تحقيق: غازي المفلحي / لا ميديا -
خلال عقود متوالية انقرضت من أراضي مدينة صنعاء المشهورة تاريخياً بالزراعة، 60 نوعاً من أجود أنواع العنب في العالم، بالإضافة إلى فواكه: السفرجل والتفاح والمشمش والبرقوق والجوز واللوز والخوخ (الدراق)، وغيرها، وكثير من الخضروات التي كانت تملأ بساتين ومزارع صنعاء قبل أن يزحف ويطوف عليها الأسمنت فتصبح كالصريم.
تم غزو مدينة المزارعين الأوائل وإحدى أعرق وأقدم المدن في العالم بالخرسانة والحديد في زحف حضري مشوه، تشوبه العشوائية والخطط الترقيعية، يلتهم بمرور الزمن  المساحات المزروعة بمختلف المحاصيل، والتي تقلصت إلى  0.5 ٪ من إجمالي مساحة المدينة.

المخطط الأول والأخير
مطلع الستينيات توسعت مدينة صنعاء القديمة خارج أسوارها وولدت مدينة جديدة، وكانت الأراضي الزراعية إحدى خسائر هذه الولادة، فقد تم غرس الحديد والأسمنت مكان أشجار العنب واللوز والبن وفوق واحدة من أخصب الأراضي الزراعية في المنطقة العربية.
تأسس المخطط العمراني الحديث لمدينة صنعاء عام 1978، بواسطة شركة «لويس بيرجر/كمبسكس» الأمريكية التي أنشأت المخطط العام الأول لمدينة صنعاء. 
ولكن كانت هناك مشكلتان، الأولى: أن الاهتمام كان مُركزا على بناء مدينة الأحجار والإسفلت كأولوية في كل المساحة الممكنة حتى فوق المزارع والبساتين والأراضي الزراعية الخصبة القريبة والمحيطة بصنعاء القديمة. المشكلة الثانية: أن المخطط عجز عن مواكبة التطور العمراني الذي سبقه، والتهم المزارع والأراضي الزراعية البعيدة خارج المخطط. 
اعتمدت المخططات العامة لصنعاء منذ العام 1978 على القطاعات الشعاعية، وبدأ الهيكل العام بـ7 قطاعات تفصلها الطرق الرئيسية الشعاعية المنطلقة من حدود صنعاء القديمة، وتوسعت المدينة بشكل كبير بجميع الاتجاهات، لكن التوسع الأكبر كان جنوبا وشمالا، لوجود العوائق الطبيعية التي حدت من البناء شرق صنعاء وغربها، وبالتالي فقد كانت الأراضي الزراعية والأحواض المائية هي الضحية لوقوعها في طريق التوسع العمراني. 
وتم تخطيط مدينة صنعاء في ثلاثة أجزاء (خطي، قطاعات، مدن تابعة)، وحدد تطور المدينة في هذا المخطط حتى الدائري الثاني، أي (شارع الستين)، فقضى على كل المزارع ما داخل هذا الخط.

تعثر مستدام
بسبب الكثافة السكانية المتزايدة في المدينة والتي لم تستطع المخططات مواكبتها، تجاوز التوسع العمراني هذا المخطط أبكر من المتوقع بكثير، وذلك في 1990، بينما كان من المتوقع ألا يتجاوز التوسع المخطط حتى سنة 2000.
وبعد الوحدة اليمنية أصبحت صنعاء العاصمة السياسية لليمن الموحد، ولأنها تمتلك الكثير من المزايا المناخية والاستثمارية، كونها عاصمة البلد ومركزه الرئيسي المالي والاقتصادي والإداري والاستثماري والتجاري، فقد شهدت إقبالا كبيرا للمستثمرين اليمنيين والأجانب، فضلا عن المواطنين ضمن الهجرة الداخلية، وسعى الجميع لامتلاك موطئ قدم على أرضها الزراعية في الغالب، فزاد الزحف العمراني وازدادت الحاجة لوضع مخطط جديد.
خلال الفترة بين عامي 1991 و1992 قام فريق من هيئة التعاون الألماني (GTZ) بإعداد دراسة لتحديث المخطط العام لصنعاء، ولكنه لم يكتمل، وتم فقط اقتراح تمددات من المخطط القديم.
ومع ظهور العديد من المشاكل التخطيطية والمتغيرات، تم خلال الفترة (1995-1998) تحديث المخطط العام الأول من قبل شركة كوبية، ولكن هذا التحديث أيضا لم يكتمل، واستمر التوسع امتدادا من المخطط القديم، وفي 2010 أعلنت مناقصة لتحديث المخطط العام للمدينة، ورست المناقصة على ائتلاف شركات المكتب العربي للاستشارات الهندسية بالكويت، وشركة السحولي باليمن، والـ«سي.بي.إيه» البريطانية، لكن المخطط توقف ولم يكتمل أيضاً.

العمى الوطني
منذ تأسيس مدينة صنعاء كان هناك غياب لاستراتيجية واضحة المعالم للارتقاء بالزراعة والأراضي الزراعية، وقد أهملت شجرتا البن والعنب، اللتان كانتا أحد أهم كنوز اليمن الزراعية المقدسة لقرون.
وفوق هذا، فإن مشكلة تعثر المخططات تسببت بظهور عدة مشاكل، أبرزها تشويه التنمية الحضرية في المدينة والقضاء على المزارع والأراضي الزراعية الخصبة التي كانت خارج المخطط العام القديم فلم يتم حجزها ومنع البناء فيها ضمن رؤية وطنية زراعية، ولم يوجد مخطط جديد يحميها.
كما أن هناك عوامل أدت لانقراض المزارع والأراضي الزراعية في صنعاء، مثل نظام ملكية الأراضي في المدينة، وعدم وجود رؤية وطنية للأراضي الزراعية، وسوء الإدارة وتداخل الاختصاصات، وغياب الوعي التخطيطي القومي، وظهور الاستثمارات ورؤوس المال الكبيرة بمشاريعها الخاصة وأموالها الهائلة والتي ملكت أو تملكت الأراضي في اليمن، ومضت متجاوزة المخططات العمرانية المقررة والتي كانت -في الغالب- تبقى حبيسة الأدراج. 
كما جعل الاقتصاد والتنمية المنعزلة التجمعات العمرانية تبنى فوق الأراضي الزراعية وتقام في مواقع غير مدروسة وغير متوافقة مع المخطط العام وسابقة له حتى، فاليمنيون بين ملاك الأراضي التي هي زراعية في الغالب أو ساعين لامتلاكها من أموالهم الخاصة وعليها يبنون بيوتهم واستثماراتهم.
وتزاحمت البيوت والمشاريع داخل وخارج المدينة، ومع زيادة الضغط السكاني عليها تزايد البناء العشوائي.
والحديث هنا عن العشوائية لا يعني فقط المباني التي تبنى بلا مخططات، ولكن الاستثمارات والمباني والمصانع والمدن السكنية الصغيرة التي وإن كانت تبنى ضمن مخططات، إلا أنها خارج إطار المخطط العام للمدينة، إذ إن كل هذه المنشآت قامت على أراض زراعية اشتراها المواطنون الأثرياء بالهكتارات من المواطنين الأفقر.
وكان أحد أسباب التوسع العمراني في الأراضي الزراعية هو إنزال المخططات في القيعان الزراعية، والتي تؤدي إلى ارتفاع سعر الأراضي، وهو ما يجعل المزارع يتوجه لبيع الأراضي الزراعية نظراً للأسعار المرتفعة، بخاصة في ظل عدم وجود رؤية وطنية للاهتمام بالجانب الزراعي.
كما أن هناك مشكلة جذرية في التوسع العمراني في اليمن، وهي الانتشار الأفقي للبناء وتفضيل المنازل المنفردة على الشقق والبنايات السكنية، فكان هذا من عوامل تدمير المساحات الزراعية بشكل كبير جداً، كما أنه مكلف في إنشاءات البنية التحتية.

قبل الزحف العمراني
قبل عقدين من اليوم فقط كانت مزارع وبساتين العنب متواجدة في مناطق العاصمة صنعاء، كبساتين منطقة «ظهر حمير» المعروفة اليوم بـ«سعوان» ومنطقة «الروضة»، ومنطقة «بيت بوس»، بالإضافة إلى مزارع متنوعة أخرى تزرع الخضار والفواكه في منطقة «بيت معياد» ومنطقة «النهدين» وغيرهما، ويقال إن رائحة الثوم البلدي الثمين كانت تفوح من الجبال التي تحيط بصنعاء قبل أن تصبح اليوم نادرة.
واليوم يمكن النظر إلى هذه المناطق وملاحظة إلى ماذا تحولت تلك البساتين.
أما إذا ابتعدنا بالزمن قليلا، ووفقاً لما دونته كتب المؤرخين الرحالة الأجانب الذين زاروا اليمن مثل المستكشف وعالم الخرائط الألماني «كارستن نيبور»، وهو رئيس البعثة العلمية الدنماركية التي زارت اليمن عام 1762، والرحالة والمستكشف الإيطالي «رينزو مانزوني» وكتابه «رحلة إلى صنعاء» حين زار اليمن ومكث في صنعاء خلال الفترة (1877-1878). فقد وصف نيبور، في مذكراته «رحلة إلى العربية السعيدة» أن مدينة صنعاء لوحدها كانت تزرع 60 نوعاً من أنواع العنب اليمني الذي يعد الأجود في العالم (وقد انقرض حاليا ولم يبق منه سوى 16 نوعاً فقط، بالإضافة إلى فواكه السفرجل والتفاح والمشمش والبرقوق والجوز واللوز والخوخ (الدراق)، وغيرها من الفواكه، وكثير من الخضروات.
اختفت كل الجنات والبساتين اليمنية من داخل العاصمة صنعاء مرة أخرى، ولكن ليس بفعل «سيل العرم» بل بفعل «سيل الخرسانة»، الذي يمتد اليوم على مساحة تصل إلى 450 كيلومترا مربعا على أراض كانت زراعية، بينما كانت مدينة صنعاء تمتد قبل الزحف العمراني في مساحة تقدر بـ3.7 كيلومتر مربع فقط، وتنتشر حولها مزارع وحقول أصبحت عدماً، وقد حل مكانها جمود وصخب المدينة وحجارتها وشوارعها.
وقضي على مساحة أكثر من 400 كيلومتر مربع كانت مزارع وأراضي زراعية أصبحت هي اليوم إجمالي مساحة أمانة العاصمة المكونة من 10 مديريات مكتظة بالأبنية والسكان، ووصل التوسع الهائل فيها اليوم إلى تخوم المديريات الإدارية مع محافظة صنعاء، لكنها مدينة صحراوية إن جاز التعبير، وفي طريقها للتصحر، فقد خسرت كثيراً من مزارعها القديمة وتفتقر اليوم للمساحات الخضراء والتشجير الضروري المهم لصحة وجمال المدن.
وما بقي من مزارع وأراضي صنعاء الزراعية اليوم مزارع مديريات محافظة صنعاء، بعد أن انقرضت الزراعة في مديريات الأمانة. ولكن مع ذلك، فإن حالها -للأسف- ليس أفضل، وليست مزدهرة بالزراعة، وإنما تقاوم الانقراض، وليس هناك منتجات زراعية كبيرة إلا في 5 مديريات تزرع العنب، وهي مديريات: «بني حشيش، وخولان، وسنحان، وأرحب، وهمدان»، وتزرع أنواعا من العنب مهددة بالفناء أيضاً، إن لم يتم الحفاظ عليها ضمن مشروع وطني زراعي، كون الزحف العمراني قد وصل إلى آخر معاقل زراعة العنب كمزارع مديرية بني حشيش التابعة لمحافظة صنعاء والتي تعتبر المديرية الأولى في إنتاج العنب في اليمن والأجود في العالم كله.

 مراجع:
- دراسة «تحديات التنمية الاقتصادية وتوجهات الاستثمار وتأثيرهما على تخطيط وإدارة النمو العمراني لمدينة صنعاء»، للدكتور محمد أحمد سلام المدحجي. 
- موقع «حلم أخضر» الإلكتروني.