المسيح السوري
 

ماريا سعادة

ماريا سعادة / لا ميديا -
عندما قرأت هذه الكلمات خُيل لي أنني أحلم أو أنني رأيت فيما يرى النائم، فبعد أن اكتظ رأسي بالجنون الذي أراه على الشاشات وتلاطمت بنو أمية ببني أمية مثل تلاطم  قرون الثيران بقرون الثيران، وملأ الطنين أذني من كثرة ما سمعت عن السنة والشيعة وعن السني المتفوق  كأنه مخلوق نيتشه المتفوق، أو السوبرمان... بعد كل هذا تحس أن كلمات هذه السيدة  تشبه طعم الثلج في فم النار. 
أحسست أنني كمن انتقل من نشرة كابوسية إلى أغنية حالمة عن الحب والربيع، وأدركت أننا كشعب أحوج ما نكون اليوم للحب الذي يجب أن يشفينا، فالنفوس المريضة بالكراهية صارت تجعل الحياة كريهة والإيمان كريها، والله لا يشبه الله، وتنقل عدوى الكراهية.
هذه إذن في يوم القيامة دعوة لاستراحة من ضجيج الحقد والكراهية وأغنية بني أمية وبني عثمان والسنة والشيعة والثورة وارفع رأسك فوق التي تبيع الوهم. هذه الكلمات دعوة لتقول: ارفع روحك فوق، ارفع قلبك فوق، وتعال إلى أرض المسيح السوري.
“اغفر لهم يا أبت، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون”. هذا ما قاله يسوع الناصري السوري على الصليب بعد رحلة عذاباته ودرب آلامه إلى الخلاص، ثائراً من أجل الحق والحرية.
لم تطالب مريم العذراء بثأر ابنها، وهي الأم الحزينة المفجوعة والثكلى. ولم يطالب معتنقو المسيحية وأبناء المسيح السوريون بالثأر من قتلة المسيح عبر تاريخهم، تماماً كما فعلت الكثير من الأمهات السوريات الثكلى والآباء الذين فقدوا أبناءهم بالقتل والتعذيب وأمام أعينهم، وقد سمعت شخصياً الكثيرين منهم يسامحون قتلة أبنائهم علناً.
فاجأني صفحهم رغم الألم.
أذهلني الحب الذي يحملونه ليمتلكوا القدرة على الصفح، فيسامحون فيه من قتل فلذات أكبادهم من أجل خلاص شعبهم، من أجل سورية، في مقابل أكلة الأكباد الذين يتلذذون بالقتل والتعذيب وإراقة الدماء.
هم أبناء المسيح في الإيمان، رغم أنهم ليسوا من المسيحيين، فمن عرفتُهم ينتمون إلى كل الأديان والطوائف دون استثناء؛ لكنهم أبناء هذه الأرض التي جبَلتهم بالمحبة والعطاء كما جبلت المسيح قبلهم، فالمسيح لم يأت من كوكب آخر، فهو ابن هذه الأرض، فقد عاش ونهل من هذه الأرض السورية قيمها التي تراكمت حضارة آلاف السنين.
إنهم أبناء سورية التي علمتهم الإيمان، فهم يؤمنون، يؤمنون بالمحبة طريقاً للخلاص، هم يؤمنون بأن لا خلاص بالقتل ولا بالثأر، بل بالحب. فمن ظُلِم وتعذب لا يرضى أن يظْلُم أو يعذِّب، ومن يمتلك القدرة على الحب لا يعرف الكراهية أو الثأر، فالكراهية لا تولد إلا الكراهية، والحقد لا يولد إلا المزيد من الظلم.
هذه ثقافتنا السورية الأصيلة قبل الأديان السماوية. هذه ثقافة المسيح السوري. فمن أين جاء حجم الكراهية والحقد الذي نعيشه اليوم والذي لا يشبهنا؟! من أين استورد؟! ومن أي موروث حقن؟!
لا يشبه سورية التي ننتمي لها. لا يشبه موروثنا السوري الأصيل الذي حملناه آلاف السنين وحمله المسيح قبلنا فأعاد إنتاجه قيماً ودروساً للإنسانية جمعاء.
لم يأت يسوع ليدعو الناس إلى الإيمان به، بل ليدعو الناس إلى الإيمان بأن المحبة هي طريق الخلاص.
لم يأت يسوع ليعلم الناس اتباعه هو، بل ليدلّهم على اتباع طريق الحق والتضحية في سبيله.
جاء ثائراً على الظلم، مناضلاً من أجل الحق، وقاهراً الموت بالموت ليعلم الناس مفهوم الحياة الحقيقي.
جاء ليكون مثالاً لعذاباتنا من خلال درب الآلام في العبور من مفهوم العذاب والموت من أجل الحق والحرية إلى القيامة والحياة.
جاء ليعلمنا الشجاعة في الكلمة والثبات في الإيمان.
هو ذاته درب الصليب الذي ساره المسيح السوري على أرض فلسطين إلى الجلجلة جباراً قاهراً الموت، يعبّده اليوم الكثير من أبنائه على هذه الأرض بدمائهم الطاهرة بكل شجاعة وإيمان.
فكم من أم ثكلى فجعت عبر درب آلام سورية الثكلى! وكم فقدت سورية من أبنائها!
هو ذاته الطريق الذي نسيره وحدنا عندما نحمل قضايانا وندافع عنها، في زمن الباطل والنفاق.
فكم من يهوذا في حياتنا يبيعنا من أجل المال ويسلمنا؛ لكنه سيندم بعد فوات الأوان!
وكم من بطرس ينكرنا ونحن في التجربة سيبكي من عذاب الضمير فقد خان كلمة الحق!
جاء يسوع ليقدم لنا حياته مثالاً لنتعلم منها ونسير على نهجه السوري الأصيل، لا لنعبده وننسى إخوتنا في الإنسانية.
جاء ليخلصنا من عبودية الدين إلى عمق الإيمان.
والإيمان نهج ويقين في القيامة.
هذه هي سورية اليوم، تعيش مخاض الآلام في طريق الخلاص والقيامة.
وهذا هو إيماننا جميعاً، نحن السوريين، الذين نحمل هذا الموروث الأصيل، مسيحيين كنا أم مسلمين.
هذا هو إيماننا في مفهوم الخلاص.
فالإيمان هو ليس في وجود الله أو لا، بل إن الله محبة، والإيمان ليس في التعبد لله وإنما في اليقين بالخلاص في اتباع طريق الحق بكل شجاعة، والقيامة حكماً آتية.
فديننا سوري، وثقافتنا مسيحية. الثقافة السورية الأصيلة هي محبة وعطاء وشجاعة وحق وتضحية وبذل، وهي أيضاً ثورة على الظلم والقهر ورفض الخنوع والانهزام والذل. هي قهر الموت من أجل التحرر من قيود الكراهية والحقد. والفارق بين الثأر والثورة وبين الحقد والحرية كالفارق بين الأرض السماء. ولكني لا أعلم إن كنا فعلا قادرين على أن نصل إلى عظمتك في الحب أيها المسيح لنقول: “اغفر لهم يا أبت لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون”!
وهل نحن قادرون على أن نمتلك الشجاعة لنثور على نهجك من أجل الحق رغم درب الآلام! فالسوري الأصيل دينه سوري وثقافته مسيحية على نهج المسيح، فسوريتنا هي نهج حياة وإيمان.

نائبة سابقة في البرلمان السوري

أترك تعليقاً

التعليقات