على امتداد الساحل التهامي تتناثر قرى بيوتها أكواخ القش والطين، يسكنها فقراء طيبون يعتاشون على الصيد كمصدر رئيسي -أو وحيد- للحصول على لقمة العيش التي تكفل لهم حياة وادعة رغم شظفها ووطأة المعاناة والفاقة التي يعيشونها.
وبموازاة الساحل يمتد البحر الأحمر الذي امتلأ فجأة بسفن وطائرات ترى أن البحر ينقصه الكثير من اللون الأحمر كي يطابق اسمه الشهير.. فقررت أن تصبغه بدماء الصيادين اليمنيين.
هناك في سواحل تهامة تتكثف فصول مأساوية لمعاناة متعددة الأوجه صنعها العدوان الخليجي، خلاصتها الموت قصفاً أو جوعاً أو كمداً.
فبالتزامن مع انتهاج العدوان الأمريكي السعودي سياسة قصف المصانع والمزارع وحظائر الثروة الحيوانية، ضمن حملته الممنهجة لتدمير الاقتصاد اليمني ومصادر دخل اليمنيين باختلاف مهنهم ومناطقهم، كان الجزء الأكثر توحشاً هو استهداف قطاع الصيد بجرائم متوالية على مدى العامين الماضيين.
حيث تم قصف المئات من قوارب الصيد، وقتل مئات الصيادين، وتدمير عشرات من المرافق المرتبطة بالإنتاج في قطاع الصيد البحري مثل مراكز الإنزال السمكي ومرافئ الصيد، عدا عن أن استمرار عمليات القصف وتعمدها ملاحقة قوارب الصيد قد جعل الكثير من الصيادين يحجمون عن الخروج لممارسة الصيد الذي صار مهنة أكثر خطورة من القتال في الجبهات.
فظاعة العدوان.. وجنون التوحش
جرائم قراصنة الزمن القديم كانت تقف عادة عند إغراق سفن خصومهم أو إلقائهم في البحر مع منحهم فرصة ليحاولوا النجاة بحياتهم...
أما قراصنة العصر النفطي فلا يكتفون بقصف قوارب الصيادين، بل يلاحقون من يطفو منهم متشبثاً بحطام القوارب، ليجهزوا عليه برشاشات (الأباتشي).. حدث هذا عدة مرات، إحداها هي مجزرة جزيرة (عقبان) التي يمكن اعتبارها جريمة نموذجية تعبر عن عقلية التوحش لتحالف العدوان، طبقاً للتفاصيل التي رواها عدد من الصيادين:
يوم الخميس 22 أكتوبر 2015م، أغارت الطائرات الحربية للتحالف العدواني بما لا يقل عن 15 صاروخاً على قوارب الصيادين في محيط جزيرة عقبان، وكذا على الصيادين المخيمين على سواحل الجزيرة.
بعض الصيادين الذين كانوا على الشاطئ تمكنوا من الفرار والاختباء داخل الجزيرة.. أما من بقوا مكشوفين بعد قذائف الطائرات الحربية فكانوا على موعد مع توحش إضافي. إذ سرعان ما أقبلت طائرات الأباتشي لتحصد برشاشاتها الثقيلة أجساد الجرحى والناجين المتخبطين في مياه البحر متعلقين ببقايا حطام قواربهم المدمرة، كما لم تنسَ تصفية الجرحى المنثورين على الشاطئ.
كانت حفلة إعدام دموية استمرت لأكثر من ساعة، وليتها اقتصرت على هذا، بل بقي الطيران يحوم في المنطقة على مدى يومين إضافيين، مستهدفاً أي قوارب تأتي لإنقاذ الجرحى وانتشال جثث الشهداء.
هكذا نجح طيران الحقد الأمريكي السعودي في إنجاز مذبحة مميزة بكونها لم تترك جرحى.. ولا حتى جريحاً واحداً.
كانت هذه هي فاتحة الجرائم التي وصلت أخبارها لبعض وسائل الإعلام.. بعدها ظهرت سلسلة متوالية من الجرائم يظهرها الجدول المرفق.
ما هو مسجل في الجدول ليس سوى جزء من جرائم العدوان المباشرة ضد الصيادين في سواحلنا التهامية.
يضاف إليها عمليات قصف متكررة بالطيران والبوارج على مناطق عديدة، منها الخوخة والجبانة والمنزلق البحري وجزيرة الفشت.. نتج عنها العديد من الضحايا والأضرار المادية، نذكر منها قصف ميناء الحيمة الساحلية في الخوخة، والذي نتج عنه تدمير أكثر من 100 قارب صيد في يوم واحد من عام 2015.
جدير بالذكر أن بعض جرائم العدوان ـ وتحديداً قصف زوارق الصيادين المبحرة في عرض البحر- لا تصل إلى وسائل الإعلام، وإن وصلت أخبار بعض جرائم القصف فلا تظهر إلا كخبر سريع غير موثق وبدون تفاصيل توضح مدى الجرم الواقع ضد أبرياء لا ذنب لهم سوى البحث عن لقمة العيش لينتهي الأمر بأغلبهم ليصيروا ضحايا مفقودين مجهولي المصير، إذ تتحول جثثهم إلى أشلاء يبتلعها البحر طعاماً للأسماك، فيما أسرهم تنتظر عودتهم بأمعاء خاوية.

سبب مجاعة قرى الساحل التهامي
في العام الماضي نشر ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً ومعلومات عن المجاعة التي ضربت القرى الساحلية، ومنها وصلت الأنباء إلى بعض الفضائيات ومنها فضائيات التضليل التابعة للعدوان، التي وجدت في أخبار المجاعة فرصة لتوظيفها سياسياً وإنسانياً ضد السلطات في صنعاء، متهمة إياها بالتسبب في المجاعة. لكن لا أحد تحدث عن السبب الرئيسي لحدوث المجاعة، وهو يتلخص في حقيقة أن مناطق المجاعة هي قرى يعتمد أهلها على الصيد كمصدر وحيد للدخل، كونها تقع في مناطق رملية شحيحة المطر وغير منتجة زراعياً. وقد كانت سياسة العدوان المتعمدة قصف قوارب الصيادين ومرافق قطاع الإنتاج السمكي، تهدف إلى تجويع اليمنيين ومنعهم من الصيد بتدمير قواربهم وقتل الكثير من الصيادين لتبقى أسرهم بعدهم دون عائل أو سبيل للقمة العيش.
وهكذا فإن سبب المجاعة التي حصلت هو تحالف العدوان بطائراته وسفنه التي قامت بقطع مصدر الدخل الوحيد عن أهالي تلك القرى الفقيرة.. وفرضت منطقها الدموي الذي يحصر الصيادين بين الجوع أو القصف إن قرروا الخروج بقواربهم للصيد.
وبالطبع فإن فرص العمل البديلة كحمالين في الميناء أو المصانع قد انعدمت مع سياسة التدمير الممنهج الذي طال المصانع والميناء، إضافة إلى الحصار وعرقلة وصول سفن البضائع.. لتكون النتيجة مجاعة حية تتسع وتتخم غالبية سكان تهامة.
في المقابل، سمحت بحرية العدوان لسفن صيد تتبع دولاً عربية وأجنبية بالصيد في المياه اليمنية، مستخدمة أسلوب التجريف الذي يحصد كل الأحياء البحرية ويدمر الشعاب المرجانية التي تتكاثر فيها الأسماك.
وتتضاعف مأساة قطع أرزاق الصيادين عند النظر إلى أحوال جرحى القصف من الصيادين، والذين يكابدون الجوع في وضع يجعل استكمال العلاج ترفاً غير ضروري، إذ صار أقصى ما يطمح إليه الجرحى هو إسكات جوع أسرهم قبل التفكير بتخفيف آلام الجراح أو الإعاقة.
قصص وجع ومآسٍ كثيرة تطل علينا من كل أكواخ فقراء تهامة التي لم يكفها بؤس حياتهم المعتادة، فجاء العدوان ليطحن ما تبقى من آدميتهم، والمؤلم أكثر هو عدم وجود جهات محلية أو دولية تتحمل مسؤولية تعويض الصيادين المتضررين أو تمنحهم قوارب بديلة ولو بأقساط ميسرة ليتمكنوا من إعاشة أسرهم، كما لا يجدون من يتكفل بتحمل نفقات استكمال علاج الجرحى وتأهيل المعاقين منهم.. إذ إن ذوي الإصابات الخطيرة يضطرون لترك المستشفيات قبل استكمال العلاج...

اختطاف الصيادين..
تجنيد بالترغيب والترهيب
في العام الأخير كثفت بحرية العدوان السعودي من عمليات اعتراض قوارب الصيادين في البحر، حيث تقوم بإغراق القوارب واختطاف الصيادين وتنقلهم إلى ميناء جيزان أو ميناء جدة لتحتجزهم هناك لعدة أسابيع يتم خلالها ممارسة ضغوط عليهم لإجبارهم على القبول بالانضمام إلى قوات المرتزقة كمحاربين في جبهات ميدي أو حرض أو المخا، مع إعطائهم وعوداً بمنحهم مرتبات مغرية، وإلا فستتم معاملتهم باعتبارهم جواسيس. وفي مواجهة هذه التهديدات والإغراءات يأتي رد الصيادين بالرفض المغلف بالوداعة التهامية وفطنة الصياد البسيط، إذ يجد نفسه في قبضة عدو لا يؤمن شره، فيقول: (ما إحنا إلا صيادين مساكين ما نعلمش امحرب ولا نشا بنادق).
غني عن القول أن سياسة الاختطاف هذه تكشف مدى حاجة العدوان لتعويض قتلاه الذين تبتلعهم محارق الجيش واللجان الشعبية في الجبهات.

الضحايا أكثر مما تم الإعلان عنه
في أبريل 2017 أعلنت (الهيئة العامة للمصائد) إحصائية رسمية جاء فيها أن إجمالي عدد الشهداء من الصيادين هو 133 صياداً فقط! وهذا رقم لا يصل حتى إلى عدد شهداء مجزرة جزيرة عقبان وحدها.
فحسب إفادة بعض الصيادين من أهالي قرية الخوبة في مديرية اللحية (وبعضهم شهد المذبحة بعد اختبائهم داخل الجزيرة)، فإن عدد الشهداء في مجزرة عقبان يفوق 180 صياداً، منهم 33 صياداً فقط تم العثور على جثثهم متحللة على سواحل جزيرة (طقفاش) وجزيرة أخرى مجاورة لها. علماً أن هناك معلومات عن جثث أخرى تم العثور عليها في سواحل الحديدة، في حين لم تظهر جثث العدد الأكبر من الشهداء والتي تمزق كثير منها إلى أشلاء بفعل صواريخ الطيران الحربي أو رشاشات الأباتشي.
هذا يعني أن هناك ما يقارب 150 جثة مفقودة لم يتم العثور عليها وربما تكون قد جرفت مع التيار إلى سواحل بعيدة.
وبالمثل، من المنطقي أن تكون هناك جثث مفقودة في جرائم القصف الأخرى، خصوصاً المراكب الوحيدة المقصوفة بعيداً عن السواحل، حيث لا شهود ولا ناجون، فلا يصل عنها أي خبر مؤكد، لتختفي بطواقمها دون معرفة مصيرهم..
حسناً.. يبدو أن الإحصائية مبنية على أساس عدد الجثث التي أمكن العثور عليها، كما أن عملية الحصر تأثرت بعوامل عديدة أهمها القصور في عملية رصد وتوثيق معاناة الكثير من الضحايا والمصابين والمتضررين، وكذلك لعدم وجود نقابة فاعلة للصيادين تمتلك الإمكانيات اللازمة لمتابعة ما يحدث لأعضائها وبمصيرهم..! لكن هذا يجب أن يدفع الجهات المعنية لبذل المزيد من الجهود للاهتمام بقضايا من لايزالون حتى الآن ضحايا لامرئيين.