«لا» 21 السياسي -
كان السجن المبكّر هو بداية صحوة الشباب. وبدلاً من أن أرى السماء، رأيت الحذاء. نعم، رأيت مستقبلي على نعل الشرطي.
والآن حين أتذكر حفلات التعذيب وأنا في التاسعة عشرة من عمري، أتساءل: ما هي تهمتي بالضبط؟!
تعلمت أشياء كثيرة في السجن. تعلمت كيف أقول «آه»، ذقت طعم العذاب. والمثير أنني -أنا الذي لم أكمل تعليمي- قد تعلمت كثيراً من السجن والسوط العربي الذي بيد السجّان. السجن والسوط كانا معلمي الأول وجامعة العذاب الأبدية التي تخرجت منها، إنساناً معذباً خائفاً إلى الأبد.
السجن ليس بالأيام أو بالأعوام، إنما باللحظة.
أحسست بشيء ما بداخلي يتكسر، ليس الضلوع، لكنه شيء عميق. وفي الزنزانة زارني الخوف وعرفني، وأقام معي صداقة ما زالت قائمة بداخلي حتى اللحظة. صار الخوف يسكنني، وهرب مني الأمان لآخر لحظة في عمري. الآن حين يرن جرس الباب أشعر بالرعب، وحين يرن الهاتف أتوجس خوفاً...
بعد تجربة السجن فقدت براءة الإحساس بكل شيء؛ بالبشر والأحزاب والسياسيين ورجال الشرطة والشعراء...
كان السجن في مخيلتي مكاناً للمجرمين: السارق والقاتل وطالب الثأر. وهذا المجرم يعرف أنه محكوم بجناية معينة وعقوبة محددة يقضي وقته بصنع أطواق الخرز وتنتهي القضية. أما أن تُسجن وتُهان وتُعذّب بسبب فكرة! هذا ما جعلني أشعر بأن شيئاً تحطّم في أعماقي، غير الأضلاع، شيء أهم من العظام لا يمكن ترميمه على الإطلاق.
لو أنني استعملت عكازاً لكل عضو محطّم في أعماقي لاحتجت إلى «منجرة» قرب بيتي.
بداياتي الأدبية الحقيقية كانت في السجن، معظم الأشياء التي أحبها أو أشتهيها وأحلم بها رأيتها من وراء القضبان: المرأة، الحرية، الأفق...
أتحدى أي إنسان دخل السجن ولو يوماً واحداً، أن ينساه أبداً. نحن جيل رضع الإرهاب السياسي ولم يُفطم على أي حليب آخر. لذلك تراني مسكوناً بالذعر، وأي شيء يخيفني، حتى لو كان مجرد فاتورة كهرباء. فحين يصبح للإنسان قضية لا بد أن تتبعها «إضبارة أمنية».

مقتطفات من إجابة محمد الماغوط عن فترة سجنه (سجن مرتين 1955 لمدة تسعة أشهر - 1961 لمدة ثلاثة أشهر).