صاحب (الربيع في اليمن.. دم وعواصف) عبدالرحمن مراد:
نحن بحاجة إلى مشروع سياسي  وليس إلى فكرة دينية

يستطيع أي باحث أن يقدم بحثاً أو قراءة لمشهد ما، لكن من النادر أن تجد في المشهد اليمني كاتباً يسلط قلمه على المشهد بشفافية ومكاشفة تحمل لغة عصية ومتميزة، وقاموساً لغوياً متيناً، يحاول التأسيس لممارسة فعلية في الواقع، تتجاوز عملية التنظير.
عبد الرحمن مراد؛ كاتب وأديب يشاطر هذا المجتمع الوجع من خلال رؤاه وأطروحاته، ينحت استقلاليته بروح مسؤولة وضمير مسكون بالحب، يعيش الوجع العربي ككل، واليمني خاصة، يحث على مشروع ثقافي نهضوي للخروج من مأزق السياسة والعصبيات والتخندق في إطار عشائري أو أيديولوجي، من الكتاب القلائل الذين يستحضرون في كل إسهاماتهم: التاريخ والخصائص الثقافية لهذا المجتمع.
عبر هذا المنبر الصحفي، أحببت أن يطل هذا الكاتب، من خلال أسئلة ربما بعضها ليست وليدة، ولكنها بحاجة إلى التوليد، فإلى الحوار.
 لمن يكتب عبد الرحمن مراد؟ من يخاطب في كتاباته؟
- أشعر أني أكتب لجمهور افتراضي لم يولد بعد، هو جمهور متخيل لديَّ اعتقاد أنه سيأتي في المستقبل، أما اليوم فلا أرى أحداً يقرأ، وإن قرأ البعض فهم كعادتهم لا يعترفون لأحد بفضل.
في اليمن الكاتب والأديب والمثقف حالات فائضة عن الحاجة، قد يعترفون بالآخر، ويحتفون به، لكن مثل ذلك يعز عليهم، لا لشيء، إلا لكونك يمنياً.
أما من أخاطب في كتاباتي، ففي ظني أصبح الأمر واضحاً. أنا أخاطب ضميري، ولا أخرج عما أؤمن به وأراه صائباً. لا أنتمي إلى شلة أو جماعة، ولا الى حزب، أنا ذاتي، والتعبير عن ذاتي.

 حرية الرأي ضرورة بين الأفراد وبين الفرد والسلطة من جهة. بنظرك كيف فهم العرب، واليمنيين على وجه الخصوص، هذه العلاقة أو الحرية؟
- موضوع الحرية موضوع شائك، وآراء الفلاسفة فيه غير موحدة، ومتعددة، وكذلك هو في اليمن، يكون الحديث عن الحرية خارج السلطة، وبعد الوصول إلى السلطة يصبح الأمر مختلفاً.
الحرية، ليست فوضى، ولكنها التزام أخلاقي ومعرفي، من حق كل طرف أو فرد أن يمارس غواية الحرية، لكن ليس بالمعنى الذي يتقاطع مع مصالح المجتمع. للأسف ما يحدث في اليمن لا يمكن أن نصفه بصفة الحرية لشيوع الفوضى وتداخل الذات. ما نزال في مراتب متدنية، فالوعي بالحرية في اليمن لا يكاد يخرج من مصالح الذات، الحزب أو الجماعة.
في المجتمعات المتقدمة نجد التعبير عن الموقف لا يحدث ضرراً على مصالح الفرد ولا الجماعة ولا المجتمع، وحتى نصل إلى هذا الوعي، نحتاج زمناً ووعياً وواقعاً جديداً.

 يرى البعض أن حرية الرأي تخدم الحكام أو السلطة أكثر. لماذا لم تستطع الأنظمة السياسية أن تقتنع بذلك؟
- لأن الأنظمة السياسية في عالمنا أنظمة عشائرية، ووجودها لا يستند إلى مشروع ثقافي وسياسي وإنمائي، وإنما يستند إلى العصبية، ولذلك تجد تضاداً في علاقة المثقف بالسياسي، رغم التلازم، إلا أنها علاقة غير سوية، وقهرية وإقصائية..، وربما كان المثقف الحر والملتزم في الهامش يكابد أسباب وجوده، لأنه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الالتزام بالمبدأ، وإما التحول إلى أداة وبوق. وبالضرورة المثقف الفرد والحر يجد غضاضة، أما النفعي فتجده قادراً على التلون والعيش.

 أفردت مساحة قيمة في كتابك (الربيع في اليمن.. دم وعواصف)، للتعريف بالمثقف، وأهمية المشروع الثقافي، في ضوء قراءتك، من برأيك حمل مشروعاً ثقافياً خلال العقود الخمسة الأخيرة؟ وهل يمكن تصنيف د. ياسين سعيد نعمان كمثقف، حسن زيد، عارف الزوكا، عزمي بشارة، المواطن البسيط، شيخ القبيلة، عائض القرني، فؤاد دحابة، محمد حسنين هيكل، غسان بن جدو، أروى عثمان، القرضاوي، أحلام مستغانمي، السلطان قابوس، توكل كرمان، المنصف المرزوقي؟
- كل أولئك الذين ذكرت في سؤالك، يمكن تصنيفهم في دائرة المثقف العضوي، والمثقف العضوي هو الذي يكون نتاج نظرية أو أيديولوجيا، ويعمل جاهداً لخدمة النظرية والأيديولوجيا.. في عالمنا العربي، نحن بحاجة إلى المثقف الفرد الذي يفكر ويبدع ويبتكر ويتناقض مع ذاته أملاً منه في الوصول إلى الحقيقة، وبطبيعة المثقف العضوي تكون رؤيته للقضايا ثابتة وغير ديناميكية ولا متحركة، ولذلك لا نجد مثل أولئك لهم قدر من التأثير، لأنهم نتاج مشاريع أيديولوجية تجاوزتها الضرورة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
أما المثقف الفرد الذي يبزغ هنا أو هناك في عالمنا العربي، يستهدف من قبل القوى الراديكالية؛ إما بالإقصاء أو التغييب، لأننا في الوطن العربي، وفي اليمن على وجه الخصوص، لا نؤمن بالفرد إذا لم يكن له جماعة أو مؤسسة تروج له أفكاره، أما نحن في اليمن فلدينا عقدة تاريخية أوجزها الشوكاني في قوله: اليمنيون لا يعترفون لبعضهم بفضل.

 من المعني بإيقاف مشاهد الموت أو القتل المخيفة اليوم؟
- المعني بإيقاف مشاهد الموت والقتل هو الوعي، وطالما ظل الوعي غائباً، وغير مدرك لخطورة المشروع والمرحلة التاريخية، ستظل المشاهد تتكرر.. ما يحدث اليوم في اليمن، وفي بعض الأقطار العربية، مقدمات لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى إسرائيل وأمريكا والدوائر الاستخبارية العالمية للوصول إلى نتائجه التي بالتأكيد ستكون في مصلحة إسرائيل والمجتمع الدولي، ولن تكون في مصلحة العرب والمسلمين.

 ما الذي يمكن فعله للم الشمل الثقافي من جديد مثلاً، وإيجاد أرضية ناجعة لإدارة مشاكلنا نحن العرب، بعدما أصبحنا ساحات خلفية لأي صراع؟
- العرب بحاجة إلى مشروع سياسي لمواجهة العالم من حولهم، وإدارة مصالحهم الكونية وفق رؤية علمية وسياسية، ولا يمكن للعرب الخروج من أزمتهم الثقافية والسياسية طالما وعيهم يتمحور حول الفكرة الدينية.. العالم من حولنا يدير مصالحه في منطقة الشرق من خلال وعيه بغياب المشروع والتمحور حول الفكرة الدينية، ولو تلاحظ أنه حارب المشروع الناصري، وهو يبذل جهداً مضاعفاً للقضاء على المشروع البعثي، ومن خلال الفكرة الدينية يفرض هيمنته على مصادر الطاقة، ويدير مصالحه. أصبح الأمر واضحاً، لكن العرب لا يتعظون ولا يفكرون.

 موضوع التأويل. كيف يمكن للمثقف أن يتحرك في هذا الإطار بعيداً عن تصيده بشباك الظاهر والباطن؟ ولماذا لم ينجح رواد التأويل في مجابهة الفكر السلفي الذي لا زال يعمل بقوة؟
- التأويل قضية ذهنية شائكة، واللغة حالة عصيَّة، والاستغراق في بحر اللغة يتطلب وعياً متكاملاً، وانفتاحاً على المستويات الحضارية المتعددة، والنظريات اللسانية والفكرية، والتوجهات الثقافية.. والتيار السلفي وفق منهجيته يعطل حركة التفاعل والتفكير، ولذلك وضع حداً فاصلاً بينه وبين زمنه، وفضل العيش في دائرة الاغتراب الزماني والمكاني، وطالما هذا التوجه يتوافق مع الأنظمة السياسية الخليجية التقليدية، وهي أنظمة لم تتفاعل مع المستويات الحضارية والسياسية الحديثة، وتملك أموالاً، فسيظل الصراع قائماً، والقوة السلفية حاضرة بقوة الأموال والسلطة.
الذين اشتغلوا على التحديث من رموز الفكر العربي استهدفتهم السلفية، في حياتهم ومعاشهم. وهذه القضية من القضايا المسكوت عنها، لكني أتوقع أن المستقبل سيفتح ملفات الكثير من رموز حركة التجديد والتحديث.

 لماذا فشل مشروع علمنة الواقع اليمني، وظل الديني جاثماً ومسيطراً، حتى إنه جر معه أو خلفه غالبية دعاة القومية واليسار؟
- العلمنة اتسعت مفاهيمها وتعددت آفاقها، وكل طرف يراها من زاويته ومن منطلقه الفكري، وحين تصبح مفهوماً محدداً موضوعياً، وتقتصر على فكرة البحث العلمي والمنهجي لمعالجة قضايا المجتمعات ومشاكل التجمعات الإنشائية وفق رؤية علمية بحتة.. أعتقد أنها ستجد طريقها إلى حياة المجتمعات العربية.
في اليمن تطغى الفكرة الدينية القائمة على العصبية، على فكرة المشروع، ولذلك تجد المشروع غريباً، وصاحب الفكرة الدينية أكثر تجذراً في الوجدان العام، وقد سبق لي القول إن اليمن لا تحتاج إلى ثورات اجتماعية وسياسية، ولكنها بحاجة إلى ثورة ثقافية تعيد ترتيب النسق الحضاري القديم، وتتفاعل مع الأنساق الحضارية الجديدة وفق رؤية علمية وفكرية واضحة تضع حدوداً فاصلة بين النص والعقل في القضايا العامة وفي التشكيل وفي النظام العام.

 الإعلام العربي عموماً، من يقوده اليوم؟
- الإعلام العربي اليوم تقوده القوى التقليدية والمصالح الدولية التي ترتبط مع القوى التقليدية في شبكة مصالح اقتصادية.
والحديث هنا يقتصر على الإعلام الأكثر شيوعاً، والأقدر من حيث الإمكانات المادية والبشرية، والأقوى من حيث التأثير.. لأنه يعتمد على ذوي الاختصاص من علماء الاجتماع والسياسة وعلماء علم النفس الاجتماعي، وهو يعتمد طاقات ذهنية كبيرة.. هذا الإعلام تديره الأنظمة التقليدية السلفية في الإقليم والعالم، ولا مكان فيه لقوى التحديث، إلا في الحدود التي تفرضها الضرورات السياسية.

 لماذا لم ينجح الرئيس إبراهيم الحمدي في البقاء؟ من كان وراء إيقافه؟
- الحمدي حمل مشروعاً سياسياً نهضوياً لليمن، وكونك تحمل مشروعاً سياسياً، فأنت غير مرغوب فيك. مشروع الحمدي كان تحت مظلة دولة المواطنة، ودولة المواطنة فكرة لم ترق للجوار ولا للعالم الذي يرغب أن يظل العرب في دائرة الفكرة الدينية المغلقة، حتى يتمكن من فرض ثنائية الهيمنة والخضوع، ويتمكن من إدارة مصالحه، من خلال تلك الثنائية، وذلك الغياب للمشروع السياسي.
وأنت تلحظ أن المشروع الناصري وقف العالم ضده، وكذلك المشروع البعثي تكالب الكون ضده، وما يزال، فالذي يحدث في سوريا ليس أكثر من تمكين الفكرة الدينية على حساب المشروع، هذه هي الحقيقة الغائبة عن أذهان الكثير.
والحمدي الذي جاء بمشروع دولة المواطنين، واشتغل على الخصائص الثقافية والاجتماعية، وأسس لمجتمع مدني تعاوني كاد أن ينجح لولا وأده في مهده قبل بزوغه.

 ما الذي يدور منذ 26 مارس 2015م حتى 26 مارس 2016م وما بعدهما؟
- الذي دار ويدور في هذه المرحلة.. حركة تبدلات في شكل الخارطة العربية، وحركة تكوين لقوميات جديدة تتجاوز القومية العربية، وحركة بعث للهويات الجزئية حتى تفسح المجال للهوية اليهودية من الوجود في الخارطة.
حركة التدمير والقتل في اليمن التي يحدثها عدوان المملكة ومن تحالف معها، ستكون نتائجها عكسية، وستدرك المملكة بعد أمد لن يطول بها، أنها كانت تخوض معركة بالنيابة عن إسرائيل، وعن أمريكا التي تبحث عن حل لمشاكلها الاقتصادية التي كاد يتسع خرقها على الراقع السياسي.

 هل كان يمكن لقوى الثورة الحقيقية أن تنتج لنا واقعاً مغايراً وثورة غيرة مقلدة؟ كيف؟
- قناعتي أن الذي حدث في 2011م لم يكن ثورة بالمعنى الحقيقي، بل كان أزمة سياسية خرجت بالتقاسم، وظل الواقع كما هو. الثورة الحقيقية الثورة الشعبية في 21 سبتمبر 2014م، لأنها جاءت برؤية، وأحدثت تبدلاً وتغيراً، صحيح أنها تواجه صعوبات ستحدث حالة انتقالية نوعية في التاريخ اليمني، المشكلة اليوم في كيفية تنمية الخط الثوري، وكيفية رعايته وتشذيب العوارض الطفيلية التي تعيق حركة تقدمه ونموه.

 تؤكد دوماً على أولوية التغيير الثقافي. متى يتم استيعاب ذلك؟
- كل حركة المجتمع الإنساني عبر الحقب والعصور، تؤكد على أولوية التغيير الثقافي.. أنا منذ وقت مبكر سابق لكل الأحداث العاصفة، كنت أدعو إلى ثورة ثقافية، تعيد ترتيب النسق الثقافي والحضاري اليمني، وتعيد صياغة الذات الوطنية بما يتوافق مع القيم الحضارية الجديدة، ومستويات التمدن الإنساني وحركة التعدد. وهذه الفكرة ظلت تصطدم بالمانع السياسي.. اليوم أصبح الواقع يؤكد على ضرورتها، وأظن السياسي أدرك أهميتها.

 غياب المثقف العضوي.. هل مات، أم أنه لم يولد بعد؟
- المثقف العضوي لم يمت، لكن اليساري أفسح المجال لليميني، واليميني أفسح المجال للسلفي، وأصبح المثقف السلفي أكثر حضوراً، في الآونة الأخيرة.. وظل المثقف التقدمي والطلائعي والحداثي يرقب المشهد من بعيد، لأنه يشعر بالتهديد الوجودي.

 غابت القراءة المنهجية التي ترتكز على التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي، والتي تراعي حركة المجتمع ككل, حتى ما كان يكتبه د. ياسين سعيد، والدليل ما آلت إليه البلاد. ما قراءتك لهذه النقطة؟
-  كتبت عن د. ياسين، وكتبت عن اليدومي مقالاً تحت عنوان (ياسين واليدومي وجدلية المفهوم)، ونشر في حينه، د. ياسين قامة وطنية وثقافية وأدبية نعتز بها، لكن يبدو لي في أغلب ما يطرح أقرب إلى الذات منه إلى الموضوع، هو أحياناً يميل الى الثأر السياسي، وكنا نعول عليه بحكم فاعليته وطاقته الذهنية، أن يحدث تحولاً وانتقالاً، ويعمل على التأسيس لقيم جديدة أكثر تفاعلاً مع المستويات الحضارية الجديدة، لكنه اكتفى بتفجير الحدث في 2011م، وترك الواقع يخوض غمار التحول وحيداً.

 في كتابك (الربيع في اليمن.. دم وعواصف)، تحدثت عن الفيدرالية بصورة جميلة، وأنها ضرورية، وحددتها بالقائمة على التجانس. هل لا زال هذا ممكناً؟ وكيف؟
- ليس بالضرورة أن تكون عندنا بنفس النمط الذي عند الآخر، الآخر يبتكر حلولاً تناسب مجتمعه وظروفه، ونحن نتقبل فكرته في كليتها، ولا نعمل على قياس مدى صلاحيتها لنا من عدمها. في اليمن تجارب تاريخية في تكوين الدولة اليمنية، هي أقرب إلى الفيدرالية، بالنمط الذي كانت عليه، سواء في تكوين الدولة التاريخية، أو في نظام المخاليف الذي كان سائداً، ومن خلال تلك الخصائص التاريخية، يمكننا ابتكار نظام فيدرالي يمني يراعي الجغرافيا والتجانس، وليس بالضرورة أن نأتي بالقالب النظري، بل يفترض بنا ابتكار ما يناسبنا، ويستوعب خصائصنا الوطنية والاجتماعية والثقافية والتاريخية.

 هناك نظريات وكتب خالدة: مقدمة ابن خلدون، كتاب الأمير، العقد الاجتماعي.. هل لا تزال تلعب دورها في المجتمع؟ وتحديداً كتاب المقدمة الذي يبدو أنه لم يعد سوى مرجع للباحثين والكتاب، وملخصات لطلاب الجامعة..!
- البعد المعرفي هو بعد تراكمي، وهو كالبناء يشد بعضه بعضاً، لا يمكن أن تأخذ شيئاً منه، وتترك شيئاً. مقدمة ابن خلدون ما تزال تلهم المفكرين والكُتاب، والعقد الاجتماعي ما يزال يؤسس للثورات الاجتماعية، وكذلك هي الكتب والأفكار العظيمة دائمة الحضور والتجدد، فكل نظرية علمية وفكرية حديثة تتخذ من الفلسفة اليونانية ومن أفلاطون وسقراط وغيرهم قاعدة لانطلاقها. في ظني أن أفلاطون ظل متداخلاً في نظرية المُثل، رغم تعدد المستويات الحضارية، وسقراط ما يزال حاضراً في عملية توليد الأفكار وتسلسلها المنطقي.. لا شيء يفيض عن حاجة الإنسان، لأن المعرفة حالة مستمرة ومتراكمة، جديدها لا يلغي قديمها، لأنه قاعدتها التي تنطلق منه لصناعة التاريخ والحيوات الآمنة للإنسان.

 بعد كل هذه المعارك والصراعات، هل لديك تعريف محدد بالشهيد؟
- تعريف الشهيد وفق المتصور الإسلامي واضح وجلي عند كل الطوائف الإسلامية، بيد أني أرى أن اشتغالنا على مشروع الشهيد، ألهانا عن الاشتغال على مشروع المُثل، وهذا الاشتغال كان واحداً من الأسباب المعيقة لحركة التقدم في المجتمعات الإسلامية، العالم يبتكر أساليب أفضل لموت ممجد، نحن لم نحدث التوازن المطلوب بين المشروعين حتى نجتاز عقبات التعثر في حركة مجتمعاتنا.

 يقول د. عبد السلام نور الدين (إن ضيق رقعة العالم في وعي البدوي، والانغماس إلى درجة المرض في الذات البدوية، يجعل إنسانيته محدودة رغم ادعائه احتكار كل القيم والفضائل). ماذا يمكن أن تضيف هنا؟
- العقلية البدوية عقلية غنائمية غير منتجة، وعقلية مدمرة وهادمة، وقد تحدث عنها د. عبد السلام نور الدين، وأفاض، ومن قبله ابن خلدون، وهي قابلة للتجديد والتحديث، لكنها بحاجة إلى إعادة صياغة وفق أسس تربوية حديثة قادرة على التفاعل مع الأنساق الحضارية الجديدة والحديثة.

 أين تكمن قوة الحركة الحوثية؟ في مشروعها، فكرها، مظلوميتها، أم في الأرضية الرخوة التي تقف عليها الآن؟
- قوة الحركة الحوثية تكمن في عمقها التاريخي، في تداخلها مع النسيج الاجتماعي اليمني، وفي حالة التماهي مع الأبعاد الحضارية والأنساق الثقافية للبنية الاجتماعية. الحوثية حركة متجددة ذات عمق تاريخي يعود إلى القرن الثالث الهجري، هي حركة لا تنفصل عن الزيدية وعن الهادوية وعن حركات التجديد والتحديث في المتواليات الزمنية.. ويمكن أن تضيف إليها روح الشباب، إذ جُل قيادات الحركة من الجيل الذي يأتي على أنقاض الكهول، ويكون قريباً من الطموحات الجماهرية وأحلامها، وقد جاءت على فراغ يشتهي الامتلاء، هذا الفراغ تركته جل القوى التقليدية التي تعثرت حركتها نحو المستقبل.

 رؤيتك لجماعة الحوثي (أنصار الله) بعد الانقلاب على الرئيس السابق عبد ربه؟
- جماعة الحوثي لم تنقلب على الفار عبد ربه منصور، لكن عبد ربه انقلب على نفسه وعلى اليمن، وكان عامل تدمير، ولم يكن عامل بناء.
ما حدث في 21 سبتمبر 2014م كان ثورة حقيقية لم تستكمل أركانها بسبب القصور السياسي الذي تضمنه الإعلان الدستوري، وأذكر أنني قلت يومذاك إن البيان الدستوري يطيل أمد الفراغ ولا يملأه.

 كتبت على صفحتك: كنتُ قلت في 2011م دعوا الزامل نائماً إذا أيقظتموه سيغير المعادلة، وتغيرت المعادلة، ولم يتجاوز الواقع تلك الرؤية. بموت (لطف القحوم) تكون مرحلة الزامل قد انتهت، لتبدأ مرحلة أخرى نحن على مشارف تبلجها، وهي في طور التكوين.
- هي قراءة ستكشفها الأيام في قابلها، بالنسبة للزامل، وأظنك لمست خلال ما سلف خفوتاً متدرجاً له.

 اليوم هل يمكن القول إن الشعوب العربية في ورطة؟
- الشعوب العربية تعيش حالة تيه وضياع، وستظل في هذا التيه حتى تهتدي إلى مشروع سياسي يخرجها إلى الأفق الإنساني وفق قيم ومنطلقات قرآنية وإسلامية.

 بسؤالك عمن هو الشهيد، كان لك رؤية مغايرة، هل يمكن أن تعرف لنا المناضل بعد ذهاب أعداد هائلة منذ اللحظة الأولى إلى الرياض لمواجهة ما يعتبرونها قوى الانقلاب؟
- المناضل الحقيقي هو المثقف الفرد والحقيقي الذي يحمل مشروع نهضة للأمة من مثل محمد عبده، الأفغاني، والكواكبي من تيار اليمين، ومن مثل عفلق وعبد الناصر من تيار اليسار، أما الذين ذهبوا إلى الرياض لا أراهم أصحاب قضية، ولا أصحاب مشروع.. هم جماعة سياسية انتهازية شعرت بحالة قهرية، فذهبت إلى المال تعويضاً عن خسائرها، وعلى حساب كرامة شعبها ووطنها، ومثل ذلك قمة الابتذال.
من ذهب الى الرياض كان يملك قراراً، ويملك قوة قادرة على إحداث انحراف في مسار اللحظة، لكنه فضَّل الهروب بحثاً عن ذهب المعز، وليس انتصاراً لقضية.

 بالنسبة للفار عبد ربه، بعد كل الذي حدث خلال الفترة الماضية، كيف تقرأ ما قام به؟ وماذا سيكتب عنه التاريخ، خاصة ونحن لا نزال نعيش العقدة اليزنية؟
- عبد ربه حالة لها مماثل تاريخي، واليمن، كما ذهب إلى ذلك البردوني، كأمريكا اللاتينية، لا يمكن أن يحكمها إلا من كان أديباً أو قريباً إلى مزاج الأدباء، عبد ربه لم يكن يملك حساً قلقاً، بل كان يتجمد إلى درجة النفور منه، وضاقت به الدائرة إلى درجة الاختناق، وأذكر أنني قلت في حوار لجريدة (العرب اليوم) اللندنية، وترجم إلى الإنجليزية، قلت في ذلك الحوار إن اليمن لا يمكن أن تُحكم من الغرف المغلقة أو من خلف الأسوار. مشكلة عبد ربه أنه لم يكن يقرأ، فكان ضحية لقوى سياسية بعينها كالإخوان.

 أنت ترى أن جماعة الإخوان تعاملت مع الواقع باستعلاء. أي نوع من الاستعلاء تقصد؟
- جماعة الإخوان جاءت من خارج الأنساق الثقافية اليمنية، وتعاملت مع الواقع بروح غريبة عنه، فكان التضاد والتنافر بينها وبين المجتمع نتيجة منطقية، ولذلك فالإخوان يخلقون البيئات المضطربة، ويخلقون مناخات الفوضى واللااستقرار حتى يستمر وجودهم وتفاعلهم، وهم يتلاشون ويضمحلون في البيئات الآمة المستقرة.

 الربيع اليمني.. دم وعواصف.. كان استباقاً لعاصفة الحزم، أليس كذلك؟
- كتابي (الربيع في اليمن.. دم وعواصف)، في اعتقادي، كان قراءة واعية للزمن الذي عشناه، زمن الانتفاضات والثورات والفوضى، وفي مقابله كتاب آخر لم أتمكن من طباعته، هو بعنوان (من اللااستقرار إلى اللااستقرار.. قراءة في تموجات اللحظة السياسية اليمنية)، وكتب أخرى تقف الظروف المادية حائلاً دون طباعتها.
وهي كتب تبحث عن الأمل في التفاعل الأمثل مع الحاضر والمستقبل، وتعمل على بعث طاقات الذات ويمنية اليمن من بين ركام الأحداث.

 كمثقف وباحث محسوب تنظيمياً على حزب المؤتمر الشعبي العام، ما دورك الحزبي؟
- في ظني المؤتمر ما زال يعمل بعقل السلطة، ولذلك لا دور للمثقف في أطره التنظيمية، رغم الضرورة. المؤتمر لم يستوعب بعد حالة الانتقال إلى المعارضة، ولا حالة الانتقال إلى حزب.

 متى تكون ناقداً؟ ومتى تكون حزبياً في إطار العمل الحزبي؟
- يبدو أنني أعيش مربع النقد بشقيه الأدبي والثقافي، ولم أبرحه. وليس لي أي نشاط سواهما.

 هل لك أن تقول عن وزارة الثقافة شيئاً؟ أقصد وزارة الثقافة منذ ما بعد ثورة 21 سبتمبر حتى اللحظة؟
- وزارة الثقافة تعطلت وظيفتها، وفقدت قيمتها، ولم تتجدد، ولن تتحدث في بنيتها الهيكلية ووظيفتها الثقافية.

 ماذا عن أعمالك الأدبية، أعمالك الشعرية؟
- كل شيء توقف، وتعطلت حركة الأشياء.. أصبحنا نتنفس الكتابة لمجرد أننا نعيش. الأعمال الأدبية مكدسة بين ركام الأوراق، أو هي مشروع مؤجل بعد كل هذه الظروف التي تركت واقعاً بائساً في نفوسنا.

 لديك قاموس خاص في كتاباتك وحواراتك، وهذا ما يميزك. ما هي أكثـر الكتب قراءة لديك؟
-لكل كاتب وأديب هوية كتابية تميزه، ولذلك من خلال تركيب العبارة قد تعرف الكاتب. أما أكثر الكتب قراءة بالنسبة لي، فهي الفكرية والنقدية والأدبية، والرواية أقل الفنون حظاً في القراءة بالنسبة لي.

 عربياً، أي الشعراء يتصدر المشهد اليوم من الراحلين أو الباقين؟
- في ظني، ما يزال محمود درويش يحتل المرتبة الأولى، درويش حالة شعرية استثنائية ولغة مجازية واستعارية لم تكن مسبوقة، لديه قدرة فائقة على إتقان فن الرقص على رؤوس الكلمات.. ورغم غيابه، ما يزال حاضراً بقوة في المشهد.

 علاقتك بالرواة والروائيين..
- علاقتي بالرواة اليمنيين جيدة، وليس لي علاقات برواة عرب.

 بالعودة إلى حزب المؤتمر الشعبي، هل لا زال هذا الحزب بين خياري التماهي والبناء؟
- المؤتمر ما يزال بين خياري التماهي والبناء، لأنه حتى الآن لم يتمكن من توظيف إمكاناته، ولم يستوعب حالة الانتقال التي حدثت، كل قياداته التي كانت في الماضي ما تزال هي نفسها، وشيوع الفوضى في الأطر التنظيمية وفي التفاعل، يجعل من الحركة محدودة الأثر والتأثير. على المؤتمر أن يدرك أن المساحة التي كان يتحرك فيها لم تعد له وحده، هناك منافس قوي طرأ في المساحة، وغياب البعد الثقافي والوجداني من الاشتغال العام للمؤتمر، سيترك فراغاً يملأه غيره.. ومع الاحتكاك وطول المراس سيجد نفسه غريباً.

 علي عبد الله صالح.. ما سر صلابة هذا الرجل؟
- علي عبد الله صالح سياسي صقلته التجارب، وسر صلابته في حدة ذكائه، وقدرته على اقتناص اللحظات الفارقة، هو يستثمر لمعة اللحظة فيكاد يضيء، ولديه قدرة على معرفة النتائج من المقدمات.. هو يملك حساً ابتكارياً قلقاً، يجعل حركته في التنقل والاقتناص سريعة، ولديه كاريزما عجيبة أعادت إنتاجه في المشهد بقوة لم يكن يتوقعها خصومه.

 حجة بين مفردات الغياب.. حجة البلد الآيل للسقوط.. عناوين تراجيدية.. من تخاطب بهذه العبارات؟ هل في الأمر جلد للذات، أم إرسال برقيات عاجلة لمن يهمه الأمر؟
- هو جزء من الوفاء، وليس جلداً للذات. حجة بلد جميل تنازعته الصراعات السياسية، فكانت عامل تدمير، ولم تكن عامل بناء، وفي جزء من تلك الصرخات برقيات لمن يهمه الأمر.

 رسالة أخيرة، قول فصل، خلاصة، رسالة من أي نوع.. ولمن؟
- بدون ثورة ثقافية حقيقية، لا معنى لأية ثورة في الواقع.. اليمن تحتاج إلى أسباب النهضة، وليست بحاجة إلى تنمية عوامل الصراع.