الشغف فقد الكثير من بريقه.
 ما الذي فقدته مهنياً؟ وما الذي اكتسبته إنسانياً خلال هذه التجربة؟
- مهنياً فقدت أدواتي واستقراري والعديد من المساحات التي كنت أعمل فيها. أما إنسانياً فقد اكتسبت رؤية أعمق للحياة؛ أصبحت أقدّر النفس واللحظة والوجوه والأطفال، واكتشفت كم أنا ضعيف من دون أطفالي.
 هل تجد أن الرياضة يمكن أن تكون وسيلة مقاومة أو نافذة حياة؟
- بالتأكيد، الرياضة ليست مجرد تسلية، بل هي هوية وصمود. كل فريق يلعب، كل جمهور يصرخ، وكل طفلٍ يشوت كرة وسط الركام... هذا كله شكل من أشكال الحياة التي تحاول الحرب إخمادها.
 كيف تقيّم أداء الإعلام العربي والدولي في تغطية ما جرى في غزة؟
- هناك إعلام شريف حاول أن يصرخ، وإعلام آخر اختار الصمت. الإعلام العربي كان أحياناً ضعيفاً أمام الحقيقة، والإعلام الدولي بدا مشلولاً أمام نفوذ السياسة. لكن رغم ذلك ظهرت الحقيقة، لأن الدم لا يمكن أن يُطمس.
 كصحفي من الميدان، ما الذي تراه مفقوداً في السرد الإعلامي للحرب؟
- المفقود هو الإنسان. الكاميرا ترى الدمار؛ لكنها لا ترى قلب الأب حين يسمع اسم طفله بين الشهداء أو عندما يراه في لحظاته الأخيرة؛ لا ترى الفتاة التي تنام على دفترها المدرسي المدفون تحت الركام... السرد ناقص الروح والوجدان.
 هل المشاهد الصعبة التي تُنقل كافية لتوضيح حجم معاناة غزة؟
- لا؛ فمهما كانت الصورة قوية فهي مجرد جزء صغير من الحقيقة. هناك أشياء لا تُرى بالكاميرا: القهر على النفس، انتظار مستقبلٍ أفضل، الخوف من الليل بسبب الصواريخ، الصمت قبل الانهيار أمام العائلة... باختصار: المعاناة أكبر من العدسة.
 بعد توقف الحرب.. هل تفكر بالرحيل؟ أم أن الانتماء للأرض أقوى من الألم؟
- الإنسان بطبيعته يبحث عن الأمان؛ لكن غزة ليست مكاناً يُترك؛ هي هوية، والهوية لا يبيعها الألم.
 رغم كل الظروف، هل مازلت تتابع كرة القدم؟
- للأسف، انقطعت تقريباً عن متابعة المباريات، رغم أن لقطة من أي مباراة تمنحني لحظة أشعر فيها بأن الدنيا مازال فيها جزء طبيعي.
 عندما تشاهد مباراة اليوم، هل تشعر بالانفصال عن الواقع للحظات؟ أم أن الحرب تطاردك حتى في المدرجات الافتراضية؟
- بصراحة، الحرب تطاردني في كل مكان. سأكون كاذباً لو قلت إنني طبيعي. ربما أحتاج إلى علاج نفسي؛ فصورة طفليّ الشهيدين وصوت الصواريخ لن تُمحى من ذاكرتي أبداً.
 لو طُلب منك اليوم تحليل مباراة، هل ستفعل ذلك بالحماسة القديمة نفسها، أم أن الكلمات لم تعد تكفي؟
- الحماسة تغيّرت؛ لكنها لم تمت، بل نضجت. صرت أتكلم وأنا أرى ما وراء الملعب؛ أرى الإنسان في اللاعب، لا مجرد الأداء في المباراة.
 هل تتخيل أن يعود الجمهور في غزة يوماً إلى المدرجات كما كان، يصرخ فرحاً لا خوفاً؟
- أتخيله وأتمناه من كل قلبي. غزة تستحق فرحة جماعية تصرخ فيها بصوتٍ واحد: "لسه فينا حياة يا عالم!".
 تابعت غزة مواقف كثير من الشعوب، ومنها موقف اليمن الداعم والمعبر بوضوح. كيف تنظرون إلى هذا الموقف؟
- اليمن كان صوتاً أصيلاً صادقاً خرج من وجع يشبه وجعنا. كل صحفي وكل رياضي وكل شخص في غزة شعر بقيمة هذا الموقف. لن ننسى من وقف معنا بقلبه وصوته.
 هل لديك رسالة تود إيصالها عبر صحيفة "لا"؟
- رسالتي بسيطة: نحن لسنا أرقاماً، نحن وجوه وأسماء وأطفال وأحلام... ومهما طال الليل ستبقى غزة حيّة، وأنا واحد من أبنائها الذين سيواصلون إيصال رسالتها بالكلمة والذاكرة.
 في نهاية هذا الحوار، ما هي كلمتك الأخيرة؟
- أود أن أتقدّم بخالص الشكر لكم على هذه المقابلة عبر صحيفتكم المحترمة، وأوجه تحية تقدير واحترام لليمن قيادة وشعباً.