نشوان دماج / مرافئ - 
قال عنه البردوني إنه «جمع بين النقيضين: التشيع العنيف والعصبية العنيفة»؛ وذاك حكمٌ مأتاه الجو العام الذي كان موجهاً نقمته بعد ثورة سبتمبر على موروث بأكمله، غثه وثمينه، وليس حكماً مبنياً على دراسة واستقصاء. فالبردوني كأنما يريد أن يقول بأن الهبل مشكلته أنه يمني ومتشيع، وبالتالي لن يخرج شعره عن هاتين العصبيتين اللتين جعلهما نقيضين. 
كان يُنتظر من البردوني، وهو المنصف في أغلب نقده، أن ينصف هذا الشاعر أيضاً، وأن يقف عند شعره لا عند موقفه السياسي. فهو عندما يطلق حكمه ذاك على الهبل من أول وهلة، في كتابه «رحلة في الشعر اليمني»، لا يترك للقارئ أن يقف محايداً، بل يكون قد أجبره على اتخاذ موقف ما إزاء الشاعر، وإن استدرك الأمر في ما بعد بتبرير مفاده: «ويبدو أن تشيعه (أي الهبل) فن لا اعتقاد خالص، أو أن غلبة البيئة لاقت شيئاً من المزاج الفني، فتكون من عاملي المزاج الفني والبيئة التي أحاطت بالشاعر الهبل». فإذا كان التقييم في النهاية هو تقييماً للشعر، فما لي ولتشيع الهبل أو تعصبه ليمنيته؟! هل لأي منهما تأثير سلبي على شاعريته مثلاً؟ 
لكن يبدو أن تلك مشكلة فعلاً عند كتبة التاريخ عانى منها الكثيرون، فأخرجوه من كتبهم أو أهملوه تماماً، لأن ذلك التاريخ مازال إلى اليوم يكتبه الحكم العضوض وزبانيته. فمن رضي عنه هؤلاء أشهروه وجعلوا منه علماً ونبراساً، ومن سخطوا عليه أهملوه وجعلوه نسياً منسياً. إذ يكفي أن يقال عنك متشيع حتى تصفح عن ذكرك كل الأقلام. ويكفي أن يشير إليك فقيه أو نحوي بالتعريض حتى لا يعود لكل ما قتله أو كتبته وزن أو معنى.
أتساءل: ماذا لو كان الشاعر الهبل ملحداً مثلاً، ولم يكن له علاقة بأي تشيع أو تعصب لقومه؛ هل كان سيُغفر له هذا الأمر؟ بالتأكيد كان سيحدث ذلك، وفي أسوأ الأحوال من تشنيعنا عليه كنا سنكتفي باتهامه بالزندقة؛ مع الاحتفاظ له بكل حقوقه كمبدع. أما أن يكون متشيعاً ومتعصباً ليمنيته، فذاك ما لا يمكن احتماله، لدرجة أن شاعراً ظريفاً كـ علي بن علي صبرة يسرد له سنة 1980 سلسلة مقالات في صحيفة 13 يونيو (26 سبتمبر حالياً)، تحت عنوان «الهبل رافضاً ومرفوضاً»، منتقصاً منه ومشنعاً عليه، وكائلاً له من الأوصاف ما لا يمكن أن يصدر إلا عن تعصب آخر مأخوذ بحيثيات لا علاقة لها بأي أجواء صحية أو إيجابية، فضلاً عن أن تكون نقداً بناء. مع أن تعصب الهبل ليمنيته كان من المفترض أن يشفع له عند علي صبرة، وهو المعروف بتلك النزعة أيضاً.
وإذا كنا قد فهمنا المراد من كلمة «مرفوضاً» في تلك السلسلة من المقالات، فلا ندري ما المقصود من كلمة «رافضاً»؛ إلا إذا كان ذلك المعنى السياسي المذهبي الذي يطلق على المرء بناء على موقفه من فلان أو علان. وهذا لا علاقة له بالهبل كشاعر، وإنما بالهبل كموقف سياسي/مذهبي؛ فطالما أن ذاك كان «رافضاً» كموقف، فهو عند علي صبرة «مرفوض»، ولكن ليس كموقف فقط، بل 
3كشاعر أيضاً! وبالتالي هو المنطلق ذاته عند علي صبرة هو أيضاً.
ومثلما أن التعريض بالهبل من قبل كثيرين نابع من منطلق سياسي مذهبي، كذلك الأمر بالنسبة للإشادة به؛ نابعة هي أيضاً من منطلق سياسي مذهبي. فلو كانت زيدية الهبل الجارودية، كما يطلَق عليها من قبلهم، هي التي استدعت التشنيع عليه عند هذا الطرف، فإن هذه الزيدية الجارودية نفسها هي التي استدعت الدفاع عنه عند ذاك الطرف. وبذلك يكون الهبل الشاعر، بل الهبل الإنسان، قد ضاع عند الفريقين.

من هو الهبل؟
هو شرف الدين الحسن بن علي بن جابر بن صلاح بن أحمد بن صلاح بن أحمد بن ناجي بن أحمد بن عمر بن حنظل بن المطهر بن علي اليمني الصنعاني المعروف بـ«الهبل». ولد في مدينة صنعاء، عام 1048هـ ـ 1637م لأسرة اشتهرت بالعلم والقضاء والصلاح، فورث عنها هذه الصفات، كما ورث عنها حب أهل البيت عليهم السلام، فنذر نفسه لمدحهم ورثائهم وإظهار مظلوميتهم.
لقب بـ»الهبل» نسبة إلى قرية «بني هبل» التي ولد فيها وهي في صنعاء، ويعود أصله إلى منطقة خولان. ولذا قيل عنه بأنه كان خولاني الأصل، زيدي المذهب، صنعاني المنشأ. درس القرآن وعلوم الفقه واللغة على يد علماء عصره في ظل دولة آل القاسم، وكان معروفاً في حياته بالعبادة والورع والزهد عن طلب الدنيا وملذاتها برغم صغر سنه.
توفي في صنعاء عام 1079هـ ـ 1668م وهو لم يزل في عامه الـ31 من العمر. وتذكر المصادر التاريخية أنه دفن في مقبرة (كانت) تقع محل مستشفى الثورة بصنعاء، وعندما شرعت الحكومة في بناء المستشفى تم نقل جثمانه إلى قبة جامع العَلَمِي بصنعاء القديمة.
هكذا تقول ترجمته في عدد من المصادر. أما الشوكاني فيقول عنه في «البدر الطالع»: «الشاعر المفلق الفائق المكثر المُجيد... له شعر يكاد يسيل رقة ولطافة وجودة سبك وحسن معان، وغالبه الجودة، وله ديوان شعر موجود بأيدي الناس...»، إلى أن يقول: «توفي في شهر صفر سنة 1079هـ، فيكون عمره إحدى وثلاثين سنة، ولو طال عمر هذا الشاب الظريف، ولو لم يشب صافي شعره بذلك المشرب السخيف لكان أشعر شعراء اليمن بعد الألف على الإطلاق». وختم كلامه بالقول: «وقد بالغ صاحب نسمة السحر (يوسف بن يحيى) في حقه؛ فقال إنه لم يوجد باليمن أشعر منه من أول الإسلام، وهذا معلوم البطلان، فالصواب ما قلته سابقاً».
ولا أدري لماذا، كلما قرأت عن فقيه انتقد شاعراً، يتبادر إلى ذهني وصف أبي الطيب المتنبي للذهبي:
سُمّيتَ بالذهبيّ اليوم تسميةً
مشتقةً من ذهاب العقل لا الذهبِ
فالشوكاني -على جلالة قدره- حافظ وفقيه لا علاقة له بالشعر، أو لا يمكن أن نجعل من قوله عن شاعر ما أنه القول الفصل. و«المشرب السمج» نقد نابع عن موقف سياسي/مذهبي من الشوكاني تجاه الهبل أكثر منه شيئاً آخر.
ولا بأس أن نورد هنا ما قاله أحمد محمد الشامي، محقق ديوان الهبل، في مقدمة الكتاب تعليقاً على قول الشوكاني: «ونحن نعلم أن مثل هذا التقريض البياني لا يخطر ببال من لا يتعصبون لغرض أو ينفعلون بهوى عندما يؤرخون أو ينتقدون أو يحكمون، و(لو) هذه التي يقول اليمنيون إنها (اسم جني) وإنها تفتح باب الشيطان قد نستطيع أن نتقبلها مع كل أمنية أو حلم، ولكنا لا نستطيع أن نستسيغها ونحن ننقد الشعر والشعراء، ولا نستطيع أن نقبلها من الشوكاني وفي شعر الهبل بالذات، فقصائد ديوانه بلاغة وفصاحة وأسلوباً وسبكاً وتصويراً وتعبيراً (كلها غُررُ) وإن شابها ما شابها مما لا يرضي الإمام الشوكاني، ولا يرضينا أيضاً في الناحية المذهبية، علماً بأنها أبيات معدودة لا تنقص من قيمة الديوان وصاحبه شعرياً لو حذفت ولا تزيده فضلاً إذا بقيت. وإننا أو غيرنا إذا لم يرض عنها رأياً ومذهباً فلا يستطيع إلا أن يعجب بها تعبيراً وفناً وتصويراً. وعلى هذا استسغنا الكثير من أشعار الفحول في الجاهلية والإسلام، سواء كانوا كفاراً أو فساقاً أو خوارج أو من فرسان الهزل والمجون، أو كانوا -كالهبل- من الزهاد الأبرار. وسيظل الهبل، ورغم هذه النظرة الفقهية أو المذهبية، أشعر شعراء اليمن كما قال الشاعر الناقد يوسف بن يحيى في كتابه القيم «نسمة السحر»، وهو الأقرب إلى الإنصاف والصواب عند دارسي آداب اليمن».
قد يقول قائل بأن هذا الرد من الشامي على الشوكاني هو دفاع عن زيدية الهبل لا عن شاعريته، وبالتالي هو دفاع عن موقفه السياسي المتجسد في الزيدية، والذي يتبناه الشامي بطبيعة الحال. هذا القول كان سيكون له واقعيته ومصداقيته لو لم يحدث أن البيئة الزيدية ذاتها هي أيضاً حاربت الهبل وغمطت حقه ربما أكثر من غيرها، وهي التي أهملت شعره كما لو أنها تتبرأ منه، عوضاً عما لاقاه الشاعر في حياته من محن وخطوب وغم وقهر ووشايات ظل يكابدها إلى أن اخترمته المنية، كما ذكر الشامي في مقدمة الديوان. ولنستمع إلى هذه الأبيات من الشاعر نفسه لنعرف أي صنوف من الناس هم الذين كان لهم أن يتصدروا المشهد في البيئة الزيدية ذاتها عند هذا الحاكم أو ذاك:
ويا مُرجّى نوالاً أنتَ في زَمنٍ
فيهِ المكارمُ والعَلياءُ أسماءُ
يُقصى المُحبُّ ويُدنَى مَنْ عقيدتُهُ
نصْبٌ وجبرٌ وتشبيهٌ وإرجاءُ
هذه الشكوى من الشاعر ليست صادرة في عهد بني أمية؛ مَنْ كانت تلك هي سياستهم في الحكم، بل من بيئة زيدية صرفه تؤمن بالمبادئ ذاتها التي يؤمن بها الهبل، من عدل وثورة وخروج على الظلمة وإصلاح للاعوجاجات والانحرافات، لكنه اللهاث وراء السلطة والسعي إليها بما أمكن من وسائل.
وبالتالي «مثل الهبل لا يمكن أن ينجح بمبادئه في مثل زمنه، وإن مصيره كان سيزداد سوءاً لو عاش، ولاسيما وقد كبرت الانحرافات التي كان يتحسبها ويحذر منها ويدعو إلى محاربتها»، بحسب الشامي.
لقد اعتنق الهبل مذهب الثورة والخروج على الظلمة والمنحرفين، وألزم نفسه محاربة الفساد بلسانه وسنانه. كما جهر بنقد المنحرفين والفاسدين فكراً أو عقيدة أو سلوكاً، نقداً لاذعاً مريراً. وعندما رآهم يحاولون جرجرة القائمين بالأمر إلى ما يخشاه على جوهر الحكم الذي يتصوره تطبيقاً عملياً لأحكام ومبادئ النظرية الزيدية من عدل وتوحيد وتشريع متكامل للحكم بما أنزل الله، لم يصمت ولم يجامل، بل نصح وحذر، ثم حرض من يحسبه قادراً على الإصلاح والتغيير، شأنه شأن المصلحين وأصحاب المبادئ في كل زمان ومكان.
كل ذلك قد جر عليه الويل، فحاربه، بل حارب ديوان شعره، من لا يقول برأيه من الفقهاء وذوي السلطة حتى ولو كانوا من أبناء وأتباع فرقته وطائفته.
هكذا التقى المتنافرون رأياً ومذهباً ومزاجاً، عن وعي وعن غير وعي، وبقصد وبدون قصد، على غمط الهبل وتحاشي ذكره أو الاستشهاد بشيء من شعره، جمعهم على ذلك قاسم مشترك، وحّد بين المتنافرين رأياً ومذهباً، والمختلفين هوىً وشعوراً، والمتباينين ثقافة وتفكيراً على مدى الأيام والعصور، وحل بذلك على شاعر اليمن «الهبل» ظلم كبير.
فعلاً لقد ظلم الشاعر الهبل حياً وميتاً، ولقد ظُلمنا نحن أيضاً بعدم التعرف عليه ولو بقصيدة واحدة في مناهجنا الدراسية، وهي تلقننا كل ما هب ودب من شعر وشعراء، لدرجة أن تفاهة كـ»ربابة ربة البيتِ» مثلاً، أو «صوت صفير البلبلِ»، كانت بمثابة قصائد علينا حفظها؛ بينما أمير شعراء اليمن، الذي يقول عنه الشاعر والأديب يوسف بن يحيى صاحب «نسمة السحر» إنه «لم يوجد باليمن أشعر منه من أول الإسلام»، ويقول عنه ابن أبي الرجال إنه «اشتغل بالعلوم والآداب حتى برع على المشيخة القرح، فضلاً عن الأتراب»، هذا الشاعر الأمير لا نعرف عنه شيئاً في مناهجنا، لأنها مناهج بنيت كأنما على شعور بالدونية مكرّس في كل شيء من حولنا حتى في الشعر، أو كأنها بنيت على تحامل من كل ما هو موروث يمني، وليس على إنصاف يعرف أين الجميل وأين القبيح في ذلك الموروث؛ وإلا ما الذي كان سيضيرها لو أبدلت لنا «ربابتها» تلك أو «صوت صفير بلبلها» بقصيدة أخاذة كـ«لو كان يعلم أنها الأحداقُ»؛ حتى لو لم تذكر اسم صاحبها ولا موقفه السياسي؟! ألم تكن هذه القصيدة أجدر بأن نتعاطاها كطلاب يمنيين فيتعرفوا على أمير شعرائهم، بدلاً من تلك التفاهات التي تخصي العقل والشعور؟! 
من حق الهبل علينا أن نقف عنده كثيراً، وأن نفرد لشعره في دراساتنا ومناهجنا مساحة واسعة يستحقها بامتياز وجدارة. وليس بوسعنا هنا إلا أن نختتم هذه العجالة بـ:
لو كانَ يَعْلَمُ أنّها الأحداقُ
يومَ النّقا ما خَاطرَ المشتاقُ
جَهِلَ الهوى حتى غَدا في أسرِهِ
والحُبّ ما لأسيرهِ إطلاقُ
يا صاحبَيَّ وَمَا الرَّفيقُ بصاحبٍ
إن لَم يكنْ مِن دأبه الإشفاقُ
هَذَا النّقا حَيثُ النّفوسُ تُباح والـ
أَلْبابُ تُسْلَبُ والدَماءُ تُراقُ
حيثُ الظِّباءُ لهنَّ سوقٌ في الهوى
فيها لأَلْبابِ الرِّجالِ نَفَاقُ
فَخُذا يُميناً عن مَضَاربه فَمِنْ
دُونِ المضَارِبِ تُضْربُ الأعناقُ
وحذارِ مِنْ تِلكَ الظباءِ فما لَها
في الحُبِّ لا عَهْدٌ ولا مِيثاقُ
وَبِمهْجَتي مَنْ شاركتْني لُوَّمي
وجداً عليهِ فَكُلُّنا عُشَّاقُ
كالبدْرِ إلاّ أنّه في تِمّهِ
لا يَخْتشي أن يَعْتَريهِ محاقُ
كالغُصْنِ لكنْ حُسْنُه في ذَاته
والغُصنُ زانتْ قدَّهُ الأوراقُ
مَهْما شكوتُ لَه الجفاء يقول لي
ما الحُبُّ إلاّ جفوةٌ وفِراقُ
أو أَشتكي سَهَري عليه يَقُلْ مَتَى
نَامَتْ لِمَنْ حَمَلَ الْهوى آماقُ
أو قلتُ قد أشْرَقْتني بمدامعي
قال الأهلّةُ شأنُها الإشْراقُ
ما كُنْتُ أدْري قَبْلَه أنّ الْهَوى
مُهَجٌ تَصَدَّعُ أو دَمٌ مُهْراقُ
كنتُ الخَليّ فَعَرَّضَتْني لِلْهَوى
يومَ النَّقا الوَجَناتُ والأَحداقُ
ومِن التَّدَلّهِ في الغَرامِ وهكَذا
سُكرُ الصَّبابةِ ما لَهُ إفراقُ
إنّي أُعبّر بالنّقا عَن غيرِهِ
وأقول شامٌ والمرادُ عراقُ