شرحبيل الغريب

شرحبيل الغريب / لا ميديا -
مفاوضات شاقّة ومعقّدة خاضتها حركة حماس طيلة الفترة الماضية، ‏جولات مكوكية انطلقت تفاوض فيها متمسّكة متسلّحة بثوابت وأسس ‏واضحة، على رأس مطالبها إبرام صفقة تبادل للأسرى ووقف الحرب ‏على غزة والانسحاب الكامل والشامل وعودة النازحين والإغاثة العاجلة ‏وإعادة الإعمار، كانت توازيها على الأرض ملحمة بطولية خاضتها كتائب ‏القسام ومعها فصائل المقاومة شمال غزة وتحديداً في مخيم جباليا وبيت ‏حانون سطّرت فيها أروع صور البطولة والشجاعة وكسرت فيها شوكة ‏‏»جيش» الاحتلال الإسرائيلي وجبروته‏‎.‎
تعثّرت جولات المفاوضات مراراً وتكراراً بسبب خداع ومراوغة نتنياهو ‏وشركائه وحساباتهم السياسية التي كانت حاضرة في كلّ جولة، لكنها ‏حكمة المفاوض وعناده كانت أيضاً حاضرة في توظيف وتعزيز آليات ‏التفاوض وأوراق القوة لديه واستخدامها لورقة الأسرى الإسرائيليين في ‏كلّ جولة لصالح انتزاع حقوق الشعب الفلسطيني، ومعها يناير الدامي على ‏‏«إسرائيل وجيشها» الغارق في وحل غزة، وبسالة وقوة الميدان لكتائب ‏القسام وكتائب المقاومة التي لقّنت «جيش» الاحتلال الإسرائيلي دروساً، ‏وألحقت به هزائم متتالية جعلته في حال ارتباك كبيرة خالفت نتنياهو وكلّ ‏حساباته وخطة جنرالاته وجعلت النصر المطلق أكذوبة العصر، وهو ‏غارق في وحل غزة بعدما وصل عدد قتلاه في شمال غزة وحدها إلى ‏أكثر من 50 جندياً وضابطاً ومئات الجرحى الذين تساقطوا في ألغام ‏وكمائن المقاومة هناك، إذ كانت تدرك قيادة حماس وهي تفاوض أنّ ‏الاحتلال يمكن أن يعود في أيّ لحظة للحرب، ولكنها فاوضت من موقف ‏قوة ميداني عسكري في ظلّ صمود أسطوري وملاحم بطوليّة سطّرها ‏أبطالها وهم يحصدون الرؤوس من الجنود والضباط‎.‎
يقول آفي أشكنازي المحلل العسكري لـ»معاريف» الإسرائيلية في هذا ‏السياق: «إنّ ثمن الدم الذي ندفعه في شمال قطاع غزة لا يُطاق أبداً، لم يعد ‏لدى «إسرائيل» ما تفعله في أيّ جزء من غزة، لا في الشمال، ولا في ‏الوسط، ولا في الجنوب. يجب على «إسرائيل» أن تبرم فوراً صفقة ‏تبادل وتنهي الحرب في غزة‎».
تشير التطوّرات المتسارعة إلى أنّ التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق نار في ‏قطاع غزة بين حماس و»إسرائيل» قاب قوسين أو أدنى، وسط تساؤلات ‏بشأن أسباب ارتفاع منسوب التفاؤل هذه المرّة ودلالات ذلك مع قرب ‏تنصيب الرئيس دونالد ترامب‎.
ثمّة متغيّر سياسي استجدّ على الساحة السياسية والدولية شكّل عاملاً مهماً ‏في سياق العملية التفاوضية إضافة إلى ما ذكرت، بعدما ضاق الخناق على ‏رقبة نتنياهو وشركائه، في لحظة وصلت فيها المفاوضات إلى ذروتها ‏أصبحت هناك صفقة كاملة وجاهزة للتوقيع، هو نجاح الرئيس الأميركي ‏دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية الأخيرة، وإرساله طاقماً لمتابعة ‏سير العملية التفاوضية بشكل خاص ومن ثمّ إرسال مبعوثه ويتكوف إلى ‏‏»إسرائيل» للقاء نتنياهو وإيصال رسالة بضرورة المضي قدماً في صفقة ‏تبادل ووقف لإطلاق النار، فقد وضعه ترامب أمام خيار وحيد هو الموافقة ‏والقبول بصفقة تؤدّي إلى وقف إطلاق النار في غزة والانسحاب منها، فما ‏الذي تغيّر ولماذا الآن؟‎
هناك عوامل داخلية وخارجية جعلت المشهد أمام صفقة وشيكة قد يعلن ‏عنها في أيّ لحظة، داخلياً فقد تحدّث الرئيس ترامب عن الجحيم قبل أن ‏تحترق أهم مدن أميركا، وحريق لوس أنجلوس جعل إدارة الرئيس ترامب ‏أكثر حرصاً على وقف الحرب لأنّ أولوياتها اختلفت وحجم الكارثة بات ‏أكبر بكثير مما شاهدناه، والنار التهمت كلّ شيء ومعها شعرة معاوية بين ‏الحزبين الحاكمين في أميركا والإدارتين المتعاقبتين وستبدأ معارك داخلية ‏لا نهاية لها‎.
أمّا خارجياً، فقد وضع ترامب نتنياهو أمام خيار وحيد بضرورة الإذعان ‏والموافقة على إنهاء حرب غزة، وقد أعطى مدة خمسة عشر يوماً لعقد ‏اتفاق وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2735 الذي ترعاه أميركا والذي ‏ينصّ بشكل واضح على انسحاب «إسرائيل» من غزة ووقف إطلاق النار، ‏وبالتالي هذه المدة تصبح إلزامية أمام نتنياهو للذهاب إلى اتفاق وقف ‏إطلاق نار، وأنّ استمرارها بهذا الشكل سيؤثّر سلباً على مكانة الإدارة ‏الأميركية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وخططها ومشاريعها ‏وطموحاتها‎.‎
دخول ترامب على معادلة المفاوضات يعدّ مستجدّاً مهماً، كما عبّر ‏ويتكوف في تصريحه فور وصوله إلى المنطقة أنّ مكانة ترامب وخطوطه ‏الحمر التي وضعها هي التي دفعت المفاوضات إلى الأمام، وقد ظنّه ‏البعض أنه يصبّ لصالح نتنياهو، لكنّ ويتكوف الذي وصل «إسرائيل» ‏مؤخّراً أوصل رسالة صريحة لنتنياهو وفق ما كشفه الإعلام الإسرائيلي ‏مفادها أنّ تهديدات ترامب بجعل المنطقة جحيماً تشمل «إسرائيل» أيضاً، ‏وبالتالي يمكن قراءة هذه المعادلة بأنّ ترامب يريد من وراء الدخول ‏المباشر على خط المفاوضات أن يحفظ «إسرائيل» من جنون نتنياهو ‏ويدعم «إسرائيل» من جنوح التطرّف الأعمى الذي يقوده نتنياهو وشركاؤه ‏والذي يهدف إلى جرّ «إسرائيل» إلى حروب مستدامة في منطقة الشرق ‏الأوسط، ويدفع الإدارة الأميركية الجديدة إلى التورّط فيها بشكل مستدام ‏وهو ما ترفضه إدارة ترامب، والشاهد هنا أنّ الجميع رأى كيف كانت ‏إدارة الرئيس بايدن خلال عام ونصف العام مضت مستنزفة في منطقة ‏الشرق الأوسط بسبب الحرب على غزة ولبنان‎.‎
هناك سبب مهم في هذا السياق هو إدراك الإدارة الأميركية أنّ استمرار ‏الحرب على غزة بهذا الشكل وكلما امتدّت وطالت ستكون لها انعكاسات ‏سلبية على «إسرائيل» أولاً التي باتت معزولة منبوذة، خصوصاً في هذا ‏التوقيت بعدما لم تستطع تحقيق الهدفين الرئيسيين منها وهما إعادة الأسرى ‏الإسرائيليين أحياء والقضاء التامّ على حركة حماس والمقاومة، ثم ‏انعكاساتها على الإدارة الأميركية الجديدة التي ترى أنه من الخطأ استمرار ‏الحرب بهذا الشكل، وأنّ لديها خططها المستقبلية المغايرة لهذه التوجّهات ‏التي تقوم على إشعال المنطقة في حروب مستدامة سواء مع غزة أو لبنان ‏وسوريا‎.
العدّ التنازلي بدأ والخيارات أمام نتنياهو تضيق، والحسابات الإسرائيلية ‏أمام هذا المشهد المقبل في ظلّ وجود الرئيس ترامب جعلتها أمام خيار ‏واحد هو الموافقة والقبول بصفقة تؤدّي إلى وقف إطلاق النار في غزة ‏كما حصل في بيروت، وهذا نابع من عدة أهداف أوّلها الحصول على ‏وعود ترامبية بثمن أكبر من حرب غزة ينسجم مع توجّهات ترامب ‏ومشاريعه وخططه التي أعلنها في حملته الانتخابية التي قال بوضوح إنه ‏يرغب بتوسيع خارطة «إسرائيل»، ويتمثّل الطموح الإسرائيلي في الحصول ‏على أثمان وليس على ثمن واحد قائم على عناوين ثلاثة‎.‎
العنوان الأول هو ضمّ الضفة الغربية إلى «إسرائيل» وقد بدأت مؤشّراته ‏تتضح من خلال إقامة مستوطنات في المناطق المصنّفة‎ B ‎وجعلها تحت ‏السيادة والسيطرة الإسرائيلية الكاملة، كما حصل على ضمّ الجولان ‏السوري في ولاية ترامب الأولى، والرهان على إعادة تفعيل مشاريع ‏واتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول في المنطقة والحديث يدور عن ‏السعودية وباكستان وإندونيسيا، والثمن الثالث ضمان مواقف أميركية أكثر ‏تشدّداً مع إيران وملفها النووي‎.‎
ستمضي الصفقة وقد بدأت التحضيرات لها من الأطراف كافة، لكنّ الشاهد ‏هنا أنّ غزة التي عاشت أبشع إبادات العصر الحديث لم تستسلم أو تسلّم ‏الراية، لم تهزم، وحماس لاتزال قادرة على ضرب المحتل بكلّ قوتها ‏واستطاعت ضرب مستوطنات القدس المحتلة بعد أكثر من 460 يوماً ‏واستمرار عملياتها الموجعة الي جانب صمود أسطوري لأهل غزة حتى ‏النهاية‎.
إذن مهما حاول نتنياهو المراوغة أو الالتفاف من جديد في أيّ مرحلة كانت ‏فلا خوف أبداً على المقاومة، التي يشهد الأعداء أنفسهم أنها تتجدّد وتنوّع ‏من خططها، على قاعدة إن عدتم عدنا وفي جعبتنا وفرة من أسراكم الجنود ‏والضباط وقدرة لا محدودة على الصمود، في وقت باتت فيه غزة تسطّر ‏مجداً في معركة التحرير والكرامة، أمام الحال الذي وصلت إليه «إسرائيل» ‏في قطاع غزة، وهو ما يؤكّد عجزها وانكسارها أمام إرادة شعب فلسطيني ‏صامد ومقاوم‎.‎

أترك تعليقاً

التعليقات