امتطى صهوة جواده مبكراً وضبط بوصلته إلى فلسطين، ورغم الإصابة والاعتقال لسنوات طويلة إلا أنه ظل مناضلاً صلباً وعتياً متسلحاً بالإرادة والعزيمة والإصرار، مؤمناً بالمقاومة فكراً وقولاً وعملاً، وبحتمية الانتصار، وفياً لمبادئه التي سار على دربها بعد تحرره.
لقد شكّل الشهيد مثالاً في الوفاء والتضحية، فأخذ مكانته عن جدارة في قلوب وضمائر شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية، وإخوانه ورفاقه في كل الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية الذين عاشوا معه في سجون الاحتلال.
نتقدم إلى جماهير شعبنا اللبناني والفلسطيني وأمتنا العربية وأحرار العالم بأحر التعازي، وكل الغضب الثوري والتضامن الكفاحي، ونحن نودع الثائر المغوار والقائد العربي سمير القنطار.. ونجدد ثقتنا بقدرة المقاومة على الثأر لدمائه الطاهرة، والمضي على ذات الدرب والمسيرة.
أحمد سعدات
 الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 
معتقل في سجن رامون
مناضل فذ لا يكل ولا يستريح، مؤمن بقضية أمته العربية وكل قضايا التحرر العالمية من قبضة الشيطان، كان من الأشخاص الذين لا يحبون الاستعراض، عشق المقاتل ببعده الثوري، ولذلك اختار الكفاح المسلّح كخيار عملي وليس أيديولوجياً فقط، هذا العشق كان وقود صموده في المعتقلات الإسرائيلية، كتب يوما: (لست نادماً إلا على شيء واحد، هو أنني منحت في 1979م شرف الدفاع عن أمتي، لكنني حرمت فرصة الدفاع عن بيتي وأهلي وأرضي ووطني أثناء الاجتياح الإسرائيلي في 1982).
تحققت أمنيته بأن يصبح شهيداً، عناد حتى اللحظة الأخيرة، هذا هو عميد الأسرى وآخر المحررين (سمير القنطار) الذي اعتقله العدو الصهيوني عندما كان في منتصف السادسة عشرة من عمره، وأصبح شهيدا في عامه الـ53، إثر استهداف الطيران الحربي الإسرائيلي بخمسة صواريخ أطلقت عن بعد لمبنى كان يتواجد فيه القنطار في بلدة جرمانا جنوب العاصمة السورية دمشق، مساء السبت قبل الفائت (19 ديسمبر 2015).
ولد سمير القنطار في 20 يوليو 1962م لعائلة درزية ببلدة عبية - قضاء عالية (بلدة تحتل موقعاً استراتيجياً هاماً يشرف على العاصمة اللبنانية بيروت)، وهناك تلقّى علومه الأولى.
سجّل بطل الحرية والقضية أطول مدة اعتقال، ليتحوّل (عميداً للأسرى) في السجون الإسرائيلية، عاند همجية العدو، فأمضى أكثر من نصف عمره داخل أقبية السجون، وعاد حراً، قبل أن يُغتال.
يروي عدد من رفاقه أنه كان يتميز منذ صغره بشجاعة واندفاع، وكان يكتب تحت إحدى صوره عبارة (الشهيد سمير القنطار)، ووفقاً لوثيقة أعدّتها عائلته، (شارك سمير في التصدي والقتال ضد قوات الاحتلال في الطيبة إبان الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان العام 1978)، فخلال الحرب الأهلية التي كانت تنهش لبنان، والاقتتال الداخلي يتنقل بين مساحاتها، اختار سمير مقاومة الخطر الأول (العدو)، فلم يشارك يوما في الحرب الداخلية، بل وجّه بندقيته نحو إسرائيل).
1979م عام مفصلي. ففي 22 أبريل، نفذ القنطار (عملية القائد جمال عبد الناصر) مع ثلاثة من رفاقه هم: عبد المجيد أصلان ومهنا المؤيد وأحمد الأبرص، كان سمير قائد العملية برتبة ملازم في (جبهة التحرير الفلسطينية)، اخترقت المجموعة رادارات العدو وترسانة أسلحته، منطلقة من شاطئ صور، بزورق مطاطي صغير من نوع (زودياك)، وكان هدف العملية الوصول الى مستوطنة (نهاريا) وخطف رهائن من الجيش الإسرائيلي لمبادلتهم بمقاومين معتقلين في السجون الإسرائيلية.
في هذه العملية، استطاعت المجموعة اختراق حواجز الأسطول السادس ورادارات حرس الشاطئ، مع الساعات الأولى للصباح وصلت المجموعة الى شاطئ نهاريا، حيث تتواجد أكبر حامية عسكرية، إضافةً الى الكلية الحربية ومقر الشرطة وشبكة الإنذار البحري ومقر الزوارق العسكرية الإسرائيلية (شيربورغ)، اقتحمت المجموعة إحدى البنايات العالية، وانقسمت قسمين، اشتبكت بداية مع دورية للشرطة أثناء محاولتها دخول منزل يملكه جنرال إسرائيلي، وبعد ذلك اشتبك أفراد المجموعة مع دورية شرطة إسرائيلية، وتمكنوا من قتل أحد ضباطها.
استطاعت المجموعة أيضاً أسر عالم الذرة الإسرائيلي داني هاران، واقتادته الى الشاطئ، ووقعت المعركة الرئيسية عند الشاطئ، عندما حاول القنطار الاقتراب من الزورق، فأصيب بخمس رصاصات في أنحاء جسده، استقدمت قوة العدو وحدات كبيرة من الجيش، ودارت اشتباكات عنيفة إثر احتماء سمير بالصخور ونجاحه في إطلاق النار على قائد قطاع الساحل والجبهة الداخلية الشمالية في الجيش الإسرائيلي الذي جرح بثلاث رصاصات في صدره، وطمست إسرائيل خبر إصابته بجروح بالغة، لكن بعد عشرة أعوام، صرّح الجنرال تساحور للصحف الإسرائيلية: (لن أنسى طيلة حياتي وجه الفدائي الذي أصابني بثلاث رصاصات في صدري. إنه من دون شك سمير القنطار).
الحصيلة النهائية للعملية رست على 6 قتلى، بينهم عالم الذرة داني هاران، و12 جريحاً، أما أفراد العملية فقتل منهم اثنان هما أصلان والمؤيد، واعتقل القنطار والأبرص، وأطلق الأخير عام 1985م إثر عملية تبادل.
بدأ مشوار القنطار مع التعذيب منذ اللحظة الأولى، ففي رسالة من داخل سجنه، شرح قصة تعذيبه قائلاً: (لقد صلبت عارياً على حائط، وبدأ جنود الاحتلال يمارسون فنون القتال على جسدي).
هناك بدأت المقاومة عند القنطار، تأخذ منحىً جديداً، تنقل بين الكثير من المعتقلات الإسرائيلية: الصرفند، عسقلان، بئر السبع المركزي، الجلمة، الرملة، والجنيد، إلى أن استقر في معتقل هداريم قرب نتانيا. خاض نضالات من داخل المعتقل، وبشهادة الأسرى الذين تحرروا، وسبق لهم أن رأوه في المعتقل: (كان قوي العزيمة معنوياته عالية ونصيراً للسجناء).. ويقول سمير في إحدى الرسائل: (رغم السنين الطويلة داخل المعتقل، لا أزال مرفوع الرأس، صامداً بشرف ورجولة أعتز بهما كثيراً).
في كتاب (قصتي) يروي القنطار: (كنت على مشارف الـ17 من عمري عندما اعتقلت.. نجحت في متابعة تحصيلي العلمي داخل السجن، وفي 1992م التحقت بجامعة تل أبيب المفتوحة التي تسمح بانتهاج أسلوب التعلم من بعد، وتخصصت بمادة العلوم الإنسانية والاجتماعية، وأنهيت دراسة الإجازة في حزيران 1997م عبر بحثين، الأول: (المفاجآت العسكرية في الحرب العالمية الثانية)، والثاني: (تناقض الأمن والديموقراطية في إسرائيل)، في 1998م طلبت متابعة دراستي العليا في جامعة خاصة موجودة في إسرائيل، لكن إدارة السجن رفضت بحجة أنه لا يمكنني الدراسة إلا في جامعة عبرية كي يتسنى لها مراقبة مضمون موادي).
جرت عدة عمليات تبادل، ولم يطلق القنطار، تارة بسبب التعنت الإسرائيلي، وتارة بسبب رفض الجهات المفاوضة إطلاقه. وفي 7 تشرين الأول 1984م، خطفت (مجموعة من رفاق سمير) سفينة (أكيلي لاورو) الإيطالية، وكان على متنها رعايا أميركيون وإسرائيليون، وطالبوا بأن يطلق القنطار مع عدد من الأسرى.. في تلك المرحلة كانت إسرائيل مستعدة لإطلاقه، لكن المفاوضات مع الخاطفين فشلت لظروف أمنية وسياسية، أهمها رفض أية دولة عربية دخول السفينة المختطفة مياهها الإقليمية.
إزاء هذا التعنت، حاول الإسرائيليون بشتى الوسائل تطبيق عقوبة الإعدام بحق القنطار، وجد الإسرائيليون أنفسهم أمام معضلة قانونية، إذ إن قوانينهم لا تسمح بالإعدام، لتحكم بعدها المحكمة الإسرائيلية المركزية في 28 كانون الثاني 1980م، على القنطار بخمسة أحكام مؤبدة خيالية، أضيف إليها 47 عاماً، أي ما يعادل 542 عاماً!
وفي 16 يوليو 2008م، أفرج عن القنطار في إطار صفقة تبادل بين (حزب الله) وإسرائيل، وشملت أيضاً 4 أسرى لبنانيين من أفراد (حزب الله) ألقي القبض عليهم في حرب تموز 2006م، إلى جانب تسليم الكيان الصهيوني 199 جثة للبنانيين وفلسطينيين وآخرين، مقابل تسليم (حزب الله) جثتي جنديين إسرائليين قتلا في عملية (الوعد الصادق) في تموز2006م.
في ذلك اليوم، خرجت شخصيات لبنانية رسمية وعامة لاستقباله، وتوالت الاحتفالات في عدد من المناطق، للاحتفاء بـ(العميد)، ونقل قريبون من القنطار يومها أن أحد مشائخ الطائفة الدرزية قال له: (لماذا لا تبقى على دينك وتحمل إلى طائفتك صورة المقاوم المشرّفة؟)، فرد عليه القنطار: (في إمكانكم كل يوم أن تنتخبوا مقاوماً إذا ما أردتم ذلك).
حياة رغيدة لمقاتل حر لم يشبه أحداً، كان الماضي النضالي الناصع يلاحقه، لم يكن مرحبا به من قبل الجماعات الإسلامية المتطرفة المرتبطة مع الامبريالية/ الصهيونية، ففي منتصف أغسطس 2012م، هاجم عشرات السلفيين بالعصي والهراوات مشاركين في مهرجان لنصرة الأقصى في مدينة بنزرت التونسية، احتجاجاً على حضور المناضل القنطار وتصريحاته في تونس بأن ما يجري في سوريا يهدف الى بسط الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية في المنطقة.
(لن آخذ من وقتكم كثيراً ولن أتكلم كثيراً، حكم على الاحتلال الصهيوني 30 عاماً سجناً لأني لا أتكلم كثيرا). 
هكذا استهل عميد الأسرى كلمته في يوم القدس العالمي من قصر المؤتمرات بتونس، لم يتكلم طويلاً لكنه أطلق رسائل كانت مثل السهام الملتهبة تجاه كل من انخرط في سايكس بيكو واستبدل المقاومة بالبترودولار. 
جاءت كلمة عميد الأسرى مباشرة بعد كلمة ممثل حماس الذي ووجهت كلمته بالمقاطعة وصدحت الأصوات أثناءها بشعارات معادية لقطر ومن سار على ركبها: (عملاء الامبريالية هزوا يديكم على القضية)، (فلسطين عربية لا حلول استسلامية)، (مقاومة مقاومة لا صلح ولا مساومة)، (الشعب يريد تحرير فلسطين)... 
كما قام الحضور بتمزيق علم الاحتلال الفرنسي لسوريا وطردوا مجاميع الإخوان المسلمين الذين قاموا بشتم القنطار ورفعوا هذه الأعلام من القاعة، لترفع بعدها أعلام تونس ولبنان وفلسطين وسورية وحزب الله وصور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. 
في ذلك اليوم طمأن عميد الأسرى الشعب التونسي على حال المقاومة، ووجه كلمات التحدي:
- (لن نهتف في يوم القدس سوى للقدس، وأتحدى الغنوشي أن يخرج في يوم القدس العالمي ليعلن أن تونس رأس حربة في مواجهة الكيان الصهيوني، وإن فعل ذلك سنكون جميعاً وراءه).
ثم وجه سهماً قاتلاً لممثل حماس حين قال له: (لا تنسى أن تذكر بأن سلاح غزة كان من سورية).
واختتم كلامه: (أينما اشتممنا رائحة نتنة فإنها رائحة البترودولار وآل سعود).
لم تكن (سوريا العروبة والصمود) ملجأه، بل كانت انطلاقته المتجددة الى المقاومة، فحين دعا الأمين العام لـ(حزب الله) السيد حسن نصرالله في 9 أيار 2013م إلى (فتح جبهة الجولان) في سوريا، كان القنطار أحد أبرز كوادرها الأساسية، لاسيما في منطقة القنيطرة قرب الجولان المحتل، وفي العام 2014م، أوردت صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية أنه (خلال الحرب في سوريا بنى (حزب الله) بنية تحتية في منطقة الجولان، ويتولى إدارة هذه الشبكة اسمان تعرفهما إسرائيل جيداً: المسؤول الأول هو جهاد مغنية (نجل المسؤول البارز في الحزب عماد مغنية، الذي استشهد مع عدد من مقاتلي الحزب في غارة إسرائيلية في سوريا في يناير الماضي)؛ والثاني هو سمير القنطار).
استشهد هذا المناضل العظيم، وتوالت مع خبر استشهاده بيانات التبريكات بنيله هذا الشرف الذي تمناه هذا المقاتل القومي/الأممي، من المئات من المنظمات والحركات والأشخاص التحرريين الثوريين على مستوى العالم، مقابل بعض تغريدات عبرت عن تشفيها باستشهاده جاءت من أذيال الصهيونية كـ: النوبلية توكل كرمان ربيبة الوهابية، ومهرج وسفيه قناة الجزيرة فيصل القاسم المدنس بعمالته لقطر وتنظيم داعش الإرهابي.
هكذا كان ولايزال قنطار البطولة في وجدان أعدائه وأعداء الحرية، في سبتمبر الفائت صنّفته وزارة الخارجية الأميركية (إرهابياً دولياً).. وبالتأكيد لم ينسه الكيان الصهيوني، ففي مأثورة لرئيس الوزراء الصهيوني مناحيم بيغن (زعيم الهاجاناه الإرهابية): (في ما يتعلق بسمير القنطار، فإننا نفكر بانتقام لم يخترعه الشيطان).
ويوم استعاد هذا الرمز النضالي حريته، تحقق فشل إسرائيل في الانتقام منه، ولكن بعد 7 أعوام، تمكن منه (الشيطان).