«سلام نوبل» كسلاح: اكتمال أدوات الحرب الأمريكية على فنزويلا
- تم النشر بواسطة سعيد محمد

خاص / لندن سعيد محمد / لا ميديا -
في مسرح السياسة الدولية، نادراً ما تتجلى فصول العدوان بوضوح كما يحدث اليوم ضد فنزويلا: عدواناً متعدد الأوجه، تُستخدم فيه كل الأدوات المتاحة، من الحصار الاقتصادي إلى التهديد العسكري المباشر، وصولاً إلى أحدث وأكثر الأسلحة نعومةً وفتكاً: البروباغندا المتوجة بجائزة نوبل للسلام. إن منح الجائزة لزعيمة المعارضة، ماريا كورينا ماتشادو، ليس حدثاً معزولاً للاحتفاء بالديمقراطية حتى بالمقياس الغربي البائس، بل هو بمثابة إعلان رسمي عن اكتمال ترسانة الحرب الهجينة، وتوفير الغطاء الأخلاقي اللازم لما هو في جوهره سعي إمبريالي للسيطرة على واحدة من أغنى بقاع الأرض بالثروات الطبيعية.
لعنة الثروة: المحرك الحقيقي للعدوان
لفهم أبعاد الاستهداف الأمريكي لفنزويلا، يجب أولاً تجاهل الذرائع المعلنة، والنظر مباشرة إلى ما يكمن تحت ترابها. فنزويلا ليست مجرد دولة كاريبية أخرى، بل هي كنز استراتيجي هائل. «جريمتها» الأصلية التي لا تُغتفر في نظر واشنطن هي توفرها على هذه الثروة وتجرؤها -منذ عهد الثورة البوليفارية- على تأميمها ووضعها في خدمة شعبها بدلاً من تركها لنهب الشركات متعددة الجنسيات.
تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي مؤكد للنفط الخام في العالم، يقدر بأكثر من 303 مليارات برميل. هذا الرقم يتجاوز احتياطيات السعودية التي تقف عند 266 ملياراً وتعتمد عليها الولايات المتحدة كصمام للتحكم بأسعار الطاقة في العالم. في كوكب لا يزال يعتمد بشكل أساسي على الوقود الأحفوري، فإن السيطرة على هذا المخزون لا تعني فقط تحقيق أرباح خيالية لشركات مثل «شيفرون» أو «إكسون موبيل»، بل تعني امتلاك أداة جيوسياسية للتحكم في أسواق الطاقة العالمية، والتأثير على اقتصادات الدول المنافسة، وتحديداً الصين، التي تعتبر فنزويلا مورداً حيوياً لها.
إلى جانب النفط، تطفو فنزويلا على بحر من الذهب، مع احتياطيات ضخمة في منطقة قوس التعدين في «أورينوكو». والأهم من ذلك، أراضيها غنية بمعادن نادرة وحيوية للصناعات التكنولوجية المتقدمة والدفاعية في القرن الحادي والعشرين. نتحدث هنا عن الكولتان، الذي لا غنى عنه في صناعة الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والمكونات الإلكترونية للطائرات المقاتلة، والذي تسعى الصين لتأمين إمداداته عالمياً. كما تمتلك فنزويلا مخزونات هائلة من البوكسايت (المصدر الرئيسي للألمنيوم)، والحديد عالي الجودة، والماس، وحتى اليورانيوم. إن السيطرة على هذه الموارد لا تعني فقط السيطرة على سلاسل التوريد للصناعات الحديثة، بل تعني أيضاً حرمان المنافسين الاستراتيجيين منها.
وبغير ذلك تحتل فنزويلا المرتبة العاشرة عالمياً في احتياطيات الغاز الطبيعي، بثروة تقدر بحوالى 5.6 تريليون متر مكعب، وهي ورقة استراتيجية أخرى في سوق الطاقة العالمية. يضاف إلى ذلك امتلاكها واحداً من أعلى مستويات التنوع البيولوجي في العالم، بما في ذلك موارد مائية هائلة وغابات مطيرة، وهي أصول تكتسب أهمية متزايدة في عصر التغير المناخي.
إن قرار الثورة البوليفارية وضع هذه الثروات تحت سيادة الدولة وتوجيه عائداتها نحو برامج اجتماعية واسعة في التعليم والصحة والإسكان، يمثل تحدياً وجودياً للنموذج الإمبريالي الغربي. من هذا المنطلق، فإن «استعادة الديمقراطية» و»مكافحة المخدرات» ليسا سوى شعارين دعائيين يخفيان الهدف الحقيقي: تفكيك هذا النموذج السيادي، وإعادة فنزويلا إلى وضعها السابق كدولة تابعة مثل دول الخليج العربي، تُنهب مواردها لصالح رأس المال المعولم ونخبة محلية فاسدة.
طبول الحرب: الحشد العسكري قبالة سواحل فنزويلا
مع هذا الفهم لخلفية الصراع، يصبح الحشد العسكري الأمريكي الأخير قبالة السواحل الفنزويلية منطقياً تماماً. فمنذ مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي، وبذريعة واهية هي «مكافحة تهريب المخدرات»، حشد البنتاغون قوة بحرية هجومية ضاربة. يتألف الأسطول من سبع قطع بحرية على الأقل، تشمل مدمرات مزودة بصواريخ «توماهوك» الهجومية، وسفينة هجومية برمائية من طراز «واسب» تحمل 10000 من مشاة البحرية (المارينز)، وتدعمها الغواصة الهجومية النووية «يو إس نيوبورت».
هذه القوة ليست لمطاردة مهربي الكوكايين؛ إنها قوة مصممة لفرض حصار بحري، أو شن غزو خاطف، أو توجيه ضربات دقيقة لشل قدرات الدولة الفنزويلية. الذريعة نفسها تنهار أمام الأرقام، إذ تشير بيانات مكتب واشنطن لأمريكا اللاتينية (WOLA) إلى أن 7% فقط من الكوكايين المتجه إلى الولايات المتحدة يمر عبر فنزويلا. إنها إعادة إنتاج لسيناريو «أسلحة الدمار الشامل» في العراق، إذ يتم اختلاق التهديد لتبرير العدوان. هذا الحشد العسكري، الذي تزامن مع رفع المكافأة المالية لاعتقال الرئيس مادورو إلى 50 مليون دولار، هو رسالة واضحة من صقور الإدارة الأمريكية، مثل وزير الخارجية ماركو روبيو، بأن الخيار العسكري مطروح بقوة على الطاولة.
ولإضفاء غطاء قانوني زائف على تحرك هذه القوة الغاشمة، لجأت إدارة ترامب إلى تحايل وقح؛ إذ أخطرت الكونجرس بأن الولايات المتحدة تخوض «نزاعاً مسلحاً» ضد كارتيلات المخدرات، معتبرة أفرادها «مقاتلين غير شرعيين». يمثل هذا التعريف تحولاً جذرياً من إطار «إنفاذ القانون»، الذي يضمن للمشتبه بهم حقوقاً إجرائية كالاعتقال والمحاكمة، إلى إطار «الحرب» الذي يبيح القتل كخيار أول ويشرعن عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء. هذا الغطاء الشرعي الملفق هو ما سمح للبحرية الأمريكية بتدمير قوارب وقتل العشرات في المياه الدولية، وهو ما يمهد الطريق لشن هجمات بطائرات بدون طيار داخل الأراضي الفنزويلية ذات السيادة، متجاوزة بذلك كل الأعراف والقوانين الدولية.
جائزة نوبل: تبييض العدوان بالقوة الناعمة
لكن القوة العسكرية وحدها ربما لم تعد كافية في عالم اليوم. لا بد من غطاء أخلاقي وإعلامي يشرعن استخدامها. وهنا يأتي دور جائزة نوبل للسلام الممنوحة لماريا كورينا ماتشادو. فبعد الفشل الذريع لتجربة «الرئيس المؤقت» خوان غوايدو، الذي عيّنه دونالد ترامب خلال ولايته الأولى، كانت واشنطن بحاجة ماسة إلى رمز جديد للمعارضة، شخصية يمكن تقديمها للعالم كبديل شرعي وديمقراطي من الرئيس المنتخب نيكولاس مادورو.
ماتشادو، الملقبة بـ«السيدة الحديدية»، تمثل هذا البديل المثالي؛ فهي تنحدر من النخبة الاقتصادية، وتتبنى أجندة نيوليبرالية متطرفة تدعو صراحة إلى «دفن الاشتراكية إلى الأبد» وخصخصة ثروات البلاد، وتتوافق تماماً مع الأجندة الأمريكية. والأخطر من ذلك أنها أيدت علناً الحشد العسكري الأمريكي، معتبرة أن «التهديد العسكري الحقيقي» هو السبيل الوحيد لإزاحة مادورو.
إن منح جائزة السلام لشخصية تبارك التهديد بالحرب هو مفارقة تكشف عن التسييس الكامل للجائزة وتحويلها إلى أداة في خدمة السياسة الخارجية الأمريكية. الجائزة تحقق عدة أهداف استراتيجية، أهمها افتعال شرعية بديلة للنظام المنتخب عبر تحويل زعيمة معارضة تدعم التدخل الخارجي، إلى أيقونة سلام عالمية، ما يجعل أي عمل عسكري مستقبلي يبدو وكأنه استجابة لنداء «شعب مضطهد» بقيادة رمز عالمي، وتوفر له غطاء أخلاقياً، إذ ستكون الآلة الإعلامية الغربية جاهزة للزعم: «نحن نتدخل لدعم الفائزة بجائزة نوبل للسلام». تصبح الجائزة درعاً تحمي المعتدي من النقد، مع تصوير نظام مادورو كأنه نظام همجي يضطهد «حمامة سلام» معترفاً بها دولياً، ما يسهل تبرير أي إجراء عنيف ضده.
جائزة نوبل، من هذا المشهد، في غلاف تكريم مفترض لصانعي السلام، ليست سوى سلاح آخر في ترسانة الحرب الهجينة، وأداة لتبييض صفحات العدوان وتوفير الذخيرة الأخلاقية اللازمة له. إنها ضوء أخضر رمزياً، وإشارة إلى أن كل الأدوات، العسكرية والاقتصادية والأخلاقية، قد أصبحت جاهزة للاستخدام ضد النظام البوليفاري.
هذا المشهد في فنزويلا اليوم هو دراسة حالة في آليات الإمبريالية الحديثة. إنه عدوان متكامل الأركان، يبدأ بالطمع في الثروات الهائلة، ويمر عبر الحصار الاقتصادي الخانق الذي دمر حياة الملايين، ويصل إلى التهديد العسكري المباشر، ثم يُتوّج بمنح جائزة سلام لتبرير كل ما سبق. إن ما يجري ليس صراعاً بين دكتاتورية وديمقراطية، بل هو معركة بين السيادة الوطنية والهيمنة الخارجية، بين حق شعب في ثرواته وجشع إمبراطورية لنهبها. وفهم هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو تعرية هذه المسرحية الخطيرة وفضح أدواتها، حتى لو كانت مغلفة ببريق الجوائز وخطابات السلام.
المصدر سعيد محمد