بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا وحدوث الاستقرار النسبي، استغل (هتلر) فن الترويج للحرب بتعبئته الجماهير من ورائها عبر الدعاية للحرب بالفنون، فصور ما عُرف باسم (شباب هتلر)، وأعاد إنتاجها بصورةٍ آليةٍ مصغرةٍ، وبثها بشكل مستمر. ونسخ الملصقات والدعاية والأعلام النازية، وصولاً منه إلى تسييس الموسيقى، وإنتاج المزيد من الأغاني القومية، والتأثير في ثقافة المجتمع، ما أدى في النهاية إلى حشد الملايين وراء هتلر للحرب العالمية الثانية، وهو ما سماه والتر بنيامين (تجميل النازية للأيديولوجية السياسية)، أي أن الفن لم يُسيّس بقدر ما جُملت السياسة بالفن.. اليوم في دول الخليج لم تؤثر الحرب الإعلامية والاقتصادية الخانقة التي فرضتها دول التحالف الخليجي على دولة قطر، بقدر ما أثرت حرب الأغاني المسيّسة والوثائقيات الفاضحة بين تلك الدويلات المفرقعة على ضفاف الخليج العربي.
بعد الصعود الفني والإعلامي والتطور الكبير الذي شهدته الأغنية الخليجية والأفلام الوثائقية على مدى السنوات الأخيرة، بواسطة أساتذة الطرب الخليجي الذين حظوا بزخم جماهيري تجاوز حدود الجزيرة وهم يترنحون بأصواتهم متنقلين بين العواصم والمدن في كل دولة، وخالعين عن شخصياتهم لباس السياسة، ولابسين وشاح العروبة، وما حققته قنوات الوثائقيات في تزييف الحقائق بطريقة وثائقية استقصائية فريدة، خصوصاً قناة (الجزيرة) التي اشتغلت بشكلٍ حريف لخدمة السعودية خاصةً ودول المنطقة عامة، ومحاولة تلفيق قضية الصراع (الإرهاب) بقوى إقليمية تختلف معها بأسلوب وثائقي جدير بأن يكون أقرب إلى الحقيقة وأبعد من الخيال. 
اليوم، وبعد الصراع المحتدم بين قطر والدول المقاطعة لها، استطاعت أنظمة الحكم في كلا الطرفين صناعة سلاح فعال وقوي لتدمير بعضها البعض وتمزيق النسيج الاجتماعي بأغنية واحدة أو فيلم واحد..
ولما للأغاني من أثر نفسي واجتماعي وعاطفي، وخاصةً لدى شعوب الخليج، كونها معروفة بأنها شعوب الغناء والشيلات والرقص والترف، فقد نالت الأغنية الخليجية نصيب الأسد من التسييس بهدف تعزيز الصراع الإعلامي والاقتصادي والسياسي بين قطر ودول المقاطعة.
في الشهر الماضي استطاع نظام بني سعود ابتكار سلاح قوي وفعال لتدمير خصومه من دويلات الخليج بدون شن غارات جوية ولا خسائر مالية ولا بشرية، حيث أطلقت مملكة الشر عدة غارات غنائية - كما يقول مغردون سعوديون - على الدوحة، بعد الحصار الذي فرضته مع مجموعة من الدول ضد النظام القطري. 

علّم قطر
في حين كانت قطر تفتتح أحد أكبر الموانئ في العالم، (ميناء حمد)، الشهر الماضي، بحضور الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، قائلاً في تغريدةٍ له: (علميهم يا قطر أننا نتطلع للمستقبل بمشاريعنا التنموية بقيادة سمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله)، سرعان ما أتى الرد السعودي زاجراً ومستهتراً ليس بالشيخ تميم فقط، بل بالشعب القطري بأكمله، من خلال كلمات (علّم قطر) بمعنى علم شعب قطر.
الأغنية التي كتب كلماتها المستشار في الديوان الملكي السعودي تركي آل الشيخ، ولحّنها رابح صقر، وأنتجتها شركة (روتانا)، حملت هدف الهجوم الصريح ضد قطر، مع التفاخر الكبير بالسعودية، شارك في غنائها كل من رابح صقر ووليد الشامي وعبد المجيد عبد الله وماجد المهندس، وراشد الماجد، ومحمد عبده، أي كوكبة ضمّت نخبة المغنّين الجماهيريين السعوديين.
ولهؤلاء الفنانين زخم جماهيري كبير على مستوى الجزيرة، كما أن لهم جماهير جمة في قطر نفسها من خلال العديد من الأغاني التي قدموها فخراً بقطر والأمير تميم. . وقد تصدر هاشتاج (علّم قطر)، موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، بعد المشاهدات الكبيرة التي حققتها الأغنية، وأسلوبها الاستفزازي ضد سياسة الدوحة. 
وقد اعتبر العديد من الأمراء السعوديين أن هذه الأغنية ما هي إلا رد على تجاوزات الدوحة بحق المملكة العربية السعودية. 
وقد حققت الأغنية أرقامًا قياسية في 5 أيام من المشاهدات بما يصل إلى 5 ملايين مشاهدوة. وقد ساعد هذا في فتح جبهة جديدة للصراع، تسمى (جبهة الأغاني).. هذه الجبهة التي يمولها النظام ويصنعها الشعراء ويحقق غاراتها الفنانون والملحنون.
لم يقف الإعلام القطري مكتوف الأيدي أمام هذه الأغنية، فانتقد الشعب القطري جميع الفنانين الخليجيين الذين ساهموا في أداء هذه الأغمية، وأشار البعض بأنها كلام مُبتذل، وآخرون هاجموا الفنانين بقصائد شعرية وأغانٍ شعبية، واصفين إياهم بأنهم سوقيون وساقطون أخلاقياً وفنياً ومهنياً، وأن فنان العرب لم يعد سوى فنان النظام السعودي، ووصفوا كاتب الكلمات بأنهُ رجل طرب ودعارة في القنوات الإباحية، وعلى رأسها (روتانا).

الفأر في المصيدة
لم تكن أغنية (علم قطر) هي أول سلاح يستخدم في معركة الفن، فهناك سلسلة من الأغاني السابقة العدائية بين الطرفين، ومنها أُغنية (الفار في المصيدة) التي غناها الفنان الشعبي المصري شعبان عبد الرحيم، بعد قرار المقاطعة بأيام قليلة. 
وكما يتضح من اسم الأغنية فقد هاجمت - بشكل مهين وبذيء - أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، واعتبرت أن قرار المقاطعة (ضربة معلم)، وأن الفأر (تميم) لم يعد لهُ أي ملجأ سوى الخضوع والانقياد لدول المقاطعة.

(الحصار) غارة قطرية
سرعان ما أتى الرد القطري على هذه الأغنية من الفنان فهد الحجاجي، بأغنية (الحصار)، حيث تهكم فيها على حالة الحصار الاقتصادي التي فرضت على بلاده، وأبدى استنكاره لها، معتبراً أن قرار الحصار لن يضر قطر شيئاً، وأن قطر راسخة رسوخ الجبال بفضل قائده (تميم)، ومعبراً عن استغرابه من ضم دولة مصر إلى دول الخليج.

(إنته وين) غارة إماراتية 
في الإمارات، وفي نفس السياق، بعد قرار المقاطعة، صدر عدد من الأغاني لمؤازرة أبوظبي، وصدر ألبوم (كلنا جنودك يا وطن)، وكانت الأغنية الأبرز على الصعيد الإماراتي (إنته وين) للفنان عيضة المنهالي. وتحدثت الأغنية بشكل صريح عن التحالف الرباعي ضد قطر، مُستعرضة بذلك أعلام الدول الأربع المقاطعة، وعرض القدرات العسكرية بمثابة تهديد لأية دولة تحاول المساس بسيادتها.
يستمر التصعيد بالتصعيد بين قطر والدول المقاطعة سواءً في الحرب الغنائية أو الوثائقية أو الإعلامية والسياسية، رُغم ضخامة التنازلات التي قدمتها الدوحة، إلا (أن الله غالب على أمره ولو كره الكافرون) وكيدهم وتضليلهم وتخريبهم إعلامياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً على دول المنطقة وخاصة (سوريا والعراق واليمن). 

حرب الوثائقيات
تُعتبر الوثائقيات أول عيار ناري يضرب دول الخليج، وأول خطوة مهدت للحصار المفروض على قطر من قبل الدول المقاطعة لها، حيث اتخذت الدول الخمس طريق الأفلام الوثائقية في الهجمات المتبادلة، في ما يمكن وصفه بأنه أسلوب يتوجّه نوعاً ما إلى النخب.
بدأ استخدام هذا الأسلوب قبل قرار المقاطعة، خاصةً في الصراع بين الدوحة والقاهرة.
أما البداية الأولى لاستخدام هذا السلاح فقد كانت من قطر وقناة الجزيرة الفضائية، هذه القناة التي شأنها كبير في الوثائقيات المزيفة والملفقة على مستوى العالم، وقد بدأ تفعيل هذا السلاح في جبهة الصراع الأولى من قناة الجزيرة كضربة أولوية لدولة مصر من خلال عرض فيلم (العساكر) الذي انتقد الجيش المصري وسلوكياته، وقد بثته القناة في نوفمبر 2016، ويتحدث عن التجنيد في الجيش المصري، وعرضت فيه مشاهد تمثيلية عن قسوة التدريبات في الجيش المصري ومعاناة المجندين من أنواع مختلفة من الانتهاكات، مما أثار غضباً إعلامياً ومجتمعياً كبيراً في مصر. وانتقد الإعلام المصري قناة الجزيرة بشكل كبير ومهين للطاقم الإعلامي فيها.

(الإمارة) صاروخ مصري
وبعد فترة وجيزة سرعان ما رد الإعلام المصري بفيلم وثائقي تحت عنوان (الإمارة) الذي تمت إذاعته على 4 حلقات في مارس وأبريل 2017م، على فضائية (أون تي في) المصرية.
استعرض الفيلم الدور القطري في تخريب سوريا وليبيا، مؤكداً أن قطر هي الداعم الرسمي الأول لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). كما تناول تاريخ قطر منذ نشأتها، ودور كافة أفراد النظام القطري في بث روح الفرقة بين الشعوب العربية..
وعلى نفس الطريق يأتي فيلم (قطر.. الطريق إلى مانهاتن) الذي عرضته في نهاية يوليو 2017، قناة (سكاي نيوز) الإماراتية، لإثبات تورط قطر في هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ التي سقط فيها برجا مركز التجارة العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية. 
وركز الفيلم على وجود علاقة قوية بين حكومة قطر وخالد الشيخ محمد، أبرز قادة (القاعدة) الضالعين في واحدة من أكبر الهجمات الإرهابية شهرة في التاريخ الحديث.
كما اتهم الفيلم قطر بلعب دور خفي في تمويل الإرهاب، مستنداً إلى وثائق ومستندات ومصادر حية.

(إمارات الخوف) صاروخ قطري
في أغسطس أذاعت قناة الجزيرة فيلم (إمارات الخوف) الذي يكشف الوجه الآخر الحقيقي للإمارات، وعرضت فيه ما قالت إنه انتهاكات كبيرة ضد الناشطين في الإمارات واغتصاب الحرية التي يدعيها النظام الحاكم.
البحرين شأنها شأن السعودية والإمارات كونها الحاضن الأول للشيعة والجارة الأولى للمملكة السعودية، ولها منوالها في الأفلام الوثائقية مع قطر. كما أن دورها في حرب الوثائقيات كان الأول في دول الخليج.
الفيلم الوثائقي الذي أنتجته قناة الجزيرة القطرية عن الاحتجاجات البحرينية عام 2011م، تضمن لقطات للمظاهرات ولمداهمات الشرطة والجيش، ومقابلات مع نُشطاء وأطباء شيعة وسنة، وقد ترجم هذا الفيلم إلى 7 أو 8 لغُات، حسب ما صرح وزير الخارجية البحريني في القمة العربية لأعمال الدورة العادية الـ148، ووصفه بأنُه غير حقيقي، وأن قناة الجزيرة تحاول زرع الفتن والفوضى في أوساط الشعب البحريني.

(أكاديمية التدمير) صاروخ بحريني
على نفس المنوال أذاع التلفزيون البحريني في أغسطس فيلماً وثائقياً بعنوان (أكاديمية التدمير)، تحدث فيه عما اعتبره مؤامرات يحيكها آل ثاني ضد جيرانهم.
وركز الفيلم على نشاط (أكاديمية التغيير) القطرية التي ترفع شعار العمل على قضايا التنمية البشرية، واعتبر أن نهجها يقوم على التدمير تحت ستار التغيير، لتحقيق أهداف خفية. وفضح الفيلم النظام القطري وعلاقته القوية مع الإرهاب. 
لم تتوقف الحرب الوثائقية والغنائية عند هذا الحد بعد فتح باب الصراع على مصراعيه بين تلك الدويلات، وما نلاحظه ليس جديراً بالإنكار أو التلفيق.

(الجزيرة) الناطق الرسمي
 باسم بني سعود
في اليمن كانت (الجزيرة) طيلة فترات التخريب تمتص دماء القتلى والجرحى وتحولها إلى صور إرهابية، وتلتقط الخراب والدمار لتحولها إلى رسوم كاريكاتورية ساخرة، سعت جاهدةً لتجميل مملكة الشر، لكن ها هي اليوم تضمحل في مستنقع الموت بعد أن سقط القناع، وأصبحت مصنع الإرهاب ومدرسة الأفاعي، اليوم تحاول تجميل ذاتها وهي تهاجم نظام بني سعود عبر العديد من البرامج، كان أبرزها برنامج (فوق السلطة) المتخصص بفتح ملفات الفساد في الدول المعادية، وبرنامج (الاتجاه المعاكس) الذي يتلون حسب طبيعة التضاريس السياسية المحيطة به.
والتقارير السعودية والمصرية لم تعد تهتم بالأوضاع الإقليمية وخروجها خارج المنطقة، فقد تقوقعت وانحصرت في شأنها مع قطر وتبادل المناكفات والمماحكات في ما بينها. 
كل هذا إنما هو حصد للصبر الذي تجرعه (السوريون واليمنيون والعراقيون والفلسطينيون) وهم في شباك الموت البطيء، وحصد للدعوات التي يطلقها المظلومون في البلاد العربية وهم ينتحبون في كل صلاة قائلين: (اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا منهم سالمين)..