وخلال وجودي في صنعاء برزت مخايل النجابة والجد والاجتهاد لدى ولدي حسين، كان متفوقاً في الدراسة، فاتصلت بابن أخي البدر محمد بن الإمام أحمد، واقترحت عليه أن ينظر في إمكانية ضمه إلى البعثة الطلابية المرسلة إلى العراق للدراسة في معاهدها، وبعد المقابلات والإجراءات المتبعة آنذاك، التحق كعضو في بعثة اليمن الطلابية في العراق.

أحداث جسام وأهوال عظام
كان الإمام أحمد قد عانى في السنوات الأخيرة من حياته من مرض ألزمه الفراش مدة، وعاد من رحلة علاجه في إيطاليا إلى قصره في تعز، وذات ليلة من النصف الأول من شهر ربيع الثاني 1382هـ/ سبتمبر 1962م، وصل إلى منزلي أخي علي، ونعى إلي الإمام أحمد، وأظن أن وفاة أخي كانت في اليوم العاشر من ربيع الثاني الموافق العاشر من سبتمبر، ولم يعلن النبأ إلا يوم 18 ربيع الثاني، وحمل جثمان الإمام إلى صنعاء، ودفن جوار مسجده الذي بناه ببئر العزب، بموكب جنائزي مهيب، وفي اليوم التالي بويع محمد البدر ابن الإمام أحمد إماماً لليمن. أما أنا فقد أثقلني عظيم المصيبة بوفاة الإمام أحمد، فهو الفارس الشجاع المهيب والكريم الجواد والشاعر الفذ، وباتت الأحزان تحاصرني مرة أخرى، وداهمت فكري تنبؤات أخي علي، رحمه الله، وما خفف من هول مصيبتي وأحزاني إلا نداء التجمل بزمام الصبر، وتذكرت تلك القصيدة الرائعة التي شطرها أخي أحمد، أراك عصي الدمع للفارس الشجاع أبي فراس الحمداني، ومنها:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم 
وداهمهم خطب وأوعزهم صبرُ
وتعلم أني بدر كل دجنة 
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به 
على أن غيري لا يسد به ثغرُ
ورب فتى لا يعدل الناس قدره 
وما كان يغلو التبر لو نفع الصفرُ
وإنا أناس لا توسط بيننا 
لنا الصدر دون العالمين أو القبرُ
تهون علينا في المعالي نفوسنا 
إذا ظن بالأموال في نيلها الغُمرُ
فمن رام كسب المال جاد بنفسه
ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهرُ
أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا 
لنا الطي في ظهر البسيطة والنشرُ
وأعظم من في الأرض ملكاً وبسطة 
وأكرم من فوق التراب ولا فخرُ
وكنت أحسب أن الأيام القادمة ربما تخيب ما كنت أتوقعه أنا وأخي علي، فقد أبدى الإمام البدر نية صادقة في النهوض باليمن، وأعلن العديد من الخطوات الإصلاحية الجديدة، فألغى نظام الرهائن، ووعد بمجلس للشورى ينتخب نصفهم، وأطلق العديد من السجناء، وقد مد يد الصداقة إلى العديد من الدول، ومع أن للإمام البدر صلات قوية مع القيادة المصرية، وعلى الأخص بالرئيس جمال عبد الناصر الذي أرسل له برقية بعد أربعة أيام من دفن الإمام أحمد معزياً له بوفاة والده، ومهنئاً له مبايعته بالإمامة، كما بعث أخي المولى الحسن برقية تأييد وولاء للإمام الجديد.
ولاحت أمام ناظري فترة قادمة من البناء والتقدم والسلام.
وبمناسبة ذكري للرئيس جمال عبد الناصر، كان أخي علي، رحمه الله، من المحبين للرئيس جمال عبد الناصر، وقد رفع برقية إلى رئيس الجمهورية المصرية جمال عبد الناصر، في 12 جمادى الآخرة 1376هــ/ ديسمبر 1957م، بمناسبة انتصار بور سعيد، جاء فيها:
إلى الصحف الغراء من أرض يعرب
أقدم تسليم الهنا والتعزز
هنيئاً بني الإسلام إن كان منكمُ
رجالاً تواخوا دون أي تعزز
فيا رب يا رحمن يا سامع الندا
أجب دعوة أكرم بها ثم أعزز
فما شئته لا بد أن سيكونه
أليست صفات الله منا بمعجز
جمال هنيئاً لا لوحدك إنما
لأمة الضاد دون تمركز
سيرفعك الباري بقدر الذي به
تسير على هدى فدونك أوخز
وتلقى أخي علي جواباً برقية من الرئيس جمال عبد الناصر:
رئاسة الجمهورية
17/23
صاحب السمو الملكي سيف الإسلام علي: تعز
أشكركم خالص الشكر على تمنياتكم الرقيقة ومشاعركم الكريمة، وإني أبعث إليكم بأطيب تمنيات الصحة والسعادة.
جمال عبد الناصر.
واتصل الإمام البدر بزوجي، وأمره بالتوجه إلى مع عمران ليباشر وظيفته هناك، وغص قلبي من القرار المفاجئ، فإن الأسرة محتاجون إليه جداً، فهو يرعانا ويعوض أحفادي رحيل والدهم، ولكن رب ضارة نافعة، ولله في خلقه شؤون، ففي ليلة 26/27 سبتمبر 1962م/28 ربيع الثاني 1382هــــ، وفي حوالي الساعة الخامسة من صباح تلك الليلة سمعت دوي المدافع في مكان قريب، ونهضت من نومي مذعورة لأستطلع ماذا يجري، وفي أية جهة، ومن أين، وسمعت دوي انفجارات عنيفة من مدفعية الدبابات، ثم زخات من طلقات رشاشات، واستمر إطلاق النيران بقوة على فترات متقطعة، ونزلت مسرعة لغرفة ابننا محمد، وطلعنا إلى سطوح منزلنا، فلم نتيقن شيئاً، سوى أنه لربما أحداث وقعت، ولما عدنا من حيث أتينا وجدنا أن الكهرباء قد قطعت، والتلفون معطل. أنزلت أولادي وأحفادي إلى الطابق الأرضي، وعلى نور الشموع باتوا ليلتهم.
أما أنا فما عرف النوم طريقه إلى أجفاني، ولا اكتحلت عيوني بغفوة، بل كنت مصوبة نظري باتجاه أولادي وأحفادي، حيث لا أدري أين سينتهي بهم المطاف، وكنت بانتظار انبلاج الفجر، لعلي أعرف ما هنالك، ولجأت إلى مصحفي، وقرأت ما تيسر من آياته التي هدأت من روعي وشدت من عزيمتي.
وفي الصباح قلت للولد محمد: اذهب وتفقد إخوتك ووالدتك (ضرتي)، وأدرت مفتاح الراديو لمعرفة ما عساه أن يكون، فسمعت مذيعاً يقرأ بحماسة مقاطع كنت قد تعودت عليها من إذاعة صوت العرب في القاهرة:
ارفع رأسك يا أخي, فقد مضى عهد الاستبداد.
ارفع رأسك يا أخي, فقد مضى عهد الانكماش.
ارفع رأسك يا أخي, فقد مضى عهد الذل والعبودية... الخ.
ونداءات للجيش وموسيقى عسكرية وبلاغات. 
وسمعت يا هول ما سمعت: لقد تم تنفيذ حكم الإعدام بأخي إسماعيل بن الإمام يحيى، ثم لقد تم إعدام أخي علي بن الإمام يحيى، ثم أعدم ابنه الحسن بن علي، ثم لقد تم تنفيذ حكم الإعدام بالسيد يحيى بن علي الشهاري، رئيس محكمة الاستئناف، ثم لقد تم تنفيذ حكم الإعدام... الخ.
فقد أعدم العشرات في اليوم الأول كوجبة سريعة، وما بين الإعدام والإعلام دقائق معدودة، ما أسرع المحاكمات، جلسات المحكمة كلمح البرق، وأعدم من العلماء والفقهاء والأعيان العديد العديد... وممن أعدم التالية أسماؤهم: السيد حمود بن عبد الملك, عبد الله عبد الكريم , حمود الوشلي, أحمد بن عبد الرحمن الشامي, محمد بن أحمد الوزير (القوميسيون), محمد الكبسي, عبد الرحمن عبد الصمد أبو طالب, الشيخ عاطف المصلي (كبير همدان), القاضي محمد عامر, عبد الرحمن السياغي, يحيى عبد القادر, حسين الويسي, أحمد ناجي (ضابط المقام), يحيى حسين المنصور, حسن بن إبراهيم, محمد علي زبارة, محمد ساري, محمد الغيل, ومن آل أحمد بن قاسم حميد الدين قتلوا عبد الرحمن بن أحمد بن قاسم حميد الدين, أحمد محمد حميد الدين أحمد بن حسين حميد الدين, وغيرهم ممن غابت عني أسماؤهم, ولما نادوا بخروج واحد إلى الميدان لقتله كان الغلط بواحد آخر، فقالوا: ليس هذا، فأجاب آخر: (يا الله قد اسمه خرج) يعني ماشي الحال ما تهم الغلطة، اقتلوه.
عرفت أنه نودي على أخي إسماعيل، راعي الأيتام، من سجنه، واقتيد إلى الساحة، وعذب ثم قتل صبراً في الساحة، رحمه الله شهيداً, ثم نودي على أخي علي وأطلق الرصاص عليه، أما ابنه الحسن صاحب السيرة العطرة فقد عذب بتدرج ثم أطلق الرصاص عليه، بدأ الإطلاق من أسفل رجليه صعوداً إلى رأسه ببطء وتأن، كنوع من التعذيب بسبب حقد دفين، وتصفية حسابات شخصية.
وكان حزني على العلامة الشهيد القاضي يحيى بن علي الشهاري يعادل أحزاني على إعدام إخواني، فإعدام رئيس محكمة الاستئناف يعني إعداماً للعدالة، أدركت عندها أن العدالة باتت شيئاً من الماضي، وأننا بانتظار مرحلة من الظلم والاستبداد والاضطهاد، اللهم الطف بعبادك يا رب العالمين.
وأدركت أن هناك تمرداً، وأنهم قصفوا قصر البشائر، مقر الإمام البدر، بمدافع الدبابات، وسيطروا على الإذاعة ومخازن قصر السلاح.
عاصفة جديدة هبت علينا، ولكنها هذه المرة مُحكمة، فالأصابع المصرية ظاهرة للعيان، وعاد الولد محمد بعد استطلاعه، وعند باب منزلنا منع من الدخول، فقد أحاطت بمنزلنا عساكر من كل ناحية، ومصفحة بمدفع رابض فوقها على مقربة من باب دارنا، ومنع الوصول إلينا ولا حتى خروج أحدنا، وسألناهم: لماذا تحاصرون منزلنا.
تقدم ضابط متحمس وقال: إن أولاد إخوتك مختفون عندكم، وهم مطلوبون، فأبلغتهم: ليس عندنا أحد، ومنعناهم من دخول البيت.
يتبع العدد القادم