مودة اسكندر موقع (The cradle)
ترجمة:أقلام عبدالملك مانع / لا ميديا -
منذ منتصف تشرين الأول/ أكتوبر، عاد اليمن إلى واجهة المشهد الإقليمي. وتكثفت وتيرة النشاط السياسي والعسكري في عدة محافظات، كاشفةً عن حدود وقف إطلاق النار الحالي. ومن وجهة نظر صنعاء، لا يمكن أن تستمر مرحلة الـ«لا حرب ولا سلم».
في هذه الأثناء، تحاول السعودية التوفيق بين مسارين: الضغط العسكري، وتجديد الحوار عبر الوساطة العمانية. وتريد الرياض الحفاظ على نفوذها الميداني، مع اختبار إمكانية التوصل إلى تسوية أوسع نطاقاً.
وإلى الواجهة، عادت الولايات المتحدة و«إسرائيل»؛ إذ تسعيان لعرقلة أي عملية مفاوضات قد تُعزز موقف حكومة صنعاء. حركت واشنطن قنوات التنسيق مع التحالف، في حين أن «تل أبيب» تراقب جبهة البحر الأحمر وتسعى لاحتواء القوات المتحالفة مع أنصار الله. وأصبح اليمن مرة أخرى ساحةً متداخلةً لمحادثات السلام والمناورات الخارجية والتهديدات العسكرية.
مفاوضات تحت النار
تحركت سلطنة عُمان، كوسيط إقليمي رئيسي، نحو تهدئة التوتر بعد أن تبادلت صنعاء والرياض اتهامات بانتهاك الهدنة الاقتصادية لعام 2024، التي تُشكل العمود الفقري لـ«خارطة الطريق» التي وضعتها الأمم المتحدة. وفي 28 تشرين الأول/ أكتوبر، أعلنت مسقط عن جهود دبلوماسية جديدة لوقف اتساع نطاق الصراع، وإعادة إحياء المسار السياسي.
لكن في الوضع الميداني لا يبدو أن هناك التزاماً كاملاً بضبط النفس. ففي محافظة صعدة وحدها، سجّل المراقبون 947 انتهاكاً هذا العام فقط، أسفر عنها مقتل 153 شخصاً وإصابة نحو 900 آخرين. وفي 29 تشرين الأول/ أكتوبر، شنت القوات السعودية قصفاً مدفعياً على قرى في مديرية رازح الحدودية.
من جهتها، استمرت صنعاء في تكريس معادلة «العين بالعين»، فقد نظمت عرضاً عسكرياً ضخماً بالقرب من نجران، جنوب المملكة السعودية، لإظهار الجاهزية. بدورها، اختبرت الرياض صافرات الإنذار المدنية في مدنها الرئيسية، وهي خطوة سخر منها حزام الأسد، القيادي في أنصار الله، قائلاً إن صافرات الإنذار لن تحمي المدن السعودية في ظل استمرار العدوان والحصار.
وفـــــي حديثه لـ«المهد» (The cradle)، يشير عادل الحسني، رئيس منتدى السلام، إلى أن الأزمة تتفاقم بسبب تدهور الوضع الاقتصادي والعقوبات التي طالت أكثر من 25 مليون يمني، بالتزامن مع وساطة سلطنة عمان لتهدئة الأوضاع.
وبحسب الحسني، تتضمن خارطة الطريق مرحلتين: الأولى إنسانية، وتشمل رفع الحصار، ودفع الرواتب، واستئناف تصدير النفط؛ والثانية سياسية، وتتمثل في تشكيل حكومة وحدة أو حكومة ائتلافية يتم بالتزامن مع انسحاب قوات التحالف. ويرى الحسني أن هذا وحده كفيلٌ باستقرار الوضع.
استراتيجية واشنطن و«تل أبيب» الجديدة
بعد عملية «طوفان الأقصى» والحرب التي تلتها على غزة، تحول النهج (الأمريكي - «الإسرائيلي») تجاه اليمن نحو عمليات هجينة: حشد الشركاء المحليين وحرب المعلومات، والضربات الجوية الخاطفة، بدلاً من أي تدخل مفتوح.
من جانبها هددت صنعاء مؤخراً بقصف مواقع نفطية سعودية، عقب رصد تحركات لتشكيل جبهة (أمريكية - «إسرائيلية») ضد أنصار الله. ووصف رئيس الوزراء «الإسرائيلي»، بنيامين نتنياهو، الجماعة المقاومة بأنها «تهديد كبير جداً»، وهدد وزير الدفاع «الإسرائيلي»، كاتس، بشن غارات جوية على صنعاء.
الفكرة هي إبقاء السعودية تحت الضغط، مع السماح لـ»إسرائيل» بالتحرك بشكل غير مباشر. وفي هذا السياق صرّح وزير المالية «الإسرائيلي»، بتسلئيل سموتريتش، بأن «التهديد اليمني» لم يُحسم بعد، وحثّ الحلفاء العرب على المشاركة في احتوائه.
وقد تردد هذا الرأي في مراكز الأبحاث الغربية، التي حثت واشنطن على استئناف دعم الدور العسكري للرياض، بعد فشل التحالف البحري في البحر الأحمر. واعترف مدير ميناء «إيلات»، جدعون غولبر، بتضرر التجارة البحرية بشدة، مضيفاً: «نحتاج إلى صورة النصر من خلال إعادة تشغيل الميناء». كما أشار تقرير صادر عن المعهد البحري الأمريكي إلى أنه رغم إنفاق أكثر من مليار دولار على الدفاع الجوي والعمليات المشتركة، لا تزال السيطرة على الممر ضعيفة.
بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 وأيلول/ سبتمبر 2025، نفذت القوات اليمنية أكثر من 750 عملية في البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، في إطار ما وصفته بالرد الدفاعي. وحثّ رئيس المجلس السياسي الأعلى، مهدي المشاط، السعودية على «الانتقال من مرحلة التهدئة إلى إنهاء العدوان والحصار والاحتلال، وتطبيق استحقاقات السلام الواضحة».
واتهم واشنطن أيضاً باستغلال التوترات الإقليمية لخدمة «إسرائيل». وأضاف حميد عاصم، عضو المجلس الوطني، أن اتفاق التهدئة السابق، الذي وُقّع قبل عام ونصف في صنعاء، أسقطته الرياض بتوجيه أمريكي بعد عملية «طوفان الأقصى».
مصدر مقرب من صنعاء يقول إن قيادة الجماعة على قناعة راسخة بأن مسؤولية هذه الأدوات لا يمكن فصلها عمن أنشأها وسلحها ودربها منذ العام 2015. ولذلك، تؤكد صنعاء أن أي تحرك لهذه الأدوات في مأرب أو الساحل الغربي أو جنوب البلاد لن يبقى معزولاً، وسيحمل في طياته تبعات مباشرة ستطال الجهات التي دعمت وأشرفت على إعداد هذه المجموعات.
ويضيف المصدر أن لأمريكا خبرة طويلة في اليمن، لا بد أنها ستدفعها إلى تجنب التدخل البري المباشر؛ إذ يبدو أن أولوياتها تتركز على حماية «إسرائيل» بضرب قدرات أنصار الله الصاروخية والبحرية دون احتكاك بري واسع. لذلك، بدأت بتنفيذ خطة تعتمد على الحرب الهجينة: تكثيف الضخ الإعلامي، والتشويش، والعمليات المعلوماتية، والحرب النفسية، بالإضافة إلى الاستعدادات اللوجستية والتنسيقية لتحريك الجبهات الداخلية عبر أدوات محلية موالية للتحالف.
ويشير المصدر إلى أن هذه الاستراتيجية الهجينة قد تتزامن مع خطوات عسكرية وإعلامية «إسرائيلية»، عبر تهديدات وتصريحات مسؤولين في «تل أبيب»، ليصبح الهدف المنشود «تفجير المشهد من الداخل» وإضعاف صنعاء، عبر فوضى داخلية تفتح المجال أمام خيارات ضاغطة أو ضربات تستهدف ترسانتها دون تدخل بري أمريكي مباشر.
التحركات الأمريكية والإماراتية
في الجنوب
طوال تشرين الأول/ أكتوبر، وسّعت الولايات المتحدة والسعودية والإمارات حضورها في الجنوب والساحل الغربي والمهرة، بهدف إعادة تنظيم فصائل التحالف وإحكام السيطرة. فقد وصل ضباط أمريكيون وإماراتيون إلى محافظة لحج، وأشرفوا على إعادة هيكلة وحدات المجلس الانتقالي الجنوبي من معسكر الكبسي في الرحة إلى مديرية ملاح. وعُزّز الأمن حول هذه المناطق بالحواجز والتحصينات.
في شبوة وحضرموت، قامت لجان مشتركة من ضباط أمريكيين وإماراتيين بتفتيش مطار عتق والمعسكرات المجاورة، وأحصت المجندين، وأجرت فحوصات طبية، وراجعت مخزون الأسلحة، ورسمت خرائط لسلاسل القيادة. وتشير مصادر إلى أن متعاقدين من أمريكا اللاتينية وشركات عسكرية خاصة ساعدوا في ضمان بقاء الموارد تحت إشراف خارجي.
في تعز، زارت لجنة أخرى جبل النار لتقييم ألوية العمالقة، وأعدادها وتسليحها. وعلى الساحل الغربي -من باب المندب إلى جزيرة زقر- لا تزال أعمال البناء جارية: مدرجات وتحصينات ونقاط استيطانية تديرها «قوات مشتركة» معادية لصنعاء، بما في ذلك تشكيلات طارق صالح. وأفادت التقارير بأن التنسيق امتد إلى اجتماعات بحرية على متن المدمرة الإيطالية «آي تي إس كايو دويليو» لتأمين الطرق البحرية و«حماية المصالح الإسرائيلية» في البحر الأحمر.
ويقول الحسني، المتابع لهذه التحركات، لـ«المهد»، إن «هذه اللجان تقييمية وإشرافية، وليست تدريبية، وتشرف عليها الولايات المتحدة مباشرة، للتأكد من جاهزيتها، وربما كإشارة للضغط على صنعاء».
وأضاف أن فرقاً بريطانية ظهرت في المهرة، فيما يجري إعادة نشر مجموعات تدربت في جزيرة سقطرى إلى السودان وليبيا تحت إدارة الإمارات.
تعمل الآن وحدات سلفية موالية للسعودية، تُعرف باسم «درع الوطن»، من المهرة إلى أبين وحضرموت. يوضح الحسني: «تُعدّ هذه القوات اليوم ركيزةً أساسيةً في التحالف للحد من نفوذ أنصار الله، مستغلةً معتقداتهم الدينية، في إطار سعي التحالف لتحويل الصراع إلى حرب طائفية».
في المهرة، يتزايد الاستياء الشعبي. وقال علي مبارك محمد، المتحدث باسم لجنة الاعتصام السلمي، لموقع «المهد»، إن مطار الغيضة لا يزال مغلقاً بعد تحويله إلى قاعدة أمريكية بريطانية مشتركة.
ويقول إن «اللجنة تواصل التصعيد السلمي عبر الجولات الميدانية والاجتماعات مع الشيوخ لرفع وعي المجتمع بخطر المليشيات»، مشيراً إلى أن الوجود الأمريكي مستمر منذ تأسيس التحالف، رغم أن طبيعة وجوده غير معروفة بالضبط.
إلى أين يتجه اليمن؟
تجري هذه التحركات الميدانية في ظل تنسيق أوثق بين واشنطن وأبوظبي و»تل أبيب». فبعد اجتماعات عقدت في تشرين الأول/ أكتوبر بين قائد القيادة المركزية الأمريكية ورئيس الأركان «الإسرائيلي»، بدأت تتبلور خطة جديدة: بناء شبكة برية مشتركة عبر جنوب اليمن لاحتواء صنعاء وحماية مضيق باب المندب، أحد أهم ممرات الملاحة البحرية في العالم.
في الوقت نفسه، عيّنت وزارة الخارجية الأمريكية سفيرها لدى حكومة عدن، المدعومة من السعودية، ستيفن فاجن، لقيادة «مركز التنسيق المدني العسكري» (CMCC) المرتبط بجهود وقف إطلاق النار في غزة. ويرى المراقبون الإقليميون في ذلك خطوةً لدمج الجبهتين الفلسطينية واليمنية في إطار واحد من السيطرة الأمنية الأمريكية يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى بحر العرب.
وتشير التقارير المتداولة في شبوة والريان إلى أن ضباطاً إماراتيين تم إرسالهم إلى غزة للمساعدة في تنظيم ألوية محلية؛ وهو ادعاء لم يُؤكد بعد، ولكنه يتماشى مع النمط العملياتي الأوسع للإمارات.
ويقول رئيس مجلس الإنقاذ الوطني الجنوبي في حضرموت، عدنان باوزير، لـ«المهد»، إن سيناريو تجنيد المرتزقة للقتال في غزة غير ثابت، ولكنه وارد، خاصة مع تكليف فاجن بالإدارة المؤقتة في غزة، وربط التحركات المحلية بخطط إقليمية أوسع.
وفي حضرموت، فإن زيارات فاجن إلى سيئون التي تضم المنطقة العسكرية الأولى، تشير إلى استعدادات لمواجهة محتملة، خاصة وأن المنطقة لا تزال تحت سيطرة حزب الإصلاح، المدعوم سعودياً، في مواجهة المجلس الانتقالي الجنوبي، فيما تسعى الرياض إلى تقليص نفوذ «الإصلاح» من خلال نقل الألوية وتغيير القيادة.
ويشير باوزير أيضاً إلى تحركات مريبة في شبوة ومطار عتق، حيث تشير التقارير الميدانية إلى رحلات تنقل أسلحة لتعزيز الجبهة، نظراً لقرب المحافظة من مأرب وجبهات التماس مع أنصار الله، ما يجعلها نقطة مفصلية لأي تصعيد إقليمي أو محلي.
وتشكل هذه التحركات جزءاً من ثلاثة سيناريوهات مترابطة:
أولاً: تحويل الضغط من غزة إلى اليمن لتعويض الخسائر السياسية والمعنوية لـ«تل أبيب» وواشنطن، مع استخدام الفصائل الموالية للتحالف كساحة ضغط على صنعاء.
ثانياً: الاستعداد لعمل عسكري محتمل في حال فشل المفاوضات.
ثالثاً: إعادة تنظيم الفصائل الموالية للتحالف وبناء قيادة مركزية تُوجّهها واشنطن، ما يُحوّل الألوية إلى أدوات تنفيذية جاهزة لتصعيد الوضع داخلياً بطابع طائفي.
كل سيناريو يجعل اليمن مرة أخرى حقل اختبار للطموحات الأجنبية. ولا يزال البلد منقسماً بين مسارين: إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية عبر الدبلوماسية العمانية، وخطر اندلاع صراع جديد تغذيه المنافسة الإقليمية والسيطرة الأجنبية على سواحلها ومواردها.
وسواء حملت الأشهر المقبلة اتفاقاً أم حرباً أخرى، فإن ذلك سيعتمد بدرجة أكبر على كيفية اختيار الجيران لاستخدام أراضيهم، وليس على ما يريده اليمنيون.










المصدر ترجمة خاصة:أقلام مانع / لا ميديا