غازي المفلحي- شايف العين / لا ميديا

بما أن التصوف ظاهرة إنسانية فكرية موجودة من قبل ظهور الإسلام، في بعض الشعوب والدول، سنحاول هنا أن نستعرض التصوف بشكله الإسلامي في اليمن.
والتصوف بتعريف بسيط هو التقشف والزهد في الدنيا، وممارسة العبادة برغبة وحب وليس خوفا.

فجر الصوفية في اليمن
حسب كثير من المراجع فإن بداية التصوف في اليمن تعود للقرن الأول الإسلامي. وهذه المراجع تشير إلى التصوف المستمد من تعليمات الإسلام ومفاهيمه، ومن الطبيعة اليمنية، التي قال عنها النبي في حديثه: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوبا وألين أفئدة. الإيمان يمان والحكمة يمانية».
وقد كان التصوف في هذه المرحلة متماهيا مع الفقه، فالمتصوف كان ملماً بالعلوم الإسلامية بشكل عام.
وقد ظل التصوف مندرجا في العلوم الإسلامية الأخرى، ولم يعرف التميز والانتشار الواسع إلا خلال القرنين السابع والثامن الهجريين/ الثالث عشر الميلادي، عندما استقل وأصبح له شعاراته التي يتميز بها عن سائر التيارات الإسلامية الأخرى، في عهد الدولة الرسولية.

أوائل الصوفية
تشير المراجع إلى أن رواد التصوف اليمني كانوا من صحابة رسول الله وتابعيهم، أمثال عمر بن ميمون الحضرمي، وهو من الزهاد، وقيل عنه إنه حج واعتمر مئة مرة، وطاووس بن كيسان، ووهب بن منبه الذي قال: «الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء»، ومحمد بن بسطام الصنعاني الذي كان يصوم ويفطر على قرص شعير مخلوط بالرماد.

تدرج
استمر التصوف بالانتشار في اليمن، وظهرت أسماء في القرن الخامس والسادس الهجري من مناطق تهامة وتعز، أمثال: أبي محمد سود بن الكميت، وأبي العباس أحمد بن أبي الخير الصياد، من مدينة زبيد، وعلي بن عمر بن محمد الأهدل، وأحمد بن علوان من تعز، الذي لا يزال له أتباع حتى اليوم.
وحسب محمد الحبشي فقد اكتملت في صوفية اليمن كل مقومات التصوف في القرنين الثامن والتاسع الهجريين، وغذي بالفلسفة، كما كان لدى الحلاج وابن عربي.
ومن رواد تلك الفترة أحمد بن عمر الزيلعي، الذي عرف بسلطان العارفين، وعبدالله بن أسعد اليافعي، وهو الصوفي الوحيد الذي تجاوزت شهرته اليمن وانتشرت كتبه في مكة ومصر والشام، وأبو بكر بن محمد السراج المتصوف الشاعر.
أما القرن العاشر الهجري فيمثل ذروة تطور التصوف في اليمن، وبعد بدأ التصوف يصعد ويهبط، ازدهارا وتراجعا. ومن ملامح ازدهار التصوف آنذاك في حضرمو، التي حافظت عليه حتى عصرنا هذا، ومن اشتهار أسماء من أمثال أبي بكر بن عبدالله العيدروس، الذي قيل إنه كان يذبح في اليوم 30 خروفا للضيوف والمحتاجين في رمضان.

أنحاء فضلت التصوف وفضلها
أغلب المتصوفة اليمنيين عاشوا في تهامة، وفضلوا هذه المنطقة، وكانوا يفضلون الهدوء والعزلة في سواحلها بعيدا عن ضجيج الحياة ومعتركاتها. وقد أثنى الشيخ أحمد الصياد على السواحل وقال إنها مورد عباد الله الصالحين.
ويعزو بعض المؤرخين الأسباب الأخرى التي جعلت الصوفية تزدهر في تهامة أو المناطق السهلية إلى قيام الدولة الرسولية (626 ـ 858هـ/ 1228 ـ 1454م) في تعز، عاصمتها في اليمن خلال فترة حكمها الطويلة التي امتدت أكثر من مائتي عام. وكان طبيعياً أن تحظى الطرق الصوفية وشيوخها بحظوة كبيرة لديها، بسبب وقوفها بجانبهم في تأسيس دولتهم في اليمن.
وبحسب بعض المؤرخين فقد ظهر التصوف في حضرموت في القرن السابع الهجري على يد الشيخ محمد بن علي، الشهير بالفقيه المقدم.
ولم تكن تشتهر حضرموت بالتصوف قبله، وكان أهلها منشغلين بالعلوم الفقهية وجمع الأحاديث، فنشر المقدم الصوفية ولقيت قبولا كبيرا. وقد نبغ على يديه أفواج كثيرة من المتصوفة، منهم عبدالله بن محمد باعباد، وسعيد بن عمر بلحاف. واستمرت الصوفية في حضرموت حتى اليوم، وهي من أكبر مراكزها اليوم.
أما في المناطق الجبلية فكان التصوف أقل، ومن أشهر أعلامه إبراهيم بن أحمد الكينعي، الذي نشر التصوف في صنعاء وصعدة وذمار، وقال عنه الشوكاني إنه اعتزل الناس وعكف على معالجة قلبه من مرض حب الدنيا وصام الدهر ما عدا الأعياد وأيام التشريق، وكان يحيي ليلة يناجي الله فيها.

الأصل والفرع
في الصوفية هناك الأصل والفرع، فالشيخ في قمة الهرم كأصل، يليه الخواص ثم المريدون من الطلبة والأتباع. ويتم ترشيح شيخ الصوفية بإجماع كبار الصوفية، وقد يعين الشيخ خليفة له قبل موته، وأحيانا ينصب الشيخ بالوراثة، فيأتي الابن خليفة لوالده. وهذا ما يعرف بالمناصب، فهناك منصب بني المكدش ومنصب بني الحكم ومنصب بني الأهدل...

الزاوية والرباط
للمشيخة مكان خاص يسمى الرباط أو الزاوية، ومنها زاوية الشيخ ابن الغيث بن جميل، زاوية الشيخ علي الأهدل، رباط الشيخ علي بن أفلح، رباط الشيخ محمد بن عمر النهاري... ومن مهام الشيخ الإشراف على أوقاف الزاوية أو الرباط، ولباس الخرقة، والتحكيم، وإقامة حفلات الاستماع.

الخرقة
الخرقة أحد طقوس الصوفية المهمة، ويعتبرونها دليلا على اتباع النبي (ص)، وهي ما يلبسه المريد من يد شيخه الذي يدخل في إرادته ويتوب على يديه. وهي جزء من لباس الشيخ، منها العمامة أو القميص. ويندرج تحتها كثير من ملبوسات الشيخ، أو قطعة ثوب ممزقة ترمز لفقره وخشونته، ويُلبسها الشيخ مريده علامة التفويض والتسليم.
وهي ثلاثة أنواع من حيث مدلولها الصوفي: خرقة الإرادة لا يتعاطاها إلا من كان له إرادة صادقة، وخرقة التبرك يلبسها من أراد التبرك بالصوفية، وخرقة التشبه يلبسها من أراد التشبه بالصوفية. 

التحكيم
التحكيم هو إشعار من التلميذ لشيخه بموافقته على التتلمذ، ويضع المتتلمذ يده في يد الشيخ ويقرأ الفاتحة وآيات أخرى تسمى آيات الرجاء، ويسأله الشيخ: «رضيتَ بي شيخا ومؤدبا أدعوك إلى ما دعا الله ورسوله؟!»، فيقول التلميذ: «قبلت».

التلقين
التلقين أن يضع الشيخ يده في يد المريد ويأمره بسماع الذكر معه وهو مغمض العينين ويردد بعده.

السماع
أقام صوفية اليمن السماع منذ القرن السابع الهجري. وكان في البداية أن يردد المتجمعون الأذكار بصوت واحد، ثم تطور وأدخل على الأذكار القصائد المنظومة، ثم أضيف إليها الطبل والناي، ثم التغني والرقص الصوفية المعروفة. وقد يستمر السماع ليلة كاملة. وقد يردد فيه بيت شعري واحد. وكان سلاطين الدولة الرسولية في القرن الثامن الهجري يحضرون الاستماع. ومن أقوال إسماعيل بن أبي بكر الجبرتي، الذي انتعش السماع على يده في ذلك القرن، أن «السماع محرم لمن لا يعرف معانيه».
وللسماع بقصائده وموسيقاه ورقصه خصوصية وتأثير بالغ على جموع الصوفية، فبعضهم يُؤسر وينفعل به حتى يودي بحياته. ويذكر أن الصوفي أحمد بن شافع، وهو أحد تلاميذ الجبرتي، حضر استماعاً للفقراء فسيطر عليه وجد شديد فتقدم إلى المغني وجلس بقربه يسمع ثم احتضنه وبقي ساعة ثم مات.

طرق صوفية اليمن
الطرق الصوفية اليمنية متعددة، كالطريقة الأهدلية والطريقة الجبرتية والطريقة العيدروسية... بعضها متأثر بطرق التصوف الإسلامي عموما، وبعضها طرق محلية مبتكرة يعترف أصحابها بتبعيتها للطرق الصوفية في العراق ومصر والمغرب، ومنها:
الطريقة القادرية: نسبة إلى الشيخ عبد القادر بن موسى الجيلاني (توفي سنة 561هـ/ 1166م). دخلت إلى اليمن في حياة الشيخ الجيلاني على يد الشيخ علي بن عبد الرحمن الحداد، والشيخ عبد الله الأسدي، وهي أقدم الطرق الصوفية التي دخلت اليمن.
الطريقة الشاذلية: تنسب إلى الشيخ أبي الحسن علي بن عبدالله الشاذلي (توفي سنة 656هـ/ 1258م)، وانتقلت إلى اليمن على يد الشيخ علي بن عمر ابن دعسين الشاذلي (توفي سنة 821هـ/ 1418م). وكان لهذه الطريقة حضور قوي في مدينة عدن القديمة، وتحديداً في حي حسين الأهدل، الذي كان يسمى قديماً حي الشاذلي. وظهر هذا الحي أواخر عصر الدولة الطاهرية. واختفى اسم حي الشاذلي مع مرور الوقت، وظهر اسم حي الحسين، نسبة إلى مؤسس مسجد الحسين، حسين الأهدل، الذي سكن فيه قبل أكثر من ستمائة سنة.
الطريقة المغربية: مؤسسها الشيخ شعيب بن الحسن، الشهير بأبي مدين (توفي سنة 594هـ/ 1198م). ويرجح المؤرخون أنها جاءت من الجزائر. وتذكر المراجع أنها دخلت اليمن عبر مندوبه إلى حضرموت.
الطريقة الرفاعية: مؤسسها الشيخ أحمد بن علي الرفاعي (توفي سنة 578هـ/ 1183م). وتذكر الروايات أنها دخلت اليمن من مصر على يد الشيخ عمر بن عبد الرحمن بن حسان القدسي (توفي سنة 688هـ/ 1289م). وتذكر بعض المراجع أن الطريقة الرفاعية كانت في فترة من فترات التاريخ متوسعة ولها أتباع كثر، ولكنها خبت مع السنين. وقد تفرع منها في عدن الطريقة الأحمدية والمشهورة في مدينة الشيخ عثمان، ومازالت حتى الآن.
الطريقة السهروردية: نسبة إلى الشيخ عمر بن محمد السهروردي (توفي سنة 632هـ/ 1640م). ولا تتوفر معلومات أكثر عن هذه الطريقة.
الطريقة النقشبندية: من الطرق التي دخلت اليمن متأخرة، ونشرها تاج الدين بن زكريا الهندي النقشبندي (توفي سنة 1050هـ/ 1640م). وتقول الروايات إن أحد أتباع الطريقة النقشبندية جاء إلى اليمن فأخذ عنه هذه الطريقة الشيخ أحمد بن محمد بن عجيل (توفي سنة 1074هـ/ 1664م).

عوامل
لقي شيوخ الصوفية حظوة وتشجيعا من حكام الدول التي حكمت المناطق التي كانوا فيها، كالدولة الرسولية والطاهرية؛ لما كان لهم من قاعدة جماهيرية كبيرة كانت تحشد إلى صف تلك الدول.

الآن
تتركز الصوفية اليوم في جنوب وشرق وغرب ووسط اليمن، في محافظة عدن وحضرموت وتهامة وإب وتعز والبيضاء.
وهي مدرستان: كلاسيكية، وحديثة.
تعد مدينة تريم قلب الصوفية في اليمن ووجهة السياحة الدينية الصوفية. وهناك مقبرة كبيرة بها سبع قباب، قبة للشيخ أبي بكر بن سالم الملقب بتاج الأكابر، وبقية الـقـباب لأولاده، وتعد مزارات مرغوبة للصوفين.
والتصوف اليمني اليوم في مركزه الأهم (حضرموت) تصوف تقليدي بنمط حديث.
المدرسة التقليدية لا تزال مرتبطة بنظام الطريقة، فهناك حرص على تسلسل الأسانيد أو إعادة نشر وتوزيع كتب المناقب والتراجم والكرامات، والمحافظة على الرسوم وطقوس الزيارات مع التعامل بحذر مع المستجدات المعاصرة.
ورباط تريم يعد مدرسة مركزية للصوفية في اليمن، يقع في قلب المدينة، وافتتح في 14 محرم 1305هـ وفيه طلاب من اليمن ومن إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والصومال وإثيوبيا ودول الخليج، بالإضافة إلى أربطة أخرى صغيرة يتم فيها إعطاء دروس في الفقه وإقامة الحضرات والموالد والحوليات والزيارات، مثل زيارة هود، وحول علي حبشي، وزيارة سلطانة الزبيدية، والشعبانية، والتعريف في التاسع من ذي الحجة. ويتم تجديد المساجد القديمة والزوايا وتنشيط أعمالها السابقة، وتجديد مدارس التحفيظ القديمة، كقبة أبي مريم، ومعلامة باغريب، والتقيد بالرسوم القديمة من حيث التلاوة واللبس.
ويشارك رموزها في الأفراح والولائم والمآتم وإظهار النمط القديم من حيث التصدر والشكليات (في الأعراس، والذكر الخاص في جنائز بعض الأسر)، ويجلون كتاب «التحفة». كما أن هناك مجلس للإفتاء، يتصدره بعض مشائخ الصوفية.

الأئمة
يقيم السيد محمد علي مرعي في تهامة، ويدير الكلية الشرعية في الحديدة. أما الحبيب عمر بن حفيظ فيشرف على دار المصطفى في تريم حضرموت. ويقيم السيد أبو بكر المشهور في عدن، وهو داعية ومتصوف شهير. أما سالم بن عبد الله الشاطري فقد توفي في 2018، وكان يشرف على أكبر الأربطة في تريم حضرموت، وكان يلقب بـ»سلطان العلماء». وكان السيد محمد الهدّار يدير أحد الأربطة التعليمية في محافظة البيضاء قبل وفاته ليخلفه ابنه المبارك الحسين.

المدرسة الحديثة
المدرسة الحديثة تمثلها فئة المتصوفة الشباب، ولهم ارتباط بالخارج، دراسة وفكرا ومنهجا. ومركزهم دار المصطفى للدراسات الإسلامية، التي يوجد بها كثير من الطلاب من جنسيات مختلفة من أنحاء العالم العربي والإسلامي والعالم بشكل عام.
ودار المصطفى تضم عددا من المدارس والأربطة التابعة لها، في الداخل والخارج، ولها فروع في إندونيسيا وشرق أفريقيا.
وفي مدينة تريم هناك أيضا دار الزهراء، الخاصة بالنساء.
هناك أيضا كلية الشريعة التابعة لجامعة الأحقاف، وتدرس العقائد الأشعرية. ويؤصل كثير من أساتذتها للقضايا العقدية الفكرية، مع التركيز على التأصيل المذهبي والرسوخ العلمي في العلوم الشرعية عامة، وتأصيل المسائل بطريقة فلسفية على طريقة المتكلمين خاصة.

أين تقف الصوفية اليوم؟
تقدم الصوفية في اليمن نفسها منهجاً وسطياً نشاطه الدعوة والتعليم والعبادة، وليس لها مشاركة في العمل السياسي.
رغم ذلك فقد تعرضوا لاعتداءات خلال فترة العدوان، كاغتيال العلامة عيدروس بن عبدالله بن سميط، إمام مسجد المحضار في مدينة تريم، وقيام تنظيم القاعدة بهدم عشرات الأضرحة والقباب لكبار مشايخ الصوفية في مدينة المكلا وعدد من مناطق ساحل حضرموت.
وكان رد المتصوفة على ذلك بيانات إدانة وتنديدا بتلك الأعمال العدائية.
وبالنسبة للموقف من العدوان فقد انقسمت الصوفية في جنوب اليمن إلى قسمين: قسم نأى بنفسه عن الأحداث واكتفى بالتصوف والعبادة وأعلن -على الأقل- أن العدوان على اليمن فتنة لا يجوز الانخراط فيها، كما أنه ضد دعاوى الانفصال، ويعدّ عمر بن حفيظ أحد أهم هؤلاء.
وقسم دخل معترك الحياة السياسية من بوابة التأثير الديني، ولا تخفى صلته بدولة الإمارات. ويعدّ الحبيب الجفري من أهم رموز هذا التيار الصوفي.
ووظفت الإمارات هذا القسم وجعلته يعمل في إطار المؤسسات الإماراتية، كأداة سياسية. وهي تحكم الخناق عليه، لأن السعودية تحرك متطرفي السلفيين وتنظيم القاعدة وداعش لمحاربة الصوفية في جنوب اليمن، من خلال فتاوى التبديع والتفسيق والتكفير والهجمات الإرهابية المباشرة، فتعيش الصوفية في الجنوب حالة من الخوف والاستغلال السياسي.
أما الصوفية في الشمال بكل مكوناتها فقد أعلنت موقفا واضحا في مناهضته للعدوان، وتلاحمت مع كل القوى الوطنية المناهضة للعدوان. ولقطع الطريق أمام أي توجه أو وحدة موقف صوفية ضد العدوان، ردت السعودية باغتيال عيدروس بن سميط كرسالة عبر داعش والقاعدة، كرسالة تحذير لكل الصوفيين، عقب لقائهم بالشهيد صالح الصماد رئيس المجلس السياسي حينها.