لا طلبة الجامعات ولا حماس يمثلون تهديداً.. الخطر الذي تواجهه الصهيونية يكمن في العنف البشع الذي تمارسه ضد الفلسطينيين
- تم النشر بواسطة ترجمة خاصة:أقلام مانع / لا ميديا
هوارد دبليو فرينش - مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية
ترجمة خاصة:أقلام مانع / لا ميديا -
طوال الليالي العديدة الماضية، كان نومي مضطرباً إلى حد خطير، بسبب الأصوات العالية المتقطعة لطائرات الهليوكوبتر التي حامت على ارتفاع منخفض قبل الفجر في أجواء الجانب الغربي العلوي من مانهاتن، الحي الذي أعيش فيه في نيويورك.
في كل يوم تالٍ، كنت أشق طريقي على بعد بضعة مبانٍ شمالاً إلى موقع هذا العرض الاستثنائي للشرطة، وهو حرم جامعة كولومبيا، حيث أعمل مدرساً منذ فترة طويلة، ومسقط رأس حركة احتجاجية طلابية بالغة الأهمية مؤخراً.
الاحتجاجات التي ظهرت في حرم جامعتي، حفزت محاكاة واسعة النطاق على نحو متزايد في جامعات أخرى بكل أنحاء البلاد. وهذه بدورها ألهمت سلسلة متزايدة من ردود الفعل من قبل مديري الجامعات، والسياسيين، ومسؤولي إنفاذ القانون، على التوالي، الذين سعوا إلى تقليص المظاهرات الطلابية أو منعها أو إدانتها أو قمعها - وبعنف في الكثير والكثير من الحالات.
إن ما كشفته هذه اللحظة بوضوح أكبر بالنسبة لي ليس أزمة الثقافة الطلابية أو التعليم العالي في الولايات المتحدة، كما يزعم البعض، بل كشفت أزمة السياسة الأمريكية، وخصوصاً سياستها الخارجية، وعلى وجه التحديد علاقتها الوثيقة وطويلة الأمد مع «إسرائيل».
قبل أن نشرح المزيد، هناك بعض إخلاءات المسؤولية. ما يلي ليس دفاعا عن خطاب الكراهية. إن معاداة السامية بغيضة للغاية، وكذلك كل أشكال العنصرية، بغض النظر عن نكهتها أو لونها. ويتضمن هذا التاريخ المؤسسي العميق معاداة للسامية مارستها جامعتي ذات يوم، وفرضت تاريخياً قيوداً على قبول وتوظيف اليهود إلى حدٍّ كبير، من أجل حماية البروتستانت البيض من المنافسة الأكاديمية.
ليس لديّ أدنى شك في أن حالات الاعتداء والمضايقات والإهانات ضد الطلاب اليهود أو أيٍّ من أنصار «إسرائيل» قد حدثت في الجامعات الأمريكية في الأيام الأخيرة، وهي مؤسفة حقاً وغير مبررة. لكن خبرتي المحدودة في الحرم الجامعي الخاص بي تخبرني أن مثل هذه الأحداث ليست شائعة بشكل خاص.
تعزز انطباعي أكثر عندما شاهدت نفس اللقطات التي بثتها قناة «فوكس نيوز» لمدة أسبوع كامل، والتي تظهر أحد المقاطعين وهو يصرخ دعماً لحماس في وجه رجل يهودي أثناء خروجه من محطة مترو الأنفاق خارج البوابة الرئيسية لكولومبيا. لكن ليس من الواضح أن هذا الشخص المسيء كان من طلاب الجامعة، بل ولا طالباً في الأساس. إضافة إلى ذلك، فقد كان الحرم الجامعي الخاص بي محاطاً بطواقم التلفزيون التي تعمل في نوبات طويلة كل يوم؛ لذلك إذا كانت مثل هذه الحوادث منتشرة، فالمفترض أن نرى العديد من الأحداث الأخرى بدلاً من إعادة نفس اللقطة مرارا وتكرارا.
أما ما رأيته داخل بوابات الجامعة فقد كان بشكل عام صورة للكياسة المثالية. منذ تسعة أيام، كان هناك مخيم منظم للطلاب، معظمهم يتحدثون بهدوء، وبعضهم في الخيام، ويحتلون مساحة من العشب أمام مكتبة بتلر، أكبر مكتبات كولومبيا. حتى أن الطلاب المتظاهرين نشروا مدونة سلوك مثيرة للإعجاب (ويبدو أن الأغلبية الساحقة منهم يعيشون وفقاً لها). نقرأ في أجزاء منها: لا ترمِ القمامة؛ لا تتعاطَ المخدرات أو الكحول؛ احترمْ الحدود الشخصية؛ لا تتصادم مع المتظاهرين المناهضين... الخ، وسأعود إلى هذا لاحقاً.
في أحد الأيام، وكما فعلتُ مرات عديدة من قبل، قرأتُ الأسماء المحفورة على الواجهات الكلاسيكية الجديدة ذات الأعمدة لطوابق مكتبة بتلر: هيرودوت، سوفوكليس، أفلاطون، أرسطو، شيشرون، فيرجيل... وأمثالهم. ثم سألت نفسي: ما هو التهديد الذي تواجهه الحضارة الغربية، أو الديمقراطية الأمريكية، أو حتى التعليم العالي، والذي من المفترض أن تشكله احتجاجات كولومبيا وغيرها من الاحتجاجات التي تلتها؟!
يبدو أن الإجابة تكمن في الخوف من خطاب الطلاب المحتجين، أكثر من إساءة استخدامهم للكلام. يبدو أن المفتاح يكمن على وجه التحديد في سطر من قواعد السلوك الخاصة بهم، والتي قمت بإعادة صياغتها للتو: لقد أقسموا ليس فقط على مواجهة أي متظاهرين مناهضين، ولكن على وجه التحديد المتظاهرين «الصهاينة».
هنا يأتي إخلاء مسؤولية آخر. ليس لديّ أي مشكلة مع الدعم الذي يعبر عنه العديد من اليهود للصهيونية. لقد ساهم إيمانهم الموقر، وهو أحد أقدم عقائد الإيمان في العالم، في دعم واحدة من أعظم قصص الإنسانية عن الهوية والمثابرة والبقاء. وهي متجذرة في قصص «العهد القديم» عن الهجرة الجماعية، وتدعي أن العديد من اليهود يعتبرون وطنهم القديم، الذي يسمونه «إسرائيل»، مشروعاً لهم. بالنسبة لي، فإن إبادة اليهود واضطهادهم على نطاق هائل في أوروبا خلال المحرقة يعمق بشكل مفهوم ارتباط العديد من المؤمنين اليهود بالصهيونية، كما يفعل التمييز الطبقي الأحدث، وغير المعترف به إلى حد كبير، الذي عانى منه اليهود في المجتمعات الغربية، حتى في أوروبا ما بعد الحرب.
مع ذلك، فإن حركة الحرم الجامعي المستمرة التي انبثقت من جامعة كولومبيا لم تنشأ بسبب معاداة اليهود، كما يتصور البعض. لقد نشأ هذا من صدمة عميقة إزاء العنف البشع والعشوائي الذي تمارسه «إسرائيل» على الفلسطينيين في أعقاب الهجوم الإرهابي الذي شنته حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والذي أدى إلى مقتل ما يقدر بنحو 1200 «إسرائيلي». لقد تعرض الطلاب المحتجون للازدراء والسخرية، باعتبارهم مخالب القطط الخطرة والساذجة لأعداء الولايات المتحدة في الصين أو روسيا، أو الأكثر وحشية على الإطلاق، لجورج سوروس، وهو يهودي نفسه. والأسوأ من ذلك أنه تم وصفهم -خطأً- بأنهم دعاة كراهية مناهضين لليهود من قبل النقاد، وحتى من كبار السياسيين الأمريكيين.
في الأيام الأولى من احتجاجاتهم، أخذت الشرطة أكثر من 100 طالب، مكبلي الأيدي، بعد أن تحدثت رئيسة جامعة كولومبيا، نعمات شفيق [أمريكية من أصول مصرية - المترجم]، عن مخيمهم باعتباره «خطرا واضحاً قائماً» ودعت الشرطة إلى التحرك.
في جامعات أخرى، منذ ذلك الحين، ومع انتشار حركة السلام هذه، تعرض الطلاب للضرب وإطلاق الغاز المسيل للدموع. ادعى الطلاب في جامعة إنديانا وجامعة أوهايو أنهم رأوا قناصة متمركزين في الحرم الجامعي، رغم أن المتحدث باسم ولاية أوهايو قال إنهم «جنود الولاية في وضع المراقبة، على غرار يوم مباراة كرة القدم».
يوماً بعد يوم، كانت هناك مشاهد لأعضاء هيئة التدريس الداعمين للتظاهرات يتعرضون للضرب والطرح على الأرض وتقييد الأيدي والاقتياد من قبل الشرطة.
لقد حان الوقت لكي يتساءل الأمريكيون، ويستبدلون موضوع «إسرائيل» وفلسطين بموضوع آخر. لو أن حركة احتجاجية طلابية كهذه حدثت على هذا النطاق في بلدان أخرى، فماذا سيكون رد فعل الولايات المتحدة؟! ما أتخيله بسهولة هو إدانات عالية اللهجة من المتحدثين باسم وزارة الخارجية ومقالات افتتاحية متهورة في الصحافة الأمريكية الرائدة حول التعصب الاستبدادي أو اضمحلال الديمقراطية.
هناك العديد من الأسئلة الملحة الأخرى. على سبيل المثال: ما هو رد الفعل المناسب للمواطن على الرعب والعنف المتوحش الذي نراه في غزة؟!
عندما لم تكن واشنطن داعمة بشكل صريح للهجوم «الإسرائيلي» هناك، وزودت «إسرائيل» بكميات هائلة من الأسلحة الجديدة مع القليل من القيود الحقيقية على استخدامها، فقد كانت -ببساطة- سلبية. رغم ذلك، يتعامل بعض السياسيين الأمريكيين مع المتظاهرين باعتبارهم تهديداً، ويحذر آخرون من أن المتظاهرين يتدخلون في تعليم الطلاب غير المتظاهرين، وهو نوع من الأغلبية الصامتة، لاستدعاء عبارة مألوفة لدى الاحتجاجات الطلابية ضد حرب فيتنام.
هذا بالضبط هو التخلف. ومن خلال الاحتجاج السلمي، فإن الطلاب في جامعة كولومبيا وفي عدد متزايد من الجامعات الأخرى يزودون المجتمع الأمريكي، بل والعالم، بدرس في الديمقراطية والمواطنة. وقد تبادر إلى ذهني هذا الأمر في محادثات أجريتها على جانب المخيم ]مخيم الاعتصام الطلابي - المترجم [مع طلاب من الصين ودول أخرى، والذين تعجبوا من قدرة طلاب كولومبيا على الرد من خلال الاحتجاج. وفي خضم الفظائع، فإنهم يقولون ما يكفي، ويفعلون ذلك بشكل سلمي دائماً تقريباً. ويقولون إن مواجهة الرعب] «الإسرائيلي» في غزة - المترجم [تتطلب إلحاحاً أكبر من حملات كتابة الرسائل لأعضاء الكونجرس أو الانتظار بصبر للتصويت في الانتخابات المقبلة.
إن غزة ليست الرعب الوحيد في العالم على الإطلاق، وبوسعنا جميعاً أن نستفيد من إلحاح هؤلاء الطلاب الأخلاقي وتحضرهم. إنهم يضغطون حيثما أمكنهم ذلك بسهولة، على المؤسسات التي يشكلون، كطلاب، حجر الأساس للمجتمع. وإذا لم يتمكنوا من إقناع الحكومة الأمريكية بفعل شيء ما لوقف العنف في غزة والعنف المتزايد في الضفة الغربية، وهو الأمر الذي يتم تجاهله إلى حد كبير، فيمكنهم على الأقل إقناع جامعاتهم بالتوقف عن دعمه. هذا هو ما تعنيه المطالبة بسحب الاستثمارات: الحرمان من الدعم المؤسسي من خلال الاستثمار في الجهود الحربية «الإسرائيلية» إلى أن يحل السلام.
يعترض العديد من النقاد بأن هذا غير واقعي ولا يمكن أن ينجح أبداً. ولكن ما هو الرد المناسب للمواطن؟! الاستقالة أو اعتزال الأحداث والجلوس مكتوف اليدين؟!
أود أن أختتم حديثي بمسألة الصهيونية. لعقود من الزمن، دعم الرأي العام في الولايات المتحدة، وفي معظم أنحاء العالم، هذا المفهوم (الصهيونية)، وهو فكرة حق «إسرائيل» الخاص بالوجود في وطن عرقي ديني للشعب اليهودي. أنا شخصياً أتذكر الإثارة التي شعرتُ بها تجاههم، عندما رأيت أصدقائي اليهود في المدرسة الثانوية يذهبون بفارغ الصبر إلى الكيبوتسات وبصفات أخرى للمساعدة في بناء «إسرائيل» على هذا الأساس في حقبة أكثر براءة منذ عقود مضت. لكن التهديد الذي تواجهه الصهيونية في عالم اليوم لا يأتي من الطلاب الذين يتظاهرون في الجامعات الأمريكية؛ بل وأود أن أزعم أن التهديد الأكبر للصهيونية لا يأتي حتى من حماس، التي تعتبر هجماتها على «الإسرائيليين» أمراً مكروهاً... لا؛ إن التهديد الأكبر ينبع من عدم وضوح أي خط فاصل بين الصهيونية وسحق حياة الفلسطينيين وأملهم في المستقبل. وبقدر ما يرسل الطلاب المتظاهرون هذه الرسالة، فهم أصدقاء «إسرائيل».
أستاذ في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا، ومراسل
أجنبي منذ فترة طويلة. أحدث مؤلفاته «وُلد في السواد: أفريقيا والأفارقة
وصناعة العالم الحديث، من عام 1471 إلى الحرب العالمية الثانية».
المصدر ترجمة خاصة:أقلام مانع / لا ميديا