علي نعمان المقطري / لا ميديا -
المعدات والأسلحة والعدد ليست هي فقط ما يصنع النصر، وإنما المعنويات والأحقية في المظلومية والإيمان الراسخ بعدالة القضية التي يناضل المقاتل الوطني من أجلها ومن أجل انتصارها. وهنا تأتي نقطة الضعف الأساسية لدى الغازي الذي قد ينتصر بداية الحرب مؤقتا قبل استيقاظ القوى الوطنية المدافعة، لكنه يعجز عن الحفاظ على انتصاره إلى نهاية الحرب، لأن انتصاره الأول كان ناتجا عن ضعف القوى الوطنية المدافعة معنوياً ومادياً واختلال روحه أمام المفاجأة الصادمة غير المنتظرة.
عوامل الانتصار ذات طبيعتين متداخلتين: أولهما أنها موضوعية لا علاقة لها مباشرة بنوع القادة الأفراد الراهنين الذين يقودون الحرب، وهي تتجسد في توفر بنية سابقة للصمود الوطني في قلب المجتمع وعلاقاته الاجتماعية والسياسية. كما تتجسد ثانياً في توفر شعب وطني ثوري عبئ سلفا للصمود والدفاع عن الوطن، كما تتجسد في توفر إمكانات اقتصادية وموارد مادية وبشرية وعلمية كافية وقادرة حين حشدها أن توفر أسباب وعوامل الصمود والاستمرار والتطور في مواجهة إمكانات العدو المادية المتنامية، وإذا لم تكن هناك بنية للصمود ولا إمكانات في حدها الأدنى للصمود للطويل فقد تنهار مقاومة الشعب، أي شعب، رغم عدالة قضيته وروحه المعنوية العالية، فلا بد من التناسب والتوازن بين العوامل المادية والمعنوية وتحقيق مستوى من التكافؤ الضروري للقدرات الاستراتيجية الفاعلة وليست الكامنة فقط.
القرآن الكريم واضح في مطالبتنا بإعداد العدة للصمود والقوة لردع العدو والتفوق المادي والمعنوي عليه إن أمكن، ولا يشترط التفوق المادي العددي والتقني الهائل وإنما النسبي أو الحد الأدنى على الأقل على العدو.
بمعنى آخر إن الإعداد للحرب والمعركة لا يستلزم التساوي مع قدرات العدو كشرط لمواجهته بل يستلزم ما هو ضروري وأساسي والذي لا غنى عنه للقتال والكفاح الوطني. وفي هذه الحالة يمكن للقتال الوطني أن يطول بهدف استنزاف العدو وإنقاص قدراته المادية والعسكرية والبشرية حتى يصل إلى المرحلة التي يكون فيها عاجزا عن الحفاظ على تفوقه الكمي النوعي القديم، وذلك باستخدام مزايا الأرض والشعب والمعنويات التي تخلق معادلات موضوعية مكافئة لتفوقه، ومواصلة التطور بالتدريج وتجنب تطرفين هما: التطرف في الهجوم العام الحاسم قبل توفر شروطه الضرورية الدنيا، والتطرف، في التراخي عن الهجوم بعد توفر الشروط الضرورية الدنيا للتحول للهجوم.
كيف نقيس الموقف ومدى تحولاته لنحدد اتجاهنا الجديد في المعركة؟ يمكن ذلك من خلال دراستنا اليومية والعامة لمجريات الحرب ونتائجها وآثارها وتحولاتها على الطرفين، حيث تقدم تلك الملاحظات الحثيثة مؤشرات التقدم أو التراجع، كما يمكن عن طريقها جس نبض أوضاع العدو وحالاته ومتغيراته ونتائجها سلبا وإيجابا.
بنية الصمود السوفييتية خلال الحرب العظمى
لولا الصمود السوفييتي أمام الغزو الألماني الرهيب لما بقي في الأرض مكان للعيش بسلام، فقد كان الاتحاد السوفييتي المكان والبلد الوحيد الذي أوقف زحف النازية العالمية بخوضه الصراع الطويل في مواجهتها حتى أسقطها وهزمها واقتحم عليها عاصمتها ومراكزها واستأصلها من جذورها. وما كان ليتمكن من الانتصار لولا ميزته البنيوية الأساسية المتمثلة في تنظيمه الاجتماعي الجماعي التعاوني وسيطرة المجتمع ككل على الثروات الوطنية الكبرى، ما مكنه من تخطيط استغلال تلك الثروة الهائلة وتوجيهها نحو غرض واحد وهو التحرر الوطني وضبط استهلاك المجتمع للموارد وتوفير طاقاته للمستقبل وحشد قدراته الصناعية والإنتاجية والعملانية نحو تلبية احتياجات الصمود والحرب والنصر وصناعة الوسائل الحربية بكميات هائلة وبنوعيات أفضل وأقوى من العدو وبسرعات قياسية، وأيضاً الاعتماد الذاتي لكل لمتطلبات والتحديات للصمود، لذلك فالغزو قد شكل تحديا يمس مباشرة حقوق وحرية كل فرد في المجتمع المستهدف.
كما أن الاحتلال لم يجد من يتعاون معه من الطبقات المالية الكبرى، ومن قادتها وتجارها وأمرائها، لأن النظام الاجتماعي القومي الوطني التعاوني وسيطرة الدولة الوطنية على مراكز الاقتصاد العليا قد أزال مثل تلك الطبقات الرجعية القديمة التي راهن الغازي عليها في أوروبا الغربية وشرقها ووسطها وجنوبها وغيرها حيث كانت تجمعها بالغازي مصالح تجارية ومالية كبيرة جداً تجعلها ذليلة أمامه، أسيرة تلك المصالح.
كانت هذه المزايا البنيوية للصمود كامنة في طبيعة النظام الاجتماعي والاقتصادي والإداري والسياسي للدولة والمجتمع والجيش والمقاومة.
اختلاف قابليات الصمود البنيوية بين الشرق والغرب
صمود الشرق واختلافه عن تخاذل الغرب له خلفياته التاريخية التي سبقت القفزة الألمانية العسكرية العدوانية التي تواصلت طوال العقود الأولى من القرن الماضي.
فالنهضة العسكرية الهائلة التي تقف خلف القوة والقدرة الألمانية على الاحتلال والتوسع الامبريالي العالمي لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال صعود القيادة الهتلرية النازية وحدها، بل يجب البحث في طبيعة البنية التي جعلت كل تلك الاستراتيجيات التوسعية ممكنة، فقد كانت بنية ألمانيا مختلفة عن البنى الشائعة في الغرب آنذاك، وتكمن في روح النظام العسكري المركزي والهرمية الدقيقة المنتظمة والمنضبطة وروح التخطيط الشامل والوحدة والنهضة الصناعية والعلمية لبسمارك وهيجل وكلاوفيتش وخلفائهم، وعصرهم كان أساس النهضة والقوة الجرمانية المتواصلة وروح الجماعية القومية والإخلاص الوطني لألمانيا ورفعتها ومجدها والوعي القومي المتطرف.
كانت الأمة الألمانية منذ انحدرت عن القبائل الجرمانية العسكرية شديدة المراس، حيث استطاعت إسقاط الامبراطورية الرومانية القديمة في القرن الرابع الميلادي.
وقد احتفظت الأمة الألمانية بشعور الوحدة والتوق إلى استعادة القوة والسيادة القديمة، الأمراء والسادة الجرمان الذين استبدلوا النظام العبودي الروماني بنظامهم الإقطاعي القائم على السيادة للأمراء والنبلاء وزعماء القبائل، وقد حافظت النخب الجرمانية الحديثة على طبقة النبلاء، وتحركت خلفها خلال الحركات القومية، ولم تعرف ألمانيا ذلك النزاع البغيض بين الطبقة اليونكرية الإقطاعية النبيلة وبين القوى القومية التي عرفتها أوروبا الغربية الأخرى، كفرنسا مثلا والتي أدت النزاعات الطبقية فيها إلى تمزق نسيجها الاجتماعي، بينما عاشت الأمة الألمانية انسجاما وتكاملا بين شعبها ونخبتها النبيلة التي تنحدر من أرومة واحدة مشتركة عكس أغلب الأمم الأوروبية الغربية الأخرى التي كان فيها النبلاء ينحدرون من أرومة فاتحة مختلفة عن الشعب الأصلي، وكان الرومان ينتمون إلى القوميات اللاتينية، بينما كانت شعوب أوروبا الغربية تنتمي إلى شعوب مختلفة كالسلت والساكسون والاسكتلاند والوندال وغيرهم الذين عاشوا قرونا يعانون ضروبا من القهر والحرمان تحت حكم الفاتحين الرومان، بينما حافظ الألمان على علاقات تعاونية فيما بينهم رغم التباينات الطبقية النسبية التي تستند على علاقات القرابات العشائرية القبلية الواحدة الأصل التي حملته خلال هجرتها من وسط آسيا منذ 5 آلاف عام تقريبا.
كانت النخبة الألمانية الفلسفية مجسدة في أعظم فلاسفة العصر الحديث، وهو الفيلسوف هيجل، الذي كان يرى الدولة الألمانية القوية الموحدة نموذجا لتجسيد الفكرة الإلهية المطلقة، وكان ذلك تعبيرا عن أيديولوجية الطبقات البرجوازية الحديثة الألمانية التي كانت طريقا للنهضة الألمانية والحرية القومية، بينما كانت البرجوازية الثورية الفرنسية ترى أن الطريق للتحرر العام هو تصفية الاقطاعيين الفرنسيين ومعهم رجال الدين المسيحيين الذين يخدمون الملوك الجبابرة.
الفارق بين البرجوازيتين في البلدين هو الفارق بين أمة موحدة الأصول والمكونات التاريخية العشائرية، وأمة ممزقه تتكون خلال الصراع الطبقي العنيف ضد الغازي القديم الذي تسيد البلاد والعباد بعد احتلالها وتحويل الشعب الحر إلى مستعبدين وخدم للأرض التي لم يعودوا يملكونها بعد سيطرة الغزاة الرومان وبقية الغزاة على الأرض الوطنية للشعوب المقهورة والمستضعفة.
الخلفية التاريخية للصمود الروسي
إن الخلفية التاريخية للتطور الروسي شبيه إلى حد ما بالمثال الألماني السابق من حيث وحدته التاريخية القومية للروس والشعب والنخب النبيلة العليا التي ظلت على ارتباط بالشعب الروسي خلال فترة الاحتلال والسيطرة المغولية بعد احتلال دام قرونا طويلة، وكان للنبلاء القوميين الوطنيين الدور الحاسم في الثورة التحررية والاستقلال وقيادة الأمة نحو الانتفاض ضد الأجنبي وإعادة بناء النهضة الروسية على أساس القبائل السلافية الأصل وعلى أساس الكنيسة الأرثوذكسية المسيحية الشرقية والتقاليد السلافية الخيرية الإيجابية من التعاون والأخوة والأسرة والتراحم. وكانت روسيا خلال تطورها الحديث بعد الاستقلال قد حافظت على تقاليد تعاونية عشائرية قوية سميت المشاعة الروسية القديمة الموروثة عن القبائل القديمة أو المير، ولم يكن للغرب وشعوبه مثل هذا المسار التعاوني العشائري وتقاليده الأخلاقية والأخوية.
ورغم التطورات العاصفة التي شهدتها روسيا منذ مطلع القرن العشرين وحتى العقود الأخيرة من القرن الماضي إلا أنها حافظت على أصولها الأخلاقية والروحية والدينية رغم التغيرات العلمانية والعلمية، ورغم التطورات المتطرفة أحيانا فقد ظلت الدولة الروسية دولة وطنية قومية في جوهرها، حتى وإن ظهرت السياسات الطبقية الثورية مؤقتا خلال الثورات والتدخل الأجنبي، إلا أن روسيا سرعان ما عادت إلى توجهها الوطني التعاوني الأخوي الأصيل.
المصدر علي نعمان المقطري / لا ميديا