الاستحمار الديني
(الماهية، النشأة، الأسلوب)
الاستحمار نوعان: استحمار قديم واستحمار حديث؛ كالاستعمار تماماً، فمنه قديم ومنه حديث. والاستحمار -كما ذكرنا- دافع لانحراف، أو طلسمة الذهن وإلهائه عن "الدراية الإنسانية" و"الدراية الاجتماعية"، وإشغاله بكل حق أو باطل، مقدس أو غير مقدس. هذا تعريف جامع للاستحمار. إلا أن هناك "استحماراً قديماً" و"استحماراً حديثاً".
كان الدين دافعاً قوياً للاستحمار القديم، بينما الدافع للاستحمار الحديث هو كل تشاجر وتحارب إيهامي زائف. أما أسماء الوسائل والأدوات التي تستخدم في هذا المجال فهي كما يلي:
في "الاستحمار القديم" يُستفاد من: الزهد، الأخلاق، التصوف، الشعر، القومية، تعظيم وتجليل الماضي، الفلسفة، الشكر، الثواب، الشفاعة، والوصول الفردي إلى الجنة ودخولها... وفي "الاستحمار الحديث" يستفاد من: التخصص، التحقيق، العلم، القدرة، التقدم، الحرية الفردية، الحرية الجنسية، حرية المرأة، التقليد والاتباع...

الدين الاستحماري
بعد انقضاء فترة الأنبياء العظام الذين بلّغوا الدين واضحاً وصادقاً في ذروة الحقيقة، وقع مصير الدين في أيدي قوى استحمارية عدوة للإنسانية، تتسمى بأسماء كالطبقة "الروحانية"، والطبقة "المعنوية"، والطبقة "الصوفية"، وطبقة "الرهبان"، وطبقة "القسيسين"... فاتخذوا من الدين وسيلة لاستحمار الناس، استحمارا فرديا واجتماعيا؛ لأن الدين يعتني ويهتم بكليهما، وبالأخص الإسلام الحنيف، الذي يشمل "الدراية الإنسانية" و"الدراية الاجتماعية" و"الدراية الفردية". وكلامي هنا يدور حول الدين الاستحماري، الدين المضلّل، الدين الحاكم، شريك المال والقوة، الدين الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات للدين، لديهم إجازات للاكتساب فيها علامات خاصة تتنبأ باحتفاظهم بالدين، وأنهم من الدعاة ولكنهم من شركاء أصحاب المال والقوة. كلامي يدور عن هذا الدين. كيف يسخر الناس كالحمير، أي يستحمرهم؟ وما الذي جعله أكبر وأقوى مستحمر في المجتمعات القديمة؟ ماذا يفعل هذا الدين بالإنسان فيستحمره؟
ليس باستطاعة الدين أن يسلب مني "نباهتي الفردية" ولا مسؤوليتي بالنسبة إلى مصيري ومصير مجتمعي. إذن ماذا يعمل حتى يصير مُسْتَحْمِراً؟ قد يكون عمله أمراً واحداً، هو نقل الإنسان بالنسبة إلى الظروف والزمان! أي يقول لك:
دع الدنيا فإن عاقبتها الموت، ادّخر كل هذه الحاجات والمشاعر والأمنيات إلى الآخرة، إلى ما بعد الموت، ليس الفاصل الزمني بكثير، ثلاثون أو أربعون أو خمسون سنة لا قيمة لها، بعدها كل شيء تحت طوعك، وتكون من أولئك الذين هم فيها خالدون، إنها سنوات العمر القصير لا قيمة لها، دع الدنيا لأهلها (ويقصد بـ"أهلها" نفسه وشريكيه الأخيرين)...
ذاك الدين يسلبني مسؤولياتي تجاه مجتمعي بطريقتين:
الأولى: يأخذ مني إمكانياتي ومواهبي التي أمتلكها، ويحرمني منها، وعليَّ أن أستعيدها من أجل كوني "إنساناً"، ومن أجل "درايتي الإنسانية"، كما ينبغي عليَّ أن أرفض الظلم من أجل الحاجة إلى العدالة. أما دين الاستحمار فيدعوني إلى تمكين الظلم والفقر والسكون والصبر، ويكلني إلى الغيب، ويزيح عني كل مسؤولية!
الثانية: حين أرى نفسي مقصراً، خائناً، مسيئاً إلى المجتمع ومصيره، أقع تحت ضغط مسؤولية ضميري، فتجرُّني "الدراية الاجتماعية" إلى أن أرجع حقوق الناس إليهم، وأستسمحهم فيما فرَّطت في جانبهم. لكن الدين الاستحماري المنحرف يموه عليّ ويقول لي:
"صحيح أنك خنت وبعت مصير الناس للآخرين، إلا أنك لا تستطيع أن تعيد لهم حقوقهم، وهناك طريق أسهل، هو أن تقرأ هذه الكلمات ست مرات وأنت متجه نحو القبلة، فلن يبقى عليك شيء، وستُغفر ذنوبك كلها، لأنك حينها ستنال الشفاعة، العفو، الرحمة، وأن الله (رب هذا الدين) سيغفر لك جميع السيئات، والقبائح، والمنكرات بسهولة، وسيمحو ذنوبك ولو كانت عدد رمال الوديان ونجوم السماوات، بنفخة واحدة"!
ثم تتساءل: إذن لماذا أتحمل ثقل المسؤولية الاجتماعية؟ لماذا؟ إذا كانت مسؤوليتي نحو الناس وحياتهم الاجتماعية تلزمني أن أموت من أجلهم، وأُضحي بنفسي في سبيلهم، فهناك طريق أسهل! هو "كتاب الأدعية"، فإنه يفتح لي أبواب الجنان من غير تعب ولا نصب ولا مشقة ولا تشويش، وبدون "شعور" أو فكر، وبدون أي مسؤولية! يكفي أن تدخل السرور في قلب أحد، أو تقضي حاجة أحد، فإنه سيمحو كل ذنوبك، ويبدل سيئاتك حسنات، ويقضي عنك كل المسؤوليات الاجتماعية!...
هذا هو الدين المُسْتَحْمِر.
ثم نرى الدين المُسْتَحْمِر يرجئ استيفاء حقي وأخذه ممن ظلمني إلى ما بعد الموت. هذا بالنسبة لي وأنا مظلوم. أما عندما أكون ظالماً فإنه يعلمني ألا أسترضي المظلوم على ما فرطت في جانبه، بل ينبغي عليّ أن أطلب "رضا ولاة الله والدين"! فيُصدّق لي أولئك الولاة بالنيابة عن جميع المظلومين، وحتى عن الله، على جواز دخولي الجنة...!
ومن هنا فإن دين الانحراف يستحمر الطرفين: الظالم والمظلوم، ويحول كل القضايا إلى مسائل ذهنية، ويتكفل برفع كل المسؤوليات الاجتماعية بسهولة وبمكر خاص، لا يعرفه سوى ولاة الله الرسميين والوسائط الرسمية المدربة على كاهل صالح وغير صالح!

الزهد
الزهد أيضاً نوع من الاستحمار؛ لأنه يأمر الإنسان أن يتخلى عن حقوقه الاجتماعية، ويترك حاجاته الطبيعية، ويقطع حبل الأمل منها جميعاً، وأن يبقى مرتبطاً بحاجات بسيطة جداً، لا تتجاوز حاجات الحيوان. وكذلك أيضاً يسلب الدراية الذاتية، ويمسخ حق الفرد في أن يتمتع كإنسان بجميع المواهب والنعم التي خلقت له في الدنيا، وليس لأحد أن يمنعه من التمتع بها، ويقدم حيلة للانزواء والقناعة بلوزة عن الطعام، فترى الزاهد يَمُنَّ على الله بهذه الحماقة التي ارتكبها، ويدعو الناس جميعاً إلى ترك حقوقهم، والتخلص من حطام الدنيا لصالح أعدائهم، أهل المطامع والأغراض.

الشعر
لاحظوا نموذجاً من الشعر، لدينا كتاب يعود تاريخه إلى سنة 618 هجرية، وهي السنة التي دخل فيها المغول إيران، وخربوا "بَلَخ"()، ونهبوا كل الشمال، وتركوا إيران تسبح في لجة من الدماء. يقول صاحب الكاتب: "أنا هارب وفارّ. نحن كلنا في حالة هرب، لأن المغول جاؤوا إلينا... إنهم آتون، وها نحن نفرّ طلباً للنجاة!". في تلك الظروف، وفي تلك الحال، كان المؤلف ينظم الشعر في كتابه! ما هو الكتاب؟! الحقيقة إلى كم يرتفع الصلف؟! وإلى أي حد يصل الاطمئنان؟! ينظم قصيدة فيها مائة بيت، يرتب الكلمات والعبارات في الأبيات على نهج إذا قرأت به القصيدة بطريقة معينة تكون قصيدة في مدح الخان، وإذا قرأتها بطريقة أخرى وجدتها غزل ووصف لشخص آخر. هذا النوع من النظم يسمى "صنة المطيّر" مأخوذ من الطير. وإذا قرأت على شكل الشجرة، أي إذا وضعت الكلمات مكان الغصون والأوراق والثمر، يكون شعراً من نوع الرباعي في وصف مولى. ويقال لهذه الصنعة صنعة التشجير، مأخوذ من الشجرة. وإذا رتبت كلماتها على شكل بقرة أو حمار ثم قرأتها، تجدها مدحاً للخاقان!...
احسبوا كم يحتاج الإنسان من الزمان ليدخل سبع أو ثماني قصائد ومنظومات ورباعيات بعضها ببعض، ليخرج للناس أعمالاً مختلفة من هذا النوع! أمر يحتاج إلى مزيد من الفطنة والدهاء، ليكون الشاعر قادراً على نظم قصيدة تقع الكلمة الثانية من البيت الأول فيها، موقع الكلمة الثانية والعشرين من منظومة غزلية، وتقع الكلمة الحادية عشرة من المصراع السابع مبدأ شعر رباعي، والكلمة الثالثة من المصراع السابع شعرا حماسيا (هذا إلى جانب الوزن الخاص والمضمون الخاص لكل نوع من تلك المنظومات). لا بأس، ما هي الفائدة من هذا العمل؟! فبينما كان جنكيز يجول البلاد طولاً وعرضاً، يقتل وينهب ويحرق، كان هذا الشاعر يفر على وجهه طالباً النجاة، ويقوم بعمله هذا في حالة فراره. أنظر كيف يُمسخ الإنسان! إنه ضحية الاستحمار.
كان في طهران شاعر فصيح ينظم باللغة العربية أيضاً، إلا أنه لا قدرة له على نظم الشعر القومي والحماسي، أو يستخدم الصنائع البديعية. وكان رئيسا لمكتب الإسناد والزواج والطلاق. حاول أن ينظم شعراً في موضوع ما فلم يجده، فجمع كل المطالب الخطية التي وزعتها دائرة تسجيل الإسناد العامة على مكاتبها الرسمية من سنة 1320 إلى سنة 1327 فنظمها شعراً عربياً! متى؟ في السنوات بين 1320 و1327، في الفترة التي كانت إيران تعاني فيها احتلالا من أربعة جيوش أجنبية! إنه مصاب بداء الشعر! انظروا إلى الفترة الزمنية بين سنة 1320 إلى 1327، تجدون مصير إيران وحاكميتها ووجودها وحروبها الداخلية والخارجية، والأطراف المتنازعة فيها، من أهم الأحداث، بينما يمضي هذا الأديب ليخرج إلى مجتمعه ذاك العمل الذي يظهر فيه أثر الفن والروعة!! هذا هو الاستحمار بواسطة الشعر!

القومية
كان الألماني البائس في زمان هتلر يَعضُّ على قطعة سندويتش وهو يقول وملؤه التباهي والغرور: أنا عازم على الحرب! ولكن لماذا تحارب؟ لأن هناك في أمريكا خمسة ملايين من الشعب الألماني أريد أن أعيدهم إلى ألمانيا كي لا يتلوث أصلهم فيمتزج بسائر القوميات!
ما أسخفه! إنه يموت جوعاً وبؤساً وفاقة، ولا يشعر بذلك، ولا يدرك مدى تأثير الدعاية المزيفة عليه. ثم يريد أن يخرج خمسة ملايين نسمة من شعبه، يخرجهم من أمريكا، ويعود بهم إلى ألمانيا كيلا يختلط جنسهم بالعروق الأخرى فيتلوث! جيد، لا عمل له غير هذا. لقد تغلغل الاستحمار في قلبه!

الفخر والاعتزاز بالماضي
كان إيراني ومصري يتحادثان ويفخران بماضيهما كثيراً. يعتز المصريون ويفخرون بالأهرام وقبور الفراعنة، ويخرجون جثماناً دفن قبل خمسة آلاف سنة من قبره ويأتون به إلى الساحة "نموذجاً"، ولم يعوا أن أي جرثومة قذرة كان هذا المرحوم في حياته، حتى تكون ميتته "نموذجا". يخاطب المصري زميله الإيراني قائلاً: عُثر في أهرامنا على بكرة وأسلاك وخيوط، فاتضح بعدها أنه كان لدينا آنذاك أجهزة اتصال سلكي!
رد عليه زميله الإيراني: نحن في إيران كلما تحققنا وفتشنا في آثار تخت جمشيد، لم نعثر على أثر بكرة أو أسلاك أو خيوط، ومن هنا يتضح أنه كلن لدينا آنذاك أجهزة اتصال لا سلكي!...
فرحون بهذه الأشياء! تباهينا وفخرنا بقضايانا القومية البائدة، بينما يوجد آلاف النوابغ والأسناد التاريخية والعلمية في الحضارة الإسلامية يعرفها العالم كله. وفي زماننا هذا أيضا، وحتى في هذه الظروف، هناك نوابغ تدل على مواهب وملكات الإيراني بين الشعوب الأخرى... ومع ذلك نتجاوزهم.
إن هذا الاعتزاز بالماضي، واللجوء إلى القضاء والقدر، والشفاعة والثواب والشكر، والتشويش والاضطراب من الذنب وطلب الفوز الفردي بالجنة... كلها من أدوات الاستعمار القديم. فليس للإنسان إلا أن يتابع أعماله منفرداً ويدخل الجنة وحده! يقرأ الأوراد ثم الجنة! حسنٌ، لكن ماذا عن الناس؟ ينقطع عنهم؟!
وجد طريقه في كتب الأدعية! كل من يعمل هذه الأعمال يدخل الجنة! أي أن طريق النجاة فردي لدخول الجنة!... وهذا أكبر استحمار! وأكبر مصيبة تصيب المجتمعات الدينية، وهي أن تقع في الاستحمار عن طريق الأديان المحرفة.