علي نعمان المقطري / لا ميديا -

كانت العنصرية الطائفية إنتاجاً تركياً بهدف تقسيم العرب والمسلمين وإضعاف وحدتهم، وهو أيضاً الهدف الصهيوني الصليبي الراهن، والسياسة والتكتيكات نفسها، رغم تقادم الزمن. ألا يعني هذا شيئا هاما؟ بل إنه يعني أن المشروع الشرير هو مشروع واحد مشترك عبر الأجيال والآجال.
إن المشكل الاجتماعي الذي مازالت تعاني منه بلاد العرب إلى اليوم هو مشكلة الطائفية والمذهبية والتباغض الديني والتعصب الفكري والديني والمناطقي والإقليمي. ويعيد المؤرخون والتاريخيون أصول هذا الإشكال إلى سياسات العثمانيين المقصودة التي هدفت إلى التقسيم والفرقة بين طوائف الشعب والأمة العربية التي لم تعرف من قبل مثل هذ التباعد والتباين والتعصب والاستغلال والتوظيف الأجنبي، ذلك أن العثمانيين أصدروا فرمانات تعزل كل ملة دينية ومذهبية في معازل جغرافية خاصة وفي كانتونات وتعرضها للتمييز والمعاملة حسب بعدها وقربها من مذهب الأستانة، وقد تم عزل كل فئة عن الأخريات في كل شيء يخص العبادة والمعيشة والحياة والثقافة.
وفي الشام ومصر واليمن والعراق وكل مكان حلت فيه العثمانية، حيث توجد أقليات أو جماعات مسيحية أو يهودية أو شيعية مسلمة وإسماعيلية أو دروز أو زيود أو مذاهب لا تتبع المذهب الرسمي للسلطنة العثمانية ولا تتقارب معه فإنها كانت معرضة للحرمان والإبعاد والعزل.
ويذكر المؤرخون أنه في اليمن مثلا منعت السلطنة العثمانية المسلمين الزيود والشوافع من الصلاة في مساجد مشتركة كما كانت عليه من تقارب وتواد وتراحم وتفاهمات، وحددت لكل فريق مسجده الخاص به، فلم يكن يروقها أن ترى وحدة اليمنيين رغم تنوع اجتهاداتهم ومدارسهم الفقهية وتكاملها دون تنافر أو تباغض. وقد تصرفت كما يتصرف أي استعمار شرير. وقد ورث عنها الاستعمار الغربي ما أسسته واستثمر فيه وواصل تطويره وتحسينه. إنها نخبة اختراق دائم مقتدر، فمن أين استمدت قوتها واستمراريتها؟ ومن أين أتت بتلك القوة؟
ذلك أمر سبق أن شرحناه بما يكفي للإلمام به من خلال مراجعة تاريخها وسياقها التطوري التاريخي. ويمكن القول إضافة إلى ما سبق أن تلك النخبة قد تكونت خلال السيطرة التركية العثمانية كجزء منها ومن بنيتها، وهي الطويلة المديدة التي استمرت لأربعة قرون متواصلة من السيطرة والاحتلال والتكبيل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الشمولي الذي قيد الأمة العربية ومنعها من مواصلة التقدم والنهوض الحضاري والتقني والعلمي، ولا ننسى حقائق ما كان يمارسه الباب العالي التركي.
لم يصل المستعمر الغربي والأجنبي إلى بلادنا اليمن ولم يسيطر عليها خلال معارك غزو حربية مباشرة إلا في الغزوة الأولى مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وكانت نتيجته انتكاسة هائلة نهاية القرن الأول من الاحتلال خلال الفترة 1537 ـ 1637م. 
وفي بلاد أخرى كانت القوى التابعة للعثمانيين مثل المماليك قد سبق أن سيطرت على البلاد العربية باسم الخلافة العباسية وبقاياها الرمزية خلال العصور الوسطى وأيام الأيوبيين والموصليين من أمراء وسلاطين العباسيين في أيامهم الأخيرة عشية الهجوم التتري المغولي والصليبي على بلاد العرب والمسلمين على تخوم القرن العاشر وحتى القرن الثاني عشر الميلاديين.
لقد أدى الانتصار التاريخي الكبير لجيش المماليك المسلمين والعرب في مصر والشام على قوات المغول وإفناء جيوشهم في موقعة "عين جالوت" الشهيرة على أرض الشام إلى تخليص العالم الإسلامي من أشد الأخطار التاريخية التي تعرض لها آنذاك. كما أسهمت في تخليص البشرية من جائحة متوحشة كادت أن تطبق على جناحي العالم القديم شرقا وغربا، لولا الدور التاريخي الذي أنجزته قوى العرب والمسلمين في مصر والشام والجزيرة العربية في موقعة "عين جالوت"، واجتثاث إمبراطورية المغول والتتار المتوحشة من جذورها، واحتواء بقاياها في إطار الدخول في الإسلام وإقامة إمارات إسلامية في البلاد التركية في مواجهة النفوذ البيزنطي الروماني في الغرب الذي جعل من القسطنطينية على مضيق البوسفور حاضرة غربية ضخمة تكون مركزا متقدما للمسيحية النصرانية الملكانية الإمبراطوية الإقطاعية المتدثرة بالدين المسيحي بعد أن حاربته لأربعة قرون متواصلة خلت، حتى انهارت أمامه روحيا بعد أن أدركت في عهد الإمبراطور قسطنطينوس أنها بحاجة إلى قوة دينية روحية سماوية تعيد توحيد العناصر المكونة للإمبراطورية الرومانية التي أكلتها الحروب الداخلية والثورات والنزاعات والفسق والفساد العام، فقرر اعتناق المسيحية وجعلها ديانة الدولة وأقام عاصمة جديدة لها في الشرق على مضيق البوسفور الفاصل بين قارتي آسيا وأوروبا سماها القسطنطينية.

تطلعات السيطرة على طرق التجارة العالمية القديمة
لقد أدى انهيار الإمبراطورية المغولية التترية القديمة إلى انبثاق الأمة التركية الجديدة التي خرجت من شرانق القبائل المغولية وعشائرها التي استقرت في السهول الغربية الآسيوية واعتنقت الإسلام كديانة لها وامتهنت الزراعة والصيد مستفيدة من البيئة النهرية الجديدة في آسيا الوسطى. وفي تلك البيئة الجديدة الخصبة استقرت الكثير من القبائل الغازية المحاربة وسيطرت على طريق الحرير الممتد من الشرق في الصين مرورا بالهند وفارس وأفغانستان وبلاد ما وراء النهرين فالقوقاز وروسيا حتى شمال أوروبا وجنوبها. وكان هذا الدور قد أفضى إلى ازدهار الحرف والمحاصيل النادرة والزراعة وتربية دودة القز المنتجة للحرير وتربية المواشي، وتعلق بها حماية طرق القوافل التي كانت تقطع الفيافي والسهول ليل نهار جيئة وذهابا بين الشرق وأوروبا، وتنافست القبائل والعشائر القاطنة في تأدية الدور التاريخي الحمائي الذي كان يؤمن الكثير من الفوائد والثروات ويعزز من مكانة الإمارات التي تنمو على جانبيه.
كانت الإمبراطورية البيزنطية المجاورة تطمح إلى تخليص طرق التجارة العالمية البرية من أيدي المسلمين بتحويله نحو المناطق البحرية التي تسيطر عليها عبر المتوسط من موقعها الحاكم على ضفاف البوسفور والدردنيل والجزر المتحمكة بالطريق البحري نحو الغرب الأوروبي، لكنها اصطدمت بالحضور الإسلامي الفتي على مشارف العالم الروماني الذي يحاول التوسع شرقا، ما أدى إلى إعاقة تقدمه.
كانت تلك الإمارات الإسلامية الحدودية تعتمد حينها على استمرار طرق التجارة البرية الكبرى، والحفاظ عليها وازدهارها، ولذلك استعر الصراع حول السيطرة على تلك الموارد والأسباب المؤدية إليها بين القوى المتماسة، وأدت الصدامات المتواصلة بين القوتين لإزاحة كل منهما الأخرى، وأدت إلى استنهاض القوى الكامنة في الجانب الإسلامي في أوساط تلك القوى والقبائل والعشائر التركية قوية المراس، وولدت في أتون هذ الصراع الطويل قوة ناهضة جديدة راحت تتطلع إلى دحر الإمبراطورية الرومانية الشرقية وإعادتها إلى حدودها الطبيعية غرب القارة الأوروبية التي تحركت منها بهدف السيطرة على مساحات شرقية جديدة. وقد استفاد الأتراك والمغول من خبراتهم الحربية السابقة وتراثهم العسكري العتيد وبنوا جيشا كبيرا ومقتدرا وتوسعوا في اتجاهات نحو الشرق والغرب حتى وصل الفتح المغولي الإسلامي جنوبا وشرقا إلى الهند الذي أدخل في الإسلام وإقامة إمارة إسلامية هندية شهيرة تبعت الإمارات والسلطنات المغولية التركية، وتمكنوا من إخضاع الإمارات المتفرقه لنفوذهم وتوحيد جهودهم الحربية لمواجهة التوسع الروماني المهدد للعالم الإسلامي الذي كان يمر آنذاك بمرحلة من التمزق والفرقة والنزاعات الداخلية والافتقار إلى الوحدة والإراده المشتركة، وخاصة بعد ما عاناه من الحروب الصليبية والمغولية والتتارية، وما عاناه من صراعات حول الخلافة الدينية العباسية التي تحولت إلى حالة صورية لا قيمة لها ولا أثر وبلا نفوذ وانتشرت الانقسامات والدويلات والصراع على السلطة بين الأمراء والمماليك الذين تولوا مصر والشام وأفريقيا والعراق والجزيرة العربية والأندلس، ونشأ جراء ذلك فراغ جيوسياسي في المجال العربي والإسلامي الكبير السابق، ونشأ توازن بين القوى والإمارات المفتتة القائمة لم يتمكن أي منها من إخضاع بقية القوى لإرادتها وتوحيدها في دولة مركزية واحدة تحت قيادتها تعيد للعالم العربي والإسلامي وهجه ووحدته وتألقه ودوره الحضاري وقوته في الدفاع عن مجالاته ومصالحه وأراضيه أمام تغول العالم الغربي وأطماعه الاستعمارية التي لا تنتهي ولا تتوقف.
كان العالم التركي المغولي الإسلامي المتكون حديثا ما زال يملك الفتوة والقوة والوحدة والجلد الحربي والطموح للسيادة والتوسع واستعادة الأراضي التي اغتصبتها الإمبراطورية الرومانية اللاتينية عبر القرون نتيجة هزيمة الفرس أمام الاسكندر الكبير منذ قرون طويلة وتوقف الفتح العربي الإسلامي غربا بعد نكسة العرب أمام أبواب باريس نهاية الدولة الأموية. ورغم الهزيمة العسكرية الكبرى التي تلقاها الرومان أمام الجيش العربي في اليرموك إلا أنها لم تحطم الإمبراطورية الرومانية التي تراجعت بعد هزيمتها إلى القاعدة الداخلية بسبب عدم مواصلة مطاردة قواتها المهزومة قبل إعادة تنظيمها وتجميعها مجددا، ومن هنا فقد أضحت الصدامات بين القوتين صراعا وجوديا حاسما في نتائجه.
وقد انتهت الصدامات والحروب بين الطرفين إلى توسع الإمارات الإسلامية التركية وتغلبها على الإمبراطورية البيزنطية الشرقية التي كان الضعف قد دب فيها والفساد والنزاعات الداخلية بين مركزها وأطرافها، وهبت الكثير من الشعوب الشرقية الواقعة تحت نيرها للتطلع إلى الاستقلا ل والانعتاق.
وقد تمكنت الإمارة والسلطنة التركية من إسقاط القسطنطينية والسيطرة عليها عام 1492 واتخاذها عاصمة لإمبراطورية جديدة إسلامية سميت باسم زعيمها المؤسس عثمان أرطغل ودعت لنفسها بالخلافة الإسلامية على العالم العربي الإسلامي كله وأقامت محل الأوضاع المجزأة السابقة سلطنة مركزية ضخمة تغطي العالم الإسلامي، كما أدى إلى خلخلة الإمارات الإسلامية المنفردة التي كانت قائمة في المجال السابق للدولة العباسية قبل سقوط عاصمتها بغداد تحت سنابك المغول، وأضحت أمام استحقاقات توحيدها تحت هيمنة المركز الإسلامي الجديد، وانفتحت أمام المسلمين الكثير من الآمال لمواصلة دورهم الحضاري وتوسيع مجال نفوذهم في العالم واستعادة المراكز الإسلامية التي سقطت من تحت أيديهم، وتعرض المسلمون فيها للإبعاد والطرد والتشريد والإفناء، ودمرت معالم الحضارة والتقدم التي أقاموها ورفعوا صروحها عاليا لتشع على العالم كله.