(الحلقة الثانية)

حاوره/ نشوان دماج  / مرافئ لا -

حذَّر الحمدي قبل 4 أشهر من اغتياله معنى ذلك أن علاقته بالحمدي كانت جيدة؟
كانت علاقة طيبة جداً. فبالإضافة إلى كونه شاعراً عمل بتكليف من الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، ضمن الفريق الاقتصادي، وذلك لصياغة وإعداد مشاريع وقوانين اقتصادية ورؤى مستقبلية، فكان أحد معاوني رجل الاقتصاد الكبير المرحوم محمد عبدالوهاب جباري. كما أن الوالد أحد مؤسسي الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وأحد واضعي بدايات السياسات الاستثمارية في الوطن في تلك الفترة، منها تخصيص منطقة ظهر حِمْيَر للاستثمار السياحي وعمل المنطقة الصناعية في شارع الزبيري، وإنشاء الشركة اليمنية الكويتية للتنمية العقارية، والعديد من المشاريع، في محاولة منه لتوظيف الأموال المقدمة من قبل دولة الكويت للتنمية الاقتصادية.
وبالرغم من علاقته الطيبة مع الحمدي، إلَّا أنه عندما كان يجد أن هناك فساداً أو انفلاتاً أمنياً أو اقتصاديا لا يمكن إلا أن يصدح بصوته الشعري ناقداً وناصحاً. كما أنه كان للوالد نظرة ثاقبة في بعض الأمور، واستقراء أحداث وتصرفات سياسية يرى فيها خطورة محدقة باليمن، على سبيل المثال قصيدتان حذر فيهما الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي من خطورة الوضع، إحداهما تلك التي نالت شهرة كبيرة، ونظمت قبل مقتل الحمدي بـ4 أشهر، وهي قصيدة «بين كماشة»، والتي يقول فيها: 
قل للأسد: أنت واقف بين كماشه
نخشى تكون الفريسه أنت والمقموشْ
وان كنت رابض لهم فاقفز بحمّاشه
ومن تعلّى رجم والواطي المفروشْ
هذه إشارة، وخذها راس فرتاشه
كما المغطى عليك اخطر من المفتوشْ
إلى أن يقول:
يد المخرب تساوي ألف رشّاشه
فاكسر أبوها، أنا افديك، لا تقع مرشوشْ
حشْوَشت نصحي بطيبة نفس حشواشه
فشم واطعم عسى تعجب بذا المحشوشْ
قد قالت امي بأنك بين كماشه
والقول ما قالت امي أنك المقموشْ

أنت القاتل يا غشمي 
  وعند مقتل الحمدي.. كيف كان رد فعل الوالد؟
أتذكر حينها، وعمري 11 سنة، أن الوالد كان منزعجاً بشكل كبير، بل إني لم أشاهده بتلك الصورة من قبل ولا من بعد. وروى لنا الوالد أنه عند تشييع الجثمان كان هناك هتافات تقول: أين القاتل يا غشمي؟ فحولها الوالد إلى: أنت القاتل يا غشمي.
كما أنه نظم قصيدتين بذلك الحدث المؤلم يتهم فيهما الغشمي بأنه القاتل، إحداهما نشرت والأخرى أسمعها للمقربين منه ولم ينشرها نصيحة منهم لما يتمتع به الغشمي من جرم، خصوصاً بعد تحذير الوالد للشهيد إبراهيم الحمدي بتلك القصيدة، وكذلك تركيز الغشمي على بيت الكبسي حينها لأن المرحوم حسين أحمد الكبسي هو أيضاً كان قد حذر الحمدي بأن الغشمي يتآمر على قتله. وعند تولي الأخير مقاليد الحكم فر حسين الكبسي إلى القاهرة. وكذلك قصة الشهيد زيد الكبسي التي يعرفها الجميع، والتي على إثرها تم حبس كل من اللواء حسين شرف الكبسي، أحد ضباط الثورة الأحرار، والأستاذ إسماعيل الكبسي الذي كان حينها وكيلاً لوزارة الإعلام، وذلك في سجن الأمن الوطني. وأتذكر أن الغشمي اتصل بوالدي ذات ليلة على إثر تلك الحادثة، قائلاً له: كيف حالك يا عبدالله هاشم؟ تعرف زيد الكبسي؟ فأجابه والدي ممازحاً: أنا عبدالله هاشم الغشمي! فاستدعاه إلى مقر القيادة في اليوم التالي في قصة يطول شرحها.

لم يكن متحزباً سوى للوطن
 هل كان الوالد منتمياً إلى حزب سياسي أو تيار معين؟
الحقيقة التي يعلمها الجميع هي أن الوالد كان حزبه الوطن، فلم يكن متحزباً ولا ينتمي لأي حزب أو تيار سياسي. ولم يعكس ذلك على المواقف التي سجلها ناقدا أو محذراً أو ناصحاً. فلو لاحظنا هناك شعراء وأدباء ومفكرون ارتبطت مواقفهم بأيديولوجيات أحزابهم ومبادئها، مقدمين مصلحة أحزابهم على مصلحة الوطن. فإذا كانت أحزابهم على خلاف مع القيادة السياسية فإنهم يهاجمونها وينتقدون أي قرار أو توجه يصدر عنها حتى لو كان في صالح الوطن. وهذه المواقف لن تجدها في حياة عبدالله هاشم الكبسي ولا في قصائده. قد تجده في أوقات يميل إلى موقف جهة أو حزب، فيحسب بأنه بعثي وهو ليس بعثياً، وبأنه ناصري وليس ناصرياً... وهكذا. فأي موقف يصدر من أية جهة ضد أمريكا والسعودية، كان الوالد يقف إلى جانب تلك الجهة. 
وأتذكر أنه عند قيام الحرب العراقية الإيرانية بداية الثمانينيات، نظم قصيدة يستغرب فيها من قيام صدام حسين بشن تلك الحرب التي اعتبرها عبثية، وأنها تنفيذ وخدمة لدول أخرى. هذه القصيدة انزعج منها كثيرون ممن كانوا ينتمون لحزب البعث من قيادات الدولة، ولاموه عليها. بل إن منهم من اتهمه بمناصرة الشيعة، وبتلك الأسطوانات المشروخة التي أنتجها العدو الإسرائيلي وأدواته الوهابية لإيهام الناس بأن العدو الأكبر ليس اليهود، بل إيران والشيعة.

تسنْحَن الحكم يا صنعاء
   نأتي إلى حقبة حكم علي عبدالله صالح.. كيف تعامل الشاعر معها؟
كانت حقبة حكم الرئيس علي عبدالله صالح هي الحقبة الأكثر معايشة من قبلي بحكم أني كنت حينها قد أصبحت شاباً وواعياً لما يحدث. وهناك قصائد كثيرة تناولت مجمل الأحداث، منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو إداري... الخ. كما أن هناك قصائد قدمها الوالد نصحاً أو إشادة بموقف وطني كالوحدة مثلاً، أو محذراً أو منتقداً، وقصائد تستند إلى برنامج عمل وخطة لو استمع إليها الرئيس صالح لحقق الكثير، ولجنب اليمن مشاكل كثيرة وانقسامات، وممارسات تستهدف شرخ النسيج الاجتماعي، ولما ظهرت النزعات المناطقية والتشطيرية أكثر في عهده. ونذكر مثلاً كيف أن الوالد في أول انتخابات محلية تطرق إلى الوهابية وسياستهم وتوغلهم في مفاصل الدولة، كقصيدة «جوازنا والتذكرة» التي يقول فيها:
والأمر ديمقراطيهْ
فينا ولا (ماركسيهْ)
بالحقّ لا (وهَّابيهْ)
ولا عقول متحجِّرهْ
والدّين ما هو في الدّقون
ولا بقلّاب العيون
ولا الصّياح في المكرفون
والبرصَصِهْ والخنزرهْ
وقصيدة أخرى بعنوان «طَحَّسْت زيد بن علي» ينتقده فيها مباشرة، وذلك عندما بدأت الدولة بمحاربة المذهب الزيدي، من خلال قيام أجهزتها بمهاجمة واقتحام مركز بدر، الذي كان يهتم بإحياء علوم المذهب والتراث الزيدي، واعتقال الشهيد المرحوم المرتضى المحطوري. حيث لاحظ الوالد في تلك الفترة وما قبلها أن هناك عملاً ممنهجاً كما أسلفت للقضاء على الشافعية والزيدية معاً بأساليب عدة، منها السيطرة على وزارة التربية والتعليم وإضفاء الثقافة الوهابية على المنهاج الدراسي، حيث كانت لجنة المناهج معظمها والمسيطر على قراراتها هم من أعضاء الإخوان وعملاء السعودية، وأيضاً معارض دور الكتب التي كانت تقام في اليمن ويمنع فيها عرض أي كتب عن الزيدية. 
كما أن هناك قصيدة نظمها الوالد في 1985، كما وجدتها مؤرشفة ضمن أوراقه، يتوجه فيها بنقد لاذع إلى شكل الحكم في عهد علي عبدالله صالح، يقول فيها:
تسنحن الحكم يا صنعاء فاحتسبي
هـــوية الحكــم سنحــانية النسبِ
الشكل والوصف والتشكيل مملكة
حمراء بانت بلون الاسم واللقبِ
فالجيش والأمن من سنحان قادته
موزعون على الترتيب لا الرتبِ 
إلى أن يقول:
ودور سنحان تسليم الديار إلى
أعدائنا بريال النفط والذهبِ
وفي تلك الفترة على ما أتذكر أتت اتصالات عديدة للوالد بعدة صيغ، منها صيغ الترجي والنصح، ومنها صيغ التهديد والوعيد، بألا يستمر في نشر تلك القصيدة، حيث من المعروف أنه كان يقوم بكتابة قصائده بخط يده وتصوير نسخ منها ثم يوزعها بيده في الجولات وللأصحاب والأصدقاء. فاستجاب والدي للإلحاح الشديد وتوقف عن نشرها.

تنبأ باحتراب طرفي الوحدة
 ماذا عن الوحدة؟
كان الوالد من أكثر الشعراء احتفاءً وتغنياً بالوحدة. وكان قبل تحقيقها لديه رؤية بأنها لا يمكن أن تتم إذا استمر الشطران بالعمل ضمن لجان، وأنه إذا كان هناك تصميم وإرادة فإن لقاءً واحداً بين زعيمي الشطرين يكفي لتحقيق ذلك الحلم. وفعلاً ذلك ما تم. ثم بعد تحقيقها والمرور بالمرحلة الانتقالية وحدوث الخلاف بين الحزبين الحاكمين، تقدم الوالد بعدة قصائد ناصحاً ومحذراً، مثلاً يقول في إحدى قصائده:
للمه لمه هذا الخلاف لما مه
بين العليين قامت القيامة
على المناصب أو على الزعامة
اتفقوا والا مع السلامة
ومثلما أنه كان من مؤيدي الوحدة والدستور، فإنه عارض في بعض قصائده عدداً من الأفكار التي كانت مطروحة في مسألة الوحدة، كالفيدرالية وغيرها. وفي قصيدة له بعد فشل لجنة الحوار التي شكلت لحل الخلاف بين الحزبين الحاكمين، تنبأ باحتراب الحزبين على السلطة وبمشروع تشطيري تقف وراءه بريطانيا وبتمويــــــــل خليجي. 

ظُلِم كثيراً من الدولة ومؤسساتها
  ماذا عن علاقته بالوسط الأدبي؟
كانت بالتأكيد علاقة متميزة حتى لو اختلف معهم. فالوالد لم يكن يعكس خلافه في العلاقة الشخصية، فمثلاً اختلف مع اتحاد الأدباء والكتاب نتيجة لتصرفاتهم، مما نتج عنه تجميد عضويته في الاتحاد ثم فصله، وليس ذلك بسبب إجراء قانوني أو بموجب لائحة الاتحاد ونظامه الأساسي، بل لأنه نظم قصيدة انتقد فيها ممارسات الاتحاد.
  لماذا لم نجد ديواناً للشاعر عبدالله هاشم الكبسي ضمن إصدارات وزارة الثقافة، كغيره من الشعراء والأدباء الذين صدرت دواوينهم وكتبهم ضمن إطار صنعاء عاصمة للثقافة في العام 2004؟
للأسف الشديد، هضم الوالد كثيراً من قبل الدولة ومؤسساتها المسؤولة عن الجانب الثقافي والإبداعي، ولم ينل حقه. بل لم يكرم طيلة حياته سوى بوسام واحد هو وسام الوحدة. وفي الوقت الذي تم فيه طبع مئات إن لم يكن آلاف الكتب لشعراء وأدباء اليمن، بمن فيهم شعراء وأدباء مغمورون، لم يتم على الإطلاق التعريج على اسم الوالد أو العرض عليه بنشر ديوان خاص به. وكأن الاهتمام كان حينها لتلك الفئات والأسماء الكثيرة المقربة كما يبدو.
  معنى ذلك أنه إلى الآن لا يوجد لديه أي ديوان شعري مطبوع؟
مثلما ترى نحن الآن بصدد ذلك، وبمجهود ذاتي بحت، حيث قمنا بجمع قصائد الوالد وطباعتها وصفها إلكترونياً في حياته. ومازلنا إلى الآن في حالة فرز لملفات الوالد وطباعة القصائد التي نجدها في طريقنا. وإلى أن نكون قد تمكنا من جمع وترتيب كافة قصائده، سنقوم إن شاء الله بإصدار مجموعته الشعرية في ديوان كبير.

«الربيع العربي» أجندة خارجية
 أستاذ أكرم لو أنهينا حديثنا بسؤال حول الأحداث الأخيرة التي شهدتها اليمن، وبالتحديد منذ عام 2011.. كيف كان تفاعل الشاعر عبدالله هاشم الكبسي معها؟
تستطيع القول بأنه على الرغم من تقدم الوالد في العمر، إلَّا أنه كان له مشاركة في هموم الشعب في تلك الفترة، سواء بقصائد أو مقالات أو مقابلات تلفزيونية. 
 وكيف كانت رؤيته لثورة فبراير؟
كما قلت لك، الوالد كان لديه موقف من جماعة الإخوان، فكان يرى في تلك الأحداث أنها ليست خالصة لوجه الله، وإنما هي تنفيذ لبرنامج معد مسبقاً من قبل أمريكا وإسرائيل بأياد خليجية سعودية وقطرية، لتنفيذ مشروع ما سمي «الربيع العربي» و»مشروع الشرق الأوسط الجديد». ولهذا كانت نظرته هي أن هذه الثورة لن تكون في خدمة اليمن، ولا نتائجها لصالح الوطن، لأن القائمين عليها، وعلى الرغم من دعواتهم وشعاراتهم، إلا أنهم في النهاية هم قادة الفساد وأسياده، وهم عملاء لأمريكا والسعودية وإسرائيل.
 وبالنسبة لما تلى ذلك من أحداث؟
بعد ذلك أتت أحداث فترة حكومة المبادرة الخليجية، والتي قال الوالد فيها رأيه وعبر عنها في قصائد معدودة، بأنها لم تكن شاملة ولا مزمنة حتى تخرج بحلول تلبي تطلعات الناس. غير أن الوالد، ونتيجة لكبر سنه وحالته الصحية التي أرهقته، لم يعد بوسعه حينها التفاعل مع ما يحدث. وعلى حد قوله وهو يعلن عن اختتام مشواره الطويل، فإن: المَشْعَرة (أي الشعر وتفاعله مع القضايا) قد أقفلت.