إشراف وتحرير: علي عطروس -

السنوار أيقونة المقاومة الفلسطينية
قدّم هذا المقاوم الفلسطيني سيرة حياة مثالية، ليكون أيقونة نادرة في تجسيد البطولة والفروسية والشجاعة من جهة، ووضوح الرؤية والبصيرة وفهم جوهر الصراع مع الكيان، الذي فهمه كما لم يفهمه قادته، وجمع إلى ذلك قدرة قيادية استثنائية، سواء في كسب ثقة وحب المقاومين، أم في تخطيط وتنظيم وإدارة العمليات وتوظيف قدرات المقاومة البشرية والمادية
لصناعة نقاط تحول مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية.
سيكتب التاريخ أن هذا المقاوم كان مهندس الحدث الذي أعطاه عنوان «طوفان الأقصى»، فتحول إلى أهم حدث عربي وعالمي لعام كامل وأكثر، وقلب المعادلات وغيّر اتجاهات السياسة، من مناخ كان عنوانه النجاح في تهميش القضية الفلسطينية وفتح مسار التطبيع مع الكيان وشرعنة الاحتلال، إلى عكس الإتجاه وإعادة وضع القضية الفلسطينية على رأس جدول الأعمال الدولي والعربي، وإثبات أن أي ترتيبات للمنطقة لا تأخذ بالاعتبار حقوق الشعب الفلسطيني ليست إلا سراباً لا يقبل الحياة.
نجح السنوار في إثبات قدرة المقاومة على كسر المهابة التي صُنعت لجيش الاحتلال ووُصف بـ«الجيش الذي لا يُقهر»، فمرغ أنفه ووجهه في وحل لن يمسح عنه صورته مدى الحياة، عبر الطوفان الذي منحه سنوات عمره بعد تحريره من الأسر، إعداداً وتخطيطاً وتحضيراً وتنفيذاً، ثم منحه حياته شهيداً بعد عام من المقاومة، وفتح عبر الطوفان الباب لنقاش لن ينتهي في الكيان حول المأزق الوجودي، فمن يضمن الأمن للكيان، ومن يضمن له البقاء، ما دام بمستطاع الفلسطينيين أن يعيدوا فعل ما فعلوه في يوم الطوفان؟! ومنح الفلسطينيين بالمقابل الأمل باستعادة بلدهم وحقوقهم طالما أنه قدّم لهم المثل بما يستطيعون فعله وما يترتب على هذا الفعل.
فتح السنوار الطريق واسعاً أمام وعي شعوب العالم لحقيقة القضية الفلسطينية عبر هذا الحدث الدرامي الضخم الذي هز العالم، وما ترتب عليه من انكشاف العمق الإجرامي المتوحش لكيان نجح عقوداً طويلة بتقديم نفسه بصورة المظلومية والمدنية والحضارة، وها هو ينكشف بأكثر صورة تعبر عن حقيقته العنصرية الدموية القاتلة للحياة، وها هي شعوب العالم، وشبابها خصوصاً، يتعرفون على أحقية الشعب الفلسطيني ومظلوميته، ويقبلون سرديته التاريخية للحق والاحتلال والعنصرية وحرب الإبادة، لتولد على يدي حرب السنوار معادلات ثقافية جديدة تحملها الأجيال الشابة لم يعد ممكناً تجاوزها.
حرم السنوار عدوه من ادعاء التفوق الاستخباري واكتشاف مكانه والذهاب إلى قتله، فقد استشهد بقذائف ورصاص الاحتلال وهو يحمل بندقيته ويقاتل كمقاوم، ولم يتعرف عليه جيش الاحتلال ومخابراته إلا بعد استشهاده، فاتحاً الباب للصورة الموازية، وهي صورة القائد المقاتل الذي لا يحتمي كما قال الاحتلال بالأسرى ويجلس داخل نفق محصن متخذاً من هؤلاء الأسرى دروعاً بشرية تحميه.
كما قدّم السنوار في الأسر صورة القدوة المناضل والصابر والقيادي، فكان عنصر توحيد بين أسرى المقاومة الفلسطينية والعربية، وكان شغله الشاغل تعلم المزيد عن الكيان خلال الأسر، وكيفية تحويل الأسر من تحدٍّ الى فرصة، فأتقن لغته وعرف عنه الكثير وكتب الكثير وأعدَّ خطته لقلب الطاولة، ونجح بعد تحريره في إعادة صياغة معادلات حركة حماس والقسام لحساب أولوية هذه الخطة، فحرر «حماس» من عقدة الذنب التي مثلها الموقف الخاطئ من الحرب على سورية، وقادها نحو موقعها الطبيعي في قلب محور المقاومة، وصولاً إلى ساعة صفر الطوفان، فكان له من محور المقاومة هذا الإسناد حتى الاستشهاد الذي جسده بأبهى صورة القائد الكبير السيد حسن نصر الله، بينما توجت قائد حماس الشهيد إسماعيل هنية الذي كان رفيق دربه وشريكه في مسيرته والمؤتمن على قيادة الحركة حتى سلمه الأمانة ومن بعدها الشهادة.
خلف السنوار مقاومة مستمرة أثبتت أنها لا تسقط القضية مهما كانت الكلفة، وشهادة القائد ستزيدها صلابة، وهي تثبت في الميدان استحالة أن ينجح الاحتلال في بسط سيطرته على قطاع غزة، وما يرتكبه الاحتلال من جرائم يومية يمنح المقاومة مزيداً من اليقين بأن قدر الفلسطينيين هو النصر أو الشهادة، بينما لن يكون سهلاً الوصول إلى صفقة تبادل تعيد أسرى الكيان بغير الشروط التي وقف عندها السنوار، علماً أنه وحده كان يملك قدرة التفاوض على شروط أعلى أو أدنى، ومعه تفويض المقاومين، بينما لن يكون لمن يخلفه هذه القدرة وستكون أي عملية تفاوض أشد تعقيداً وصعوبة.
غزة كما لبنان بوابات حروب مفتوحة لا يستطيع الكيان أن يحلم بتحقيق إنجازات سياسية أو عسكرية فيها، ولن يستطيع إنهاء الحرب إلا بالتراجع، وكلما مر المزيد من الوقت زادت كلفة التراجع، كما زادت كلفة الاستمرار بالحرب، وهذه لعنة اسمها لعنة السنوار، وسوف تلاحق الكيان وقادته.

ناصر قنديل



السنـــــوار مـــــات **
«مات المناضل المثال
يا ميت خسارة على الرجال
مات الجدع فوق مدفعه
جوّى الغابات
جسد نضاله بمصرعه
ومن سكات
لا طبالين يفرقعوا
ولا إعلانات
ما رأيكم دام عزكم
يا أنتيكات
يا غرقانين في المأكولات
والملبوسات
يا دفيانين ومولعين الدفايات
يا محفلطين.. يا ملمعين
يا جيمسنات
يا بتوع نضال آخر زمن في العوامات
ما رأيكم دام عزكم
مات البطل..
ميتة رجال
لا طنطنة
ولا شنشنة
ولا اعلامات واستعلامات
**
عيني عليه ساعة القضا
من غير رفاقه تودعه
يطلع أنينه للفضا
يزعق ولا مين يسمعه
يمكن صرخ من الألم
من لسعة النار في الحشا
يمكن ضحك أو ابتسم
أو ارتعش أو انتشى
يمكن لفظ آخر نفس
كلمة وداع
لاجل الجياع
يمكن وصية
للي حاضنين القضية
في الصراع
صور كتير ملو الخيال
وألف مليون احتمال
لكن أكيد ولا جدال
...
موتة رجال!
**
خلاص خلاص
ما لكوش خلاص
غير بالبنادق والرصاص
ده منطق العصر السعيد
عصر الزنوج والأمريكان
الكلمة للنار والحديد
والعدل أخرس أو جبان
ياتجهّزوا جيش الخلاص
ياتقولوا عالعالم خلاص


أحمد فؤاد نجم
**  من قصيدة «جيفارا مات»





لمَ تحتفلون يا أبناء الحرام؟!
استُشهد يحيى السنوار!
قُتل وهو يدافع عن دينه وأرضه وعرضه وحقه وآدميته!
«الإسرائيليون» فعلوا ذلك!
هم الذين خططوا. هم الذين أقدموا
هم الذين تبنوا. هم الذين نفذوا. وهم أيضاً مَن أعلنوا!
لم يُقتل في لبنان. لم يُقتل في إيران.
لم يُقتل في العراق. لم يُقتل في اليمن...!
بل قُتل هناااااااك، بعيداً... في البقعة غير المستكشفة!
في الأرض المنسية. في آخر معاقل الشرف وأول فجوة للعار. في أرض غزة!
لقد قُتل السنوار في غزة!
اليوم يوم فرح ومرح في «إسرائيل»!
والليلة ليلة صاخبة مزخرفة!
عليها أن تكون كذلك!
يجب أن تكون كذلك!
ليسوا صهاينة إن لم تكن كذلك!
هذا أمر متوقع، مفهوم، بديهي!
ما لا أفهمه هو حضور بعض العرب إلى الحفلة!
ما سبب سعادتهم؟! لا أدري!
السنوار مسلم عربي سني!
لا يسب الصحابة، لا يشتم أم المؤمنين
يضم في صلاته، يقول آمين
يظن السديس رجل دين، وأن لحاكم طاهرة!
لم يقتل أطفال سوريا... هل فعل؟!
كلا!
لم يقاتل أهل السنة والجماعة في العراق!
لم يقف بصف الحوثي المجوسي في اليمن!
في الواقع لطالما كانت حماس بصفكم!
قاتلت النظام السوري، أيدت تحالف عهركم
عارضت الحشد العراقي!
لِمَ تحتفلون إذاً؟!
ما هذا الجنون يا أبناء الحرام؟!
تعويذة أية مشعوذة يمكنها فعل هذا؟!
أي تميمة لعينة تنتج هذا العهر والسقوط؟!
تدجين عنزة وإدخالها إلى الحظيرة يتطلب جهداً أكبر من عملية تجريدكم من دينكم وشرفكم وآدميتكم!
ما الذي تفعلونه؟!
إلى أين أنتم ذاهبون؟!
هل تعون نهاية هذا الطريق؟!
أمكم تُغتصَب وأنتم تتبادلون التبريكات!
مرحى! تهانيّ لكم! أنتم قوادون بحق!
لكنكم لستم في منأى من العاقبة!
لحاكم النجسة لن تشفع لكم
كما أن مؤخراتكم المترهلة لن تتسع لفتاواكم!
سيأتي ذلك اليوم
وما يواسينا أننا لن نهتم!
ما هي جريرة هذا الرجل؟!
لا شيء، سوى أنه وجّه بندقيته إلى صدر الصهاينة!
لقد أثبتت «غزة السنوار» أنكم أعداء للسنة والشيعة
للعرب والفرس
للكل والجميع!
لم تهزم المقاومة، بل أنتم انهزمتم!
لقد ظهر كفركم أيها الدخلاء!

مالك المداني




الشهيد الذي توسّم فيه «الشيخ» وجه فلسطين
قد تشكّل السير الذاتية للأشخاص مدخلاً لفهم الكثير مما يدور في المناخات المحيطة بهم، وأيضاً لفهم العديد من التناقضات التي تعتري البيئة التي يولدون ويترعرعون فيها. هذا في العموم، فكيف الأمر إذا ما كانت تلك الثنائية، المناخات والبيئة، تستحضر صراعاً بات من الصعب اليوم الاكتفاء بتوصيفه على أنه استنساخ لما جرى مع «الهنود الحمر»، الذين استطاعت «حضارة العرق الأبيض» تغييبهم عن الخريطة الديموغرافية لـ»العالم الجديد»؟!
كانت حياة الشهيد يحيى السنوار (1962 - 2024) مليئة بالمحطات الصعبة والمثيرة، ولعل ذلك مثّل انعكاساً مباشراً لـ»حياة» فلسطينه التي كانت هي الأخرى مليئة بالكثير من تلك المحطات. ولعلّ ما يلفت النظر في حياة الشهيد هو «شهر أكتوبر»، الذي شهدت فيه حياته كبرى محطاتها؛ ففيه كانت الولادة، وفيه انطلقت عملية «طوفان الأقصى» التي هزّت أركان المعمورة من أقصاها إلى أقصاها، وفيه نالت النفس، التي لم تعرف اللين ولا المهادنة في رفع الحيف عن شعبها، شرف الشهادة، تاركة وراءها إرثاً من البطولات، وهو لا يقلّ عن ذاك الذي اختزنته ذاكرات الأحرار في العالم عن إرث تشي غيفارا وهو تشي منه.
لفحت شمس تشرين جبهة السنوار للمرة الأولى في مخيمات الصفيح في خان يونس. وعندما كان في الخامسة، راحت الأذن تلتقط الهمسات الأولى عن «النكسة»، وما جرى فيها. وفي ما بعد سيترامى إلى مسامعها أن فعلاً سابقاً لهذه الأخيرة، اسمه» النكبة»، كان هو الذي أدّى إلى نزوح العائلة من مجدل عسقلان إلى غزة عام 1948، وأدّى بالتالي إلى العيش والتعلّم في مدارس «الأونروا» التي تعطي لـ«روادها» صفة «اللاجئين»، لا «المواطنين»، الأمر الذي خلق إشكالية في ذهنية الفتى الذي أخذ وعيه يتشكّل على خلفية «يوميات» العيش في تلك المناخات. ولعلّ الحلول الأولى للإشكالية المتقدمة كانت قد بدأت مع التحاقه بـ»الجامعة الإسلامية» التي استطاعت مناهجها رسم الآليات القادرة على التقليص ما بين المنزلتين، ولربما إلغاء الأولى كسبيل لا غنى عنه لإحلال الثانية محلّها.
من المؤكد أن لقاء السنوار بالشيخ أحمد ياسين، الذي جرى على الأرجح عام 1983 أو العام الذي سبقه، كان قد شكّل مفترق طرق بالنسبة إلى الخيارات الرامية إلى التقليص ما بين المنزلتين. وهي أفضت من حيث النتيجة إلى رؤية مفادها أنه «لا منزلة بين المنزلتين»: فإما أن تكون «لاجئاً» وإما أن تكون «مواطناً» بكل ما يعنيه هذا المصطلح الأخير من مشروعية لامتلاك الأرض والحرية والقرار. والمؤكد هو أن «الشيخ» كان قد توسّم في وجه السنوار صورة لفلسطين كما يراها، الأمر الذي يمكن لمسه في إطلاق يده لتأسيس جهاز أمني خاص بالحركة التي سترى النور عام 1987 وتُعرف بـ«حركة المقاومة الإسلامية» (حماس)، وهو لمّا يكمل سني عمره الخمس والعشرين بعد.
كانت سنوات الاعتقال الطويلة قد شحذت الرؤية وزادت صلابة العقيدة بأنه ما من حلول وسط ما «بين الجنة والنار». وما يرويه رفاقه الذين عاصروه في سجن «هداريم» في شمال فلسطين يشي بأن الوقت كان يمر على السنوار ثقيلاً داخل السجن، فيما عجلات الصراع كانت تدور سريعاً خارج الأسوار، حاملة معها الكثير من المتناقضات التي تبدأ عند الانتفاضة، ثم تمر بالحروب، قبل أن تصل إلى اتفاقات ليست بأكثر من سرابات سلام. لكن رغم ذلك، فقد بدت تلك الفترة مليئة بالكثير مما يشير إلى أن السنوار أتقن فعل «الحركة التي تُخلق من العدم». وما يؤكد ذلك هو أنه استطاع من سجنه «هندسة» وإدارة صفقة الإفراج عن جلعاد شاليط عام 2011، والتي استطاع من خلالها القذف بـ1027 من رفاقه خارج أسوار «هداريم» وغيره.
عزّزت صفقة شاليط مكانة السنوار؛ لكنّ الأحداث أثبتت أن الأخير كان ينظر إلى نجاحها على أنه «ناقص»، وأن «حماس قصّرت في استثمارها من حيث إنها قبلت ببقاء الآلاف من الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية»، وفقاً لما يرويه عنه عبد الفتاح دولة، وهو سجين «فتحاوي» معاصر للسنوار. ويضيف أن الأخير كان يعمل على «إكمالها» عبر «طوفان الأقصى»، وما إصراره على تحرير مروان البرغوثي إلا محاولة منه للبحث عن شريك من «فتح» يكون قادراً على متابعة الطريق إلى النهاية.
أراد السنوار تغيير مسار «أوسلو»، وهو جرّب المصالحة مع السلطة الفلسطينية؛ لكنه لم ينجح، وجرّب فك الحصار عن شعبه بشتى الوسائل ولم ينجح. ولذا، فإن خيار «الطوفان» كان حتمياً، وهذا الأخير شكّل انكساراً في مسار الهيمنة «الإسرائيلية» من النوع الذي يمكن البناء عليه لإنتاج مسارات انكسار أكبر وأكبر. وإذا ما كان قائد «الطوفان» قد استشهد، فإن «السفينة» «الإسرائيلية» الآن لا تجد جبل آرارات تأوي إليه.

عبد المنعم علي عيسى