نشوان دماج / مرافىء -

السينما الإيرانية سينما الواقع بامتياز. إنها تظهر أبطالها حقيقيين جدّاً، ولا تهتم كثيراً بالتقنيات المتطورة في التصوير، بل تغلب عليها البساطة والواقعية والجمال الطبيعي، وبالتالي ليس عجيباً ألا تتجاوز تكلفة إنتاج أفلام إيرانية حاصلة على جوائز عالمية تكلفة وجبات الممثلين في عمل هوليوودي.

أول فيلم قبل 9 عقود
يمتد تاريخ السينما الإيرانية إلى ما يزيد عن القرن، شهدت فيه تطوراً تدريجياً وفق التحولات السياسية التي مرت بها إيران، وبالتالي قد لا يمكن الحديث عن السينما الإيرانية بمنأى عن تلك التحولات.
كانت العقود الثلاثة قبل ظهور أول فيلم إيراني صامت في العام 1929، بعنوان «آبي ورابي»، للمخرج أوغانس أوغانيانس، بمثابة إرهاصات ميلاد السينما الإيرانية في ذلك التاريخ بالذات، مع ارتقاء رضا شاه العرش نهاية العشرينيات، لتتوالى بعد ذلك الأعمال السينمائية، لتبلغ خلال الفترة من الثلاثينيات إلى السبعينيات نحو ألف ومائة عمل سينمائي من مختلف الأنواع، مع ما صاحب تلك الفترة من انحسارات وعدم النهوض بمستوى الحلم.

السينما الناطقة
بدأت مرحلة السينما الناطقة في إيران عام 1933، بأول فيلم فارسي ناطق وهو فيلم «الفتاة لور» للمخرج عبد الحسين سبنتا، والذي صورت أحداثه في الهند. لكن لم تستطع السينما الإيرانية الظهور بالشكل الجيد حينها، لظهور الكثير من الأفلام الأمريكية صاحبة الإنتاج الأفضل والأضخم، فلم تأت بشيء جديد حتى فترة الخمسينيات حيث بدأت السينما في الازدهار نتيجة لتأسيس الكثير من الشركات السينمائية على يد بعض المستثمرين، وظهور سوق النفط، وأصبحت السينما متاحة لكل الشعب، وليست على طبقة معينة، ووصل عدد شركات الإنتاج السينمائي في إيران إلى 22 شركة، وقد كانت السينما متأثرة خلال تلك الفترة بالسينما الهندية.

ازدهار منحسر
على الرغم من ازدهار السينما الإيرانية في الخمسينيات، إلا أن أغلب أفلامها كانت ترفيهية تجارية، نتيجة لسوء الأوضاع السياسية التي حدثت بعد الانقلاب الذي أطاح بحكومة محمد مصدق عام 1953؛ ما أدى إلى فرض القيود على الحريات. لكن ذلك لم يمنع من ظهور بعض الأعمال الجيدة، مثل فيلم «جنوب المدينة» للمخرج الإيراني فاروق جعفري، الذي منع من العرض، نتيجة لصراحته الشديدة في تصويره حياة الناس الذين يعيشون في الأحياء الشعبية، وقد أتلف جزء كبير من هذا الفيلم.
ثم جاءت مرحلة الستينيات لتشهد تطوراً وشكلاً جديداً في السينما الإيرانية، وظهور جيل جديد من السينمائيين الإيرانيين درسوا في الخارج، من أمثال داريوش مهرجوي، مسعود كيميائي، فظهرت العديد من الأفلام الجيدة، مثل «المنزل مظلم» مطلع الستينيات، للشاعرة والمخرجة فوروغ فرخزاد، تبعه آخر لفَروخ غفاري «ليل الأحدب»، و«جلد الثعبان» لهازير داريوش، والذي يراه النقاد البداية الحقيقية للسينما الإيرانية الجديدة. 
غير أن فيلم «البقرة» عام 1969 للمخرج داريوش مهرجوي والمأخوذ من قصة للأديب غلام حسين سعيدي، يمكن اعتباره العلامة البارزة في سينما ما قبل الثورة الإيرانية وواحداً من أهم أفلامها. إن تحولات قروي بعد موت بقرته العزيزة عليه مثّلت كأفضل ما يكون تماهي الإنسان مع النوازع الحيوانية الكامنة في النفس البشرية. هذا العمل بقوة أسلوبه الإخراجي وعمق فكرته وتصويره الفني البديع يعد إحدى تحف السينمـــا الإيرانيـــــــة حتى يومنا هذا. وبحسب بعــــــض المصادر، فإن اكتشاف الإمام الخميني، بعد عودته إلى إيران، لفيلم «البقرة»، كان هو الدافع لأن يغدو الفن السابع معترفاً به وشرعياً من النظام الجديد. لقد كان العمل خير مثال على السينما الجادة التي تحض على إعمال الفكر بتناولها أفكاراً فلسفية، ويحكى أنه قال حينئذ: «نريد هذا النوع من الأفلام». 
يشار إلى أن هذا الفيلم منع من العرض في عهد الشاه؛ بذريعة أنه يصور حياة الريف بطريقة قاسية، وهناك رأي آخر يقول إن البقرة رمز لحال إيران في زمن الشاه.

تراجع له ما يبرره
عادت السينما الإيرانية إلى التراجع مرة أخرى مع اقتراب الثورة الإسلامية، حيث أصبح ينظر إليها باعتبارها رمزاً للفساد والهيمنة الغربية وانحطاط نظام بهلوي، وقد أسفر عن ذلك إحراق 180 دار عرض سينمائي في إيران. وفي عام 1983 اتخذت الحكومة بعض الخطوات بهدف زيادة الإنتاج الوطني والحد من استيراد الأفلام الأجنبية، فأنشأت «مؤسسة الفارابي» للرقابة على الأفلام السينمائية، ومنعت بعض الأفلام من العرض.
لكن ذلك لم يكن معارضة للسينما بحد ذاتها، بقدر ما كان معارضة للتوجه الغربي الذي كان، بحسب الكثيرين، قد طغى على السينما في عهد الشاه. ففيلم «البقرة» مثلاً شاهده مرشد الثورة آية الله الخميني وسمح بعرضه قائلاً: «نحن لا نعارض السينما، ولكننا نعارض الفحشاء كطوق نجاة للسينما الإيرانية»، بحيث أصبح فيلم «البقرة» طوق النجاة للسينما الإيرانية، حسب مخرج الفيلم نفسه.

فترة الازدهار
تعتبر مرحلة التسعينيات وبدايات الألفية الثالثة أفضل مراحل السينما الإيرانية، حتى أن المخرج الألماني الشهير فيرنر هرتسوغ صرح في إحدى ليالي مهرجان تيلوريد السينمائي عام 1995 بالقول إن أعظم أفلام العالم اليوم تنتج في إيران. 
كان فيلم «طرقات جليدية» للمخرج مسعود جعفري هو الفيلم الإيراني الأول الذي يحصد جوائز عالمية في مهرجان برلين الدولي الـ37. تبعه المخرج عباس كيارستمي عام 1997 عندما نال جائزة السعفة الدولية في مهرجان «كان» السينمائي عن فيلمه «طعم الكرز»، وتوالت الجوائز العالمية على الأفلام الإيرانية فيما بعد ليكون آخرها حصول فيلم «انفصال» للمخرج أصغر فرهادي، على جائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 2012.

لماذا نجحت السينما الإيرانية الجديدة؟
حققت السينما الإيرانية في العقدين الماضيين عالميةً لا جدال فيها. فصار معتاداً أن تحصد السينما الإيرانية كل عام العديد من الجوائز في المهرجانات الدولية. كما صُنفت بعض الأفلام الإيرانية ضمن أفضل الأفلام في تاريخ السينما. نجاح مذهل لسينما لم يكن لها اسم يذكر قبل عشرين عاماً فقط.
يمكن أن يعزى سبب نجاح السينما الإيرانية الجديدة إلى سعيها في أن تكون ذات طابع مستقل خاص بها، فهي سينما تعتمد على الإيحاء والترميز، من خلال توظيف الكاميرا، وجعل المتلقي يشعر بأنه أمام مشاهد حقيقية تحدث على أرض الواقع، وليست مشاهد سينمائية.
إنها، بحسب أوسكار وايلد، «سينما الإنسان، واجهتها القيود فوجدت مساحتها الكبيرة للحرية داخل تنوع الإنسان نفسه»؛ سينما حارة تمتلئ بالحياة وبالعفوية، شديدة الإحساس بالإنسان، وغالباً ما تكون الفكرة والقصة فيها متشكلة من أبعاد عدة، وتحمل عمقًاً فلسفياً، سواء في السيناريو، أم في الشخصيات، بالإضافة إلى تنوُّع الأبعاد في الفيلم ما بين فكرية واجتماعية وسياسية وروحية.

أرقام قياسية
في تقرير لها، تقول صحيفة «الجارديان» إن صناعة الأفلام في إيران الآن من الأكثر نشاطًا في العالم في هذا المجال، فهي تنتج أكثر من 100 فيلم في السنة، مع ملاحظة أن هذا الرقم يستثني الأفلام الوثائقية والأفلام التي تصنع بعيداً عن أعين الحكومة وطوفاناً من الأفلام التي تنتج من أجل التلفزيون الإيراني نفسه، مع الأخذ بالاعتبار أن فرنسا، وهي صانعة الأفلام الأكثر نجاحاً في أوروبا، تنتج 200 فيلم في السنة، بينما تنتج بريطانيا ما لا يزيد على 100 فيلم.

الدراما الإيرانية تفرض نفسها
حتى أعوام خلت، كان على الجمهور العربي أن يتسمر ساعة كاملة أمام التلفزيون مستغرقاً في الخلافات التي تندلع بين «مهند ونور» في المسلسل التركي الشهير «نور»، إلا أن حضور الدراما الإيرانية من خلال مسلسلي «يوسف الصديق» و»مريم العذراء» وغيرهما، أيقظ إحساس الجمهور العربي من حالة الغيبوبة التي استحوذت عليه منذ سنوات، بفعل إسفاف الدراما المدبلجة.

ذروة النجاح عربياً
وصلت الدراما الإيرانية ذروة نجاحها مع مسلسلي «يوسف الصدّيق» و»مريم العذراء». وقد ساهم الجدل الذي أثاره «علماء» الوهابية حول المسلسلات الدينية الإيرانية، والذين ذهبوا إلى حد تحريم مشاهدة مسلسل «يوسف الصديق»، في لفت المشاهد العربي إلى هذا النوع الجديد من الدراما، الذي وجد الساحة خالية في ظلّ القحط الذي ضرب مجال الإنتاج الديني العربي.
تلعب الدراما الإيرانية على فكرة قصص القرآن والأنبياء وتجسيد الشخصيات المقدسة التي تحظى بقدر كبير من التبجيل؛ فتجسيد هذه الشخصيات، باستثناء آل البيت، غير محظور في إيران، وبالتالي هي تجعل الممنوع متاحا، بل تخرجه في إطار درامي جميل ومفقود في الإنتاج العربي، وبترجمة عربية فصيحة ووجوه جميلة تشدّ المشاهدين، على عكس ما تقدمه الدراما التركية والغربية، بالإضافة إلى أنها عادة ما تأتي بجهود إيرانية كاملة، حتى الدبلجة. وبالتالي صحيح أن الدراما الإيرانية أتت متأخرة، ولكنها متميزة تقنياً. 
وبمعزل عن المهام الكثيرة التي تقوم بها الدراما الإيرانية من توعية أخلاقية، نجد أن الأعمال التاريخية تقوم بمهمة بالغة الأهمية أيضا في نقل حقائق عن أحداث تاريخية هامة جدا وترتبط بنا وبالمنطقة بشكل عام، سواء كانت إسلامية أم تاريخاً معاصراً من انقلابات وثورات في المنطقة حدثت خلال المئة عام الأخيرة أو قديمة ترجع لتاريخ الإسلام أو إلى آلاف السنين مثلما حدث في المسلسل الخالد «يوسف الصديق (ع)».
وضمن هذه الأعمال التاريخية تبرز بعض الأعمال الفاخرة التي تتطرق لسير وقصص حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، التي لطالما حاولت بعض الجهات الاصطياد في الماء العكر من أجل إيجاد شرخ وجفاء بين المشاهد العربي والدراما الإيرانية التي تعتبر الأنسب لثقافتنا الشرقية.
إضافة إلى ذلك فإن الدراما الإيرانية تتطرق للحوادث التاريخية وسير أصحاب الرسول الأكرم بشكل موضوعي وغير متطرف ويستند إلى وثائق تاريخية ومصادر لا غبار عليها ومقبولة لدى الجميع، سواء في المذاهب الإسلامية أم في باقي الأديان السماوية.
كما توظف الدراما الإيرانية أفضل إمكانات الدراما وصناعتها، سواء سينمائيا أم تلفزيونياً، للأعمال التاريخية وتحدد لها ميزانيات كبيرة وضخمة لإنتاج أعمال مقبولة وأكثر من جيدة أيضا.

صفعة للتمذهب المسيس
وهنا تأتي الدراما الإيرانية كصفعة في وجه من يريد اتهامها أو التقليل من شأنها أو دورها في المجتمع الإسلامي كدراما محتشمة بديلة ومناسبة للأسرة من خلال تقديم أعمال تتضمن سير الصحابة وتشير إلى صفحات مشرقة من حياتهم، مثل: مصعب بن عمير، حجر بن عدي، أويس القرني، أبو ذر الغفاري، حبيب بن مظاهر، ميثم التمار، عبد الله ابن مسعود، وغيرهم، وأخيراً مسلسل سلمان الفارسي. 
هذه الأعمال وغيرها كان لها أن تهز عرش الدراما التركية التي غزت الشاشة العربية في وقت قياسي، في ظل تراجع مستوى الأعمال العربية الدرامية التي لم تعد تلبي ذوق الكثير من المشاهدين. ورغم الجدال والضجة التي ترافق غالبا عرض المسلسلات الدينية الإيرانية في الأوساط الدينية والقائمة عموما على رفض تجسيد الأنبياء وأهل بيتهم، غير أنها تمكنت من فرض نفسها في الشبكات الرمضانية الأكثر ترقبا ومتابعة على الإطلاق. ويتوقع الكثيرون انتشارا أكبر للدراما الإيرانية بالتلفزيونات العربية، لتمتعها بالقيم الفنية العالية دون خدش للحياء، حيث عادة ما توصف الدراما الإيرانية بالعفيفة.

المراجع: 
-    موقع ifilm.
-    ساسة بوست.
-    جريدة «المدى».
-    الدراما الإيرانية تعيد إحياء القضايا الإنسانية في المجتمع العربي، صحيفة «لا».
-    سينما النهايات المفتوحة، هند عبد الحميد.