يسرية محمد / لا ميديا -
«ما ينفعك ما مع أخوك، ولا سراجه يضوّيك». لطالما استوقفتني هذه العبارة الشعبية التي توارثناها جيلاً بعد جيل، حاملةً معنى الجفاء، وكأنّ ما يملكه أخوك لا يمكن أن ينفعك!
لكن، وبعد ما عشناه من أزمات متلاحقة -من أوبئة وكوارث طبيعية وحروب وأزمات اقتصادية خانقة- رأينا شيئاً مختلفاً.
في هذا العالم الذي تتسارع وتتراكم فيه الأزمات، لم تعد الدولة وحدها قادرة على حمل كل الأعباء. وهنا ظهرت قوة صامتة؛ لكنها فاعلة، تُعرف بـ»المبادرات المجتمعية».

سد الثغرات
هذه المبادرات ليست تابعة لمؤسسات رسمية، ولا مشاريع حكومية، بل هي تحركات طوعية يقودها مواطنون عاديون، استشعروا ألم محيطهم، فقرروا أن يصنعوا فرقاً.
هذه المبادرات، بتنوع أشكالها، من حملات بيئية إلى أنشطة تعليمية وصحية وجهود إغاثية وتنموية، نجحت أحياناً كثيرة في إنقاذ أرواح، وسد ثغرات فشلت المؤسسات في تغطيتها خلال الأزمات.

نبض الناس
الطالبة الجامعية أحلام عبده تتحدث عن تجربتها في كلية الطب قائلة: «حتى أبسط المبادرات، مثل تبادل الكتب المستعملة بين الطلاب، تصنع أثراً كبيراً. كُتبنا مرتفعة الثمن، وأحياناً غير متوفرة، فبدأنا نحن الطالبات بجمع الكتب الزائدة ووضعناها في مجموعة خاصة بالجامعة. أي شخص بحاجة كتاب يمكنه أن يحصل عليه. قد تراه أمراً بسيطاً؛ لكنه ساعد الكثيرين بشكل لا يُصدق. هذا هو المعنى الحقيقي للعطاء».
في المقابل، يرى المواطن صالح محمد أن المبادرات فقدت معناها الحقيقي، وأصبحت كما يقول: «مجرد استعراض إعلامي، لا تصل فعلياً لمن يستحقون المساعدة، وغالباً ما تعود فائدتها لمنظميها أنفسهم».
وبين هذين الرأيين، يقف الباحثون في المجال المجتمعي عند نقطة توازن، مؤكدين أن المبادرات المجتمعية يمكن أن تكون فاعلة وقوية، شريطة أن تتكامل مع الدولة، وأن تُدار برؤية طويلة الأمد، وهيكل مؤسسي واضح، وتمويل شفاف.
ويشدد الخبراء على أن ما يميز هذه المبادرات أنها تعيد الثقة للناس، وتمنحهم الإحساس بأن الحلول ليست حكراً على المؤسسات الكبرى، بل هي ممكنة حين تتكاتف الأيدي، وتُبادر العقول.

فضاء شبابي
المبادرات المجتمعية تُشبه الينابيع الصغيرة في صحراء الحياة، قد تبدو محدودة؛ لكنها تمنح الأمل والبقاء.
هي ليست فقط وسيلة لمد يد العون، بل أيضاً فضاء لتأهيل الشباب، واختبار قدراتهم في القيادة والتنظيم، وصناعة القرار.
وتسهم المبادرات كذلك في سد الفجوات التي تتركها المؤسسات الرسمية، خاصة في حالات الإغاثة السريعة. ومن عوامل نجاحها:
- الشراكة مع الدولة لتعزيز التكامل بدلاً من الاستبدال.
- تنظيم إداري واضح يضمن الاستمرارية.
- شفافية مالية تكسب ثقة المجتمع.
- توثيق التجارب ونقلها كنماذج يُحتذى بها.

أدوار محورية
في صنعاء، تقول الشابة ياسمين محمد: «كل مرة أشارك فيها بمبادرة شبابية، أشعر أنني أستعيد شيئاً من إنسانيتي. العطاء يقرّبنا من الآخرين، ويجعلنا أكثر وعياً بوجعهم. أنا مؤمنة بأن طاقة الشباب قادرة على تغيير مجريات الواقع».
وتُضيف: «شاهدنا كيف لعبت المبادرات الشبابية أدواراً محورية، مثل مبادرات الطعام في مصر خلال جائحة كورونا، ومساهمات الشباب في لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت، حين نزلوا إلى الشوارع ينظفون ويُرممون قبل وصول أي دعم دولي».

نماذج عالمية
في الهند، أطلق مدرسون محليون حملات لمحو أمية النساء، ما ألهم الحكومة لاحقاً إطلاق برامج وطنية ناجحة.
وأصبحت رواندا تعرف تقليد «أوموغاندا» (Umuganda) الذي يجعل من أول سبت شهري يوماً وطنياً للتطوع، ما عزز التماسك الاجتماعي.
وبعد زلزال فوكوشيما في اليابان، ساهم آلاف المتطوعين في جهود الإنقاذ، ووصفت الأمم المتحدة دورهم بأنه «عامل حاسم في تقليل الخسائر وتسريع التعافي».

تحديات.. وفرص
رغم التجارب الملهمة وقصص النجاح العديدة التي تؤكد أن هذه الجهود، رغم تواضعها، يمكنها أن تحدث فرقاً حقيقياً؛ إلا أن هذا النوع من العمل التطوعي لا يخلو من العثرات.
يقول الناشط عبدالله محمد: «أغلب المبادرات تموت في مهدها؛ لأنها تفتقر إلى رؤية طويلة الأمد، وتعتمد فقط على الحماس اللحظي. كما أن غياب التنظيم، وتشابك الأدوار، وتكرار الجهود، إضافة إلى محدودية التمويل، كلها عوامل تحدّ من نجاح المبادرات».

 رسائل حية
المبادرات المجتمعية لم تعد مجرد أعمال خيرية موسمية، بل هي أدوات فاعلة في إنقاذ المجتمعات، وترسيخ الوعي المجتمعي، وتعزيز روح المواطنة.
هي رسائل حية تقول إن المجتمعات ليست كيانات ساكنة تنتظر الحلول، بل شريكة في صناعتها.
وحين نُشعل سراجنا، لا لنضيء به طريقنا فقط، بل ليهتدي به غيرنا أيضاً.. حينها فقط، تنتصر القيم على الأزمات.