شراكة خالد مشعل مع «Google Cloud» ..من خطاب المظلومية إلى الاستثمار في بنك أهداف الإبادة
- تم النشر بواسطة د. نبيلة عفيف غصن
د. نبيلة عفيف غصن / لا ميديا -
حين يسقط القناع الأخلاقي
سلامٌ لكم يا أهل الأرض المحتلة، يا من تحوّل دمكم، عبر عقود، إلى مادة خطابية تُستحضر عند الحاجة، وتُنسى عند أول صفقة، يا من صرتم في بعض الحسابات مجرّد «قضية» قابلة للتدوير، لا شعبًا يُذبح.
في اللحظة التي كان فيها العالم يبدأ -على استحياء- بكشف التواطؤ التكنولوجي الغربي مع آلة القتل الصهيونية خلال حرب الإبادة الجماعية على غزة، كانت مفارقة صادمة تتكشّف في الاتجاه المعاكس: شراكة استراتيجية تُوقَّع بين شركة يملكها نجل خالد مشعل، وبين «Google Cloud»، إحدى الشركات المتَّهمة دوليًا بتوفير البنية التحتية الرقمية التي استُخدمت في بناء «بنك أهداف» الاحتلال.
هنا لا تعود القضية مسألة «نجاح أعمال»، ولا «خيارًا استثماريًا خاصًا»، ولا حتى «خطأً في التقدير». نحن أمام انهيار أخلاقي وسياسي مركّب، حين يصبح اسم المقاومة جسر عبور إلى شركات متورّطة في الإبادة، وحين تتحوّل المظلومية الفلسطينية من رافعة تحرّر إلى أداة نفوذ واندماج في السوق العالمي ذاته الذي يموّل القتل.
«Google Cloud»..من منصة تقنية إلى ذراع حرب رقمية
منذ توقيع مشروع «Nimbus» عام 2021 بين حكومة الاحتلال من جهة، وشركتي «Google» و«Amazon» من جهة أخرى، لم يعد ممكنًا التعامل مع «Google Cloud» كمنصّة تقنية محايدة. المشروع، الذي تجاوزت قيمته 1.2 مليار دولار، لم يكن عقد خدمات عاديا، بل تأسيسًا لبنية سيادية رقمية تخدم أجهزة الأمن والجيش والاستخبارات.
وفّرت «Google Cloud»، بموجب هذا المشروع، منظومات حوسبة سحابية متقدمة، وأدوات ذكاء اصطناعي وتعلّم آلي، وبُنى تخزين وتحليل بيانات ضخمة، مصمَّمة خصيصًا لتلبية احتياجات الكيان العسكرية. هذه الأدوات لم تُستخدم في تحسين خدمات مدنية، بل في إدارة بيانات السكان الفلسطينيين، وتحليل الأنماط السلوكية، وبناء نماذج تنبؤية للاستهداف.
مع تطوّر الحرب على غزة، تبيّن أن هذه البنية مكّنت جيش الاحتلال من أتمتة قرارات القتل، وتسريع دورة الاستهداف، وتحويل الإنسان الفلسطيني إلى «نقطة بيانات» داخل خوارزمية. تقارير صحافية موثّقة، أبرزها تحقيق صحيفة «Washington Post» في كانون الثاني/ يناير 2025، أكدت أن تقنيات «Google Cloud» استُخدمت لدعم أنظمة عسكرية تعتمد الذكاء الاصطناعي في اختيار الأهداف خلال العدوان.
هنا يصبح السؤال أخلاقيًا بحتًا: هل يمكن لأي جهة تدّعي الانتماء إلى قضية فلسطين أن تتعامل مع شركة تؤمّن العمود الفقري الرقمي للإبادة؟
«ID8 Media»..الواجهة النظيفة لرأسمال ملوّث
في عام 2021، أسّس عمر عبدالقادر، نجل خالد مشعل، شركة «ID8 Media»، واتخذت من إسطنبول والدوحة مقرّين رئيسيين لها. الشركة قُدِّمت بوصفها مشروعًا عصريًا يعمل في مجالات الذكاء الاصطناعي، والتحوّل الرقمي، وبناء العلامات التجارية، والإعلام المتقدّم.
ظاهريًا، نحن أمام قصة ريادة أعمال شابة. لكن عند التمحيص، يتكشّف نمو متسارع لا يمكن فصله عن الاسم السياسي الثقيل الذي تحمله الشركة بشكل غير معلن. خلال فترة قصيرة، اخترقت «ID8» مؤسسات سيادية، ووزارات، وبنوك، وشبكات إعلام إقليمية، في مسار اختصر ما يحتاجه أي مشروع ناشئ من عشر إلى خمس عشرة سنة من التراكم الطبيعي.
هذا الصعود لا يمكن قراءته بمعزل عن شبكة العلاقات السياسية التي راكمها خالد مشعل، ولا عن رمزيته التاريخية في وعي الشارع العربي والإسلامي. هنا لا نتحدّث عن فساد إداري تقليدي، بل عن تحويل الرمزية النضالية إلى رأسمال غير معلن، يُستخدم لفتح الأبواب المغلقة، وتحييد الأسئلة الحرجة.
من «ID8» إلى «The 8 Group».. تمدّد برعاية سياسية
لم تكتفِ «ID8 Media» بالبقاء شركة واحدة، بل تحوّلت خلال أقل من أربع سنوات إلى مظلّة إقليمية تحمل اسم «The 8 Group»، تضم تحتها عدة أذرع متخصصة، من الاستراتيجيات الرقمية، إلى البث والواقع المعزّز، إلى الإنتاج الإعلامي والتدريب.
هذا التمدّد السريع ترافق مع حصول المجموعة على تسهيلات استثنائية: تراخيص كاملة، ملكية أجنبية مطلقة، إعفاءات ومزايا ضريبية، واحتضان رسمي داخل المدينة الإعلامية القطرية. كل ذلك جرى تحت مظلّة رمزية فضفاضة اسمها «المقاومة»، من دون أي ارتباط تنظيمي فعلي بحركة حماس أو التزام سياسي معلن تجاه خطّها.
هنا تظهر المفارقة: الاستفادة من صورة المقاومة دون تحمّل كلفتها الأخلاقية أو السياسية.
الشراكة مع «Google Cloud».. التوقيت هو جوهر الجريمة
لو كانت الشراكة مع «Google Cloud» قد جرت في سياق مختلف، لكان النقاش تقنيًا بحتًا. لكن التوقيت يحوّلها إلى موقف سياسي واضح. ففي عام 2024، كانت غزة تتعرّض لإبادة مفتوحة، وموظفو «Google» أنفسهم ينظّمون احتجاجات داخلية رفضًا لتورّط شركتهم في مشروع «Nimbus»، بينما كانت تقارير دولية ومنظمات حقوقية تتحدّث صراحة عن استخدام الذكاء الاصطناعي في القتل الجماعي.
في هذا التوقيت بالذات، وقّعت «ID8 Media» عقد الشراكة. وهذا ما يجعلها شريكًا موضوعيًا في الجريمة، حتى لو لم تطوّر سطرًا واحدًا من الشيفرة العسكرية. الشراكة هنا ليست تقنية، بل شرعنة أخلاقية لشركة متورّطة في الإبادة.
المقاومة كعلامة تجارية
الأخطر من الصفقة نفسها هو ازدواج الخطاب. ففي العلن، يُستعاد خطاب المظلومية، وتُستثمر رمزية الدم، وتُرفع شعارات المقاومة. أما في الواقع العملي، فهناك اندماج كامل في السوق التكنولوجي العالمي الذي يزوّد العدو بأدوات التفوّق والسيطرة.
حين تُفصل المقاومة عن الأخلاق، تتحوّل إلى «براند». وحين يصبح الدم مادة ترويجية، تفقد القضية معناها التحرّري، وتدخل منطق السوق.
الذكاء الاصطناعي كأداة حرب معرفية
تستخدم «ID8 Media» أدوات تحليل متقدّمة، مثل أنظمة تحليل المشاعر على وسائل التواصل الاجتماعي، لرصد الرأي العام وتحويل البيانات إلى استراتيجيات إعلامية. هذه الأدوات، حين تُطبَّق على فضاء فلسطين وغزة، لا تكون بريئة. فهي تدخل مباشرة في الحرب المعرفية، حيث يُقاس الغضب، ويُدار التعاطف، ويُضبط السرد.
وحين نعلم أن المنظومات ذاتها يمكن أن تتكامل تقنيًا مع برامج عسكرية مثل «Nimbus» و«Lavender» يصبح الفصل بين «إعلام» و»عسكر» مجرّد وهم تقني.
الاستثمار الإعلامي والفني.. الرمزية بلا أخلاق
استثمرت المجموعة في الإنتاج الإعلامي والفني، مستفيدة من خبرة خالد مشعل الرمزية في الخطاب والتأثير. لكن هذه الاستثمارات جاءت منزوعـة من أي التزام أخلاقي واضح. القضايا الكبرى جرى تحويلها إلى فرص، والرموز إلى أدوات تسويق، والمأساة إلى محتوى.
سؤال لا يمكن الهروب منه
ليس هذا نصّ تشهير، بل مساءلة أخلاقية وسياسية مشروعة:
كيف يمكن لمن يتحدّث باسم دم غزة، أن يوقّع شراكة مع شركة تُسهم في بناء بنك أهداف قتلها؟
التاريخ لا ينسى.
والدم لا يُغسَل بالعقود.
والمقاومة، إن لم تكن أخلاقًا، تتحوّل إلى تجارة.
سلامٌ على من لم يساوم.










المصدر د. نبيلة عفيف غصن