«لا» 21 السياسي -
يعتقد الكثيرون أننا نمر بتجربة جديدة على التاريخ الإنساني، وهي تجربة انطلاق ثورة تحمل من الطوباوية أو المثالية ما لا يستطيع الكثيرون من النخب الفكرية تخيل إمكانية تطبيقه على الواقع.
لذا يولد لدى عامة الناس ما يسمى الحلم المثالي؛ ولكن مع الوقت يفرض الواقع قواعده التي يصعب تجاوزها، ويبدأ الحلم في التحول التدريجي إلى كابوس مزعج، فينقسم الناس بين رافض للواقع متمسك بالحلم وبين مصدوم يترنح بين الأمل واليأس والإحباط.
حقيقة الأمر أن ما نمر به ليس بدعاً بين الشعوب والتاريخ الإنساني؛ ولكن بسبب انغلاقنا الفكري لا نحاول الاستفادة من عبر ودروس الآخرين وتراثهم الفكري لنتفادى الوقوع في حماس الطوباوية أو اليوتوبيا المثالية غير القابلة للتطبيق في الواقع، وكذا لنتفادى الشعور بالانقلاب من حالة الحلم إلى الكابوس، والمعروف بالدستوبيا، وهو عكس حالة اليوتوبيا.
والدستوبيا كما اليوتوبيا رغم أنها نقيضها الموضوعي كونها حالة مفرطة في السوء والشر لكنها في الوقت نفسه غير قابلة للتطبيق في الواقع.
ويمكن القول بأن المذهب الدستوبي هو مذهب سلطتنا الحالية، التي تحاول التشبث بالسلطة بأي ثمن، وتطمح لفرض حالة من القمع والتكميم باعتبار ذلك أحد ضمانات ديمومتها وتثبيت أقدامها، على قاعدة: بما أن الجميع صامتون إذن فهم راضون أو بالحد الأدنى تم ترويضهم وإخضاعهم، بعصا القمع أو بجزرة المصالح!
ولكن في الواقع لا يمكن تطبيق اليوتوبيا الشعبية أو الوضع المثالي، ولا يمكن كذلك تطبيق الدستوبيا السلطوية في الواقع؛ لأن قواعد الواقع يضعها التاريخ، لأن الواقع هو نتيجة تراكمية للتاريخ ومحصلة له.
لذا ينحو الواقع نحو إعادة إنتاج التاريخ، وإن بصور وسيناريوهات مختلفة. ونحن نعيش اليوم واقعاً مشابهاً لواقع تأسيس الإمام يحيى للدولة اليمنية، حيث كان الإمام يحرص على بناء دولة مستقلة في محيط مُعادٍ من كل الاتجاهات. وهذا الحرص تجلى في أهمية مراكمة أسباب القوة، سواء سلاح أو إمكانيات، لتحقيق حلمه النهائي في بسط السيطرة على كامل تراب اليمن المعروف حاليا وأيضا على عسير وحتى عُمان، باعتبار كل ما سبق جزءاً من الحق التاريخي للدولة اليمنية.
لكن هذا الحرص الاستقلالي خلق حالة عزلة لليمن، وحالة جباية جائرة لا تتناسب مع قدرات الشعب على التحمل، ما خلق حالة تململ أسفر عنها حركة 48 التي أطاحت بالإمام يحيى، لتنتهي فترة اليوتوبيا، ولتبدأ فترة دستوبية نوعاً ما في عهد الإمام أحمد، الذي حاول التشبث بالسلطة عبر القمع الذي لا يتناسب مع الواقع اليمني. فخلق القمع حالة من الهشاشة في جسم السلطة استغلها الخارج لإعادة احتلال اليمن تحت مسمى ثورة سبتمبر.
نحن الآن نمر بالمحاولة الثانية لتأسيس الدولة اليمنية، والسير على نفس الطريق السابق في المحاولة الأولى لن يفضي لنتائج جديدة، بل سيعاد إنتاج التأريخ وإن بسيناريو مختلف.
توفيق هزمل