علي نعمان المقطري / لا ميديا -
خلفية الطوفان التاريخية
الاستعمار الغربي هو الحقيقة الكبرى التي سيطرت على مسارات الحياه الدولية والبشرية منذ 2500 عام، زمن خروج الرومان والجرمان والساكسون من أطرهم الجغرافية المحلية الأوروبية إلى احتلال شعوب القارات الشرقية الأخرى، وفي المقدمة الشعب العربي في شمال أفريقيا ومصر وسورية وآشور والعراق والجزيرة العربية، بعد أن كان البحر المتوسط بحراً عربياً فينيقيا خالصاً لا شريك فيه لأحد حين لم تكن هناك دول أخرى قوية في الطرف الغربي الآخر من البحر، حيث لم تكن قد ولدت هناك بعد الحضارة الغربية، التي استندت إلى الحضارة العربية الفينيقية الآشورية السورية الآرامية التي كانت تمتد إلى الجزر الغربية (والإيطالية الحالية) وإلى جنوب إسبانيا وشبه الجزيرة الأيبيرية والأندلسية.
وهذه حقيقة تاريخية لا ينكرها المؤرخون الغربيون، الذين يعترفون بأنهم قد نقلوا الحضارة بادئ ذي بدء من الشاطئ الفينيقي الآشوري الأرامي العربي، والدليل هو الأبجدية العربية الواضحة التي استخدموها -وما زالوا يستخدمونها حتى اليوم- ومعها الكثير من التعابير العربية والكلمات والمصطلحات العربية والحكمة العربية المنقولة إليهم والتي تجسدت في الفلسفة وحب الحكمة، وحوَت مختلف العلوم والمعارف الدنيوية والدينية، بل وفي أسماء المدن والقارات والأماكن والآلات والأعداد والأرقام وكل صنوف العيش الحضاري وغيرها.
وقد استمر الحال كذلك إلى الألف الأخير قبل الميلاد، حين تعرضت بلاد العرب للجفاف والتصحّر والتقلبات الجوية والمناخية التي أدت إلى الكثير من الأحداث والتطورات، ومنها الهجرات الواسعة وتمزّق بعض الدول القديمة وقيام أخرى جديدة والصراعات التي نشبت فيما بينها واستغلال الغرب للتنافس بين القوى والدول المحلية والقبلية والجغرافية المتعارضة المتباينة، وهو ما أغرى الغرب بالتفكير في التوسع شرقاً بعد أن طوقهم خطر توسعي جديد آخر من الشرق (لم يستمر طويلاً).
كان المهم هو الخطر الغربي الغريب الشرير القائم على الاستعباد والاسترقاق للشعوب الأخرى وجعلها تعمل سخرياً في مزارعه ومعامله ومحاجره بطريقة وحشية لم يعرفها البشر من قبل، وقد فرض معادلة واحدة غريبة هي أن «الحرية للروماني وحده، والعبودية لكل الآخرين في العالم»، أي الآسيويين والأفارقة، وهم أغلب البشر، وتلك كانت أهم معالم الحضارة الرومانية وثقافتها الشريرة الغريبة اللاإنسانية الاستكبارية الوثنية الشوفينية العنصرية الفاشية الاستغلالية التعصبية القاسية.
وفي العهد المسيحي المشوّه، بعد قضائها على المسيح ودعوته بدعم وخدمة من اليهود، حاولت روما الفاشية الوثنية أن تمنح نفسها وجها توحيدياً مقبولاً للناس وللشعوب الشرقية والعربية (مسروقاً مشوهاً)؛ لكنها لم تستطع أن تخفي وراءه ذلك الصلف الاستعماري القومي التعصبي الاستبدادي، رغم أنها حاولت أن تصبغه بصبغة دينية خرافية، فقد ظلت روما هي الوثنية الصريحة القديمة والجديدة المشوهة التي تنصرت لتضليل الشعوب والأمم وتصور نفسها أنها تنشر الدين الحق بين الشعوب المحتلة، وهو عين ما فعلته روما المعاصرة منذ بدأ الاستعمار الرأسمالي الحديث، حين حلت محل روما القديمة روما الجديدة، وإن أصبح اسمها محوَّراً قليلاً نتيجة توسع السكان وتزايدهم. ونمو العواصم الجديدة هذه كان محكوماً موضوعياً بتناقص وتزايد الخيرات في البلاد والأقاليم. وهذا لا يغير الحقيقة الثابتة الجوهرية لطبيعة روما الاستبدادية الاستعبادية المتوحشة العنصرية الفاشية الاستعمارية (سواءً كانت العاصمة روما القديمة أو بيزنطة أو لندن أو باريس أو واشنطن أو جرمانيا)، لا فرق بين حواضرها ما دام الجوهر واحداً.
لا يمكن عزل المعارك الكبرى بعضها عن بعض في تسلسلها التاريخي وامتداداتها، وخاصة في إطار السياقات المشتركة القومية الوطنية والجغرافية. وإذا دققنا في النظر وتعمقنا أكثر سنجد أن هذه المعارك لم تنقطع في الحقيقة طوال أكثر من 2500 عام ومنذ الغزو الروماني الغربي للشرق الفينيقي الأرامي السامي السوري الآشوري العربي وهي مستمرة تتجدد بأشكال وصور عديدة، وجوهرها واحد في الحقيقة يتمثل في الروح التوسعية الاستعمارية الغربية الاستعبادية الطابع والطبيعة.
هي لم تتغير كثيراً رغم توالي القرون والحقب، ما يعني أن هناك جوهراً ثابتاً دائماً في العلاقة القائمة بيننا وبين الغرب، يتجسد في أطماعه المادية التي لا يحدها حد أبداً، وما تعجز القوة عن نيله تلجأ إلى المؤامرات والحيل والدسائس والانقلابات والتخريب وإثارة وصناعة الفرقة الداخلية والحروب الأهلية بين الأمم والشعوب العربية والشرقية وبينها البين وبين أجزائها وإلى الحروب بالوكالة أيضا، تمهيداً لخلق الشروط والظروف التي تجعلها قريبة من أهدافها وأطماعها التوسعية الإمبراطورية، فهي دوماً تستخدم الأسلوبين معاً بالتناوب وهكذا. ويجب الاعتراف بأن الغرب قد وفّق في الكثير من مؤامراته، والبلاد التي تستعصي عليه طويلاً يسلمها إلى قوى محلية تؤدي دوره من وراء ستار محلي وديني وقومي وفئوي وطائفي وقبلي، حتى تجد الأمة أنها تواجه أبناء جلدتها في الصراع الملتبس الذي يديره من بعيد وخلف الوكلاء المحليين والإقليميين، حتى تتبلبل الأذهان وتزلزل القلوب وتلتبس الوقائع والحقائق على الناس البسطاء الذين يستخدمون في هذه المشرعات الإمبريالية كحطب ووقود حروب، يرون رأس الأمر ولا يلمحون جذوره وأبعاده ويبنون عليه في التباساته.
ولكن لماذا كان العربي هكذا؟!
لأن قادته ونخبه كانت قد انحرفت عن الصواب ووقعت تحت سيطرة القوى الأقوى منها في الداخل والخارج، بعد أن فقدت أسباب قوتها ووحدتها وعادت يحارب بعضها بعضاً وتقاتل نفسها وتتفاخر به لأسباب تافهة لا قيمة لها تتضخم في مخيلاتها وتتحول إلى قضايا وجودية كقضايا الموت والحياة، وخاصة في الفترة التي عادت فيها من الحضارة والقوة إلى البداوة والضعف والفرقة والتقاتل على العشب والمياه وتسترق لدويلات تابعة أجيرة للروماني والساساني الإمبراطوري الأجنبي لاستئناس شعوبها وأهليها. هذا كان شأن المناذرة والغساسنة، وهم أقوام يمنية معروفة في عهود التأخر والضعف والتبعية الأجنبية.
لم يكن الأمر كامناً في ضعف العرب واليمنيين، بل في تفرقهم وفي أفكارهم وعقائدهم الباطلة المسيطرة، وفي المصالح الحياتية الضيقة التي غرقوا فيها، والدليل أنهم ما إن أشرق نور الإسلام المحمدي استعادوا وحدتهم وقوتهم ووعيهم واجتاحوا العالم شرقاً وغرباً ليقيموا منارات الحضارة العالمية الإنسانية، وليهدوا الإنسان إلى طريق التقدم الإنساني والعدالة والإخاء والحرية والتحضر والمدنية والمساواة والارتقاء والمحبة والنور، هو نفسه العامل المؤثر الحاسم؛ ولكن الوحدة الصحيحة لا تأتي إلّا بالعقيدة الحقة والفكرة الصحيحة والرؤية الواضحة والمنطق العقلي السليم.
هكذا قضى العربي قرونا من التمزّق والتبعية والقهر وسيطرة الأجنبي، بعد أن سلبت منه أغلب أراضيه في الشمال والشرق والغرب وعاد يتركز في صحارى الجزيرة العربية ويمنها ونجدها، حيث ظلت عصية على السيطرة الأجنبية حتى أضاء نور الحق مجدداً الطريق بعد ليل طويل، وانبلج الصباح، وأشرقت أنواره في الجزيرة العربية، وعاد للعرب كيانهم وكرامتهم وحقوقهم واعتبارهم في إطار الدين الجديد الشامل، وتم تحرير الأرض العربية في الشام والعراق والشمال الأفريقي ومصر، التي كانت قد وقعت تحت النير الروماني الغربي قروناً طويلة، وتم تحطيم الإمبراطوريتين الاستكباريتين اللتين كانتا تسيطران على بلاد العرب القديمة وتفرضان عقائد وثنية وباطلة ومحرفة وتستعبدان الأمم والشعوب المحلية بواسطة بعد الجماعات القبلية والإثنية المرتزقة المجندة في جيوشها وتتمتع بحمايتها في وجه شعوبها.
كان سقوط ساسان حاسماً ونهائياً وكاملاً وجذرياً، فلم يعد لها قائمة، لأن الإسلام قد جاء ليحرر شعوبها من الارستقراطيات المستكبرة المحلية. أما في الغرب فقد كان الأمر مختلفاً، حيث حافظ الرومان الغربيون على نفوذهم الداخلي في أوروبا محتمين بالبحر المتوسط الواسع الكبير وانشغال المسلمين بصراعاتهم الداخلية قد ألهتهم عن مواصلة التقدم بعيدا خلف جبال الفرنجة بعد فتح الأندلس نحو الغرب، فتمكن الرومان من إعادة بناء قواتهم ونفوذهم مجدداً والتحصّن خلف جبالهم وغاباتهم، واكتفى الملوك العرب والمسلمون بما قد فتحه آباؤهم، وآثروا الراحة والدعة وقطف ثمار ما تحقق دون إضافة جديدة إليه؛ ولكن الغرب لم يكتف ولم يقبل العيش بسلام في داخل الحدود الجديدة المتكونة التي أنتجتها الصراعات، بل ظل يطمح لإعادة احتلال الأراضي العربية التي تحررت من سيطرته في إطار النهضة الإسلامية الجديدة.
وهكذا أعد جيداً لحرب الغزو الصليبية في القرون الوسطى، بعد أن رأى أن المسلمين قد نكبوا بالعديد من النكبات الداخلية وتفرقوا إلى طوائف ودويلات ومذاهب وقبائل وإمارات وعصبيات تتقاتل بينها البين ولا تتوقف، فشن الغرب حروبه الاستعمارية التي لم تتوقف إلى اليوم، وهو مازال يطمح إلى استعادة إمبراطوريته الغاربة بشتى الوسائل والأحابيل، تارة باسم "تحرير قبر المسيح"، وتارة باسم "إنقاذ الصليب في فلسطين وبيت المقدس"، وقد فشلت تلك الدعاوى فلم تحقق النتائج المرجوة منها، ما كرس وحدة العرب بأديانهم السماوية المختلفة ووقوفهم إلى جانب بعضهم في جبهة مشتركة واحدة ضد الأجنبي وأطماعه، وتعرض الغزو الصليبي لهزائم نكراء على أيدي جيوش المسلمين العرب في الشام ومصر وشمال أفريقيا والجزيرة العربية واليمن والعراق، وتبلورت وحدة العرب مجددا على أرضهم الحرة ودحرت جحافل الصليبين المهزومة خلال القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين.
وكان المسلمون والعرب قد تعرضوا لخطف الخلافة والحكم من قبل أمراء القبائل المملوكية العسكرية التركية المغولية التي استعانوا بها ليضعفوا الحضور العربي والفارسي في الجيوش الإسلامية وفي الدولة، والتي ادعت دخولها الإسلام وحمايتها للحكم العباسي الضعيف في آخر عهده السلاطيني الاستبدادي الإقطاعي الفاسد كنتيجة من نتائج فساد الملوك المسلمين وخروجهم عن المنهج المحمدي الصحيح والحق بعد أن أضيعت الخلافة عن أهلها وعترتها المحمدية المعلومة لتصل إلى أيدي المستقوين من قادة الجند من المماليك الإقطاعيين والمرتزقة المجندين في الدولة حتى وصلت إلى الترك العثمانيين لتضع المسلمين تحت نير الاستبداد العثماني باسم الدين والمذهب والقومية والعرق والعصبية الطورانية والعلمانية، لمدة 500 عام تقريباً هي البلاء كله: التأخر والاستبداد والعصبية والتأخر العلمي والثقافي والظلامية... استمرت حتى مطلع القرن العشرين حين سلمت النفوذ والسيطرة بعد هزائمها إلى الاستعمار الغربي البريطاني الفرنسي، لتدخل البلاد العربية تحت الهيمنة الغربية الأنجلوفرنسية ومعها فلسطين وبلاد الشام التي كانت هي المستهدفة الرئيسية في تلك الحرب الاستعمارية الضارية، بعد أن استخدمت عملاءها بين العرب من الشريف حسين والسلطان عبد العزيز بن سعود وجيوشهما القبلية للسيطرة على الجزيرة العربية (الشام وفلسطين) ووضعها تحت الاحتلال البريطاني الفرنسي المشترك مقابل منحهما دويلات صغيرة ليحكماها باسم بريطانيا وفرنسا اقتطعتاها لهما من فلسطين وسورية لتسكتاهما عن مواصلة المطالبة بالاستقلال العربي التام، وليصمتا عن معارضة تسليم فلسطين لليهود مقابل الأموال والنفوذ واقتطاع إقليم الأسكندورنة العربي لتركيا الطورانية الكمالية مقابل تحولها إلى المعسكر الغربي وإلغائها نظام الخلافة الدينية العثمانية وترك وتسليم البلاد العربية للاستعمار الغربي.
وهكذا بدأت المؤامرة الكبرى الحديثة الغربية التي مازالت تواجهها أمتنا العربية والإسلامية المعذبة منذ قرن. لقد أسلمت البلاد العربية والإسلامية إلى السيطرة الأجنبية الاستعمارية الغربية الحديثة الممتدة في الرومانية الجرمانية الفرنجية الساكسونية الأصل والجذور، وأوروبا الجديدة هي امتداد لتلك الجذور والأصول القديمة التي بدأت منذ ثلاثة آلاف عام وحتى القرن الحالي لم يتغير سوى الأشكال والوجوه والدعاوى والأساطير، أما الأصل الجوهري فيظل كما هو لم يتغير، فمازال الغرب كما هو لم يتغير في أطماعه وأهدافه وإن تغيرت الأساليب وتعقدت. أما البيئة والقوى القومية العرقية فمازالت تنقل راية السيطرة والقيادة من فرع استعماري إلى فرع آخر من نفس الأرومة الأوروبية المهيمنة الساعية خلف أحلام الاستعمار العالمي للآخرين من العرب والمسلمين والشرقيين وثرواتهم ومواقعهم وبحارهم، ومازالت، وبعد أن فشلت أساليب الاستعمار المباشر العسكري لجؤوا أخيراً إلى السياسة الاستيطانية الشيطانية الصهيونية المموهة، والانغماسية العائلية المتهودة، والمستعربة، والمتأسلمة زوراً وبهتانا لتخفي حقائقها وجواهرها عن أعين العرب والمسلمين ولتسهل تضليلهم، ووقفوا هم خلفهم، خلف تلك الكيانات الشيطانية التي أقاموها وموهوها جيداً بالكثير من المساحيق والألوان والشعارات التضليلية الخادعة الدينية والمذهبية والقبلية والشوفبنية، ولذلك وبعد قرن من الصراع مع الاستعمار مازالت القضية الرئيسية هي القضية الفلسطينية، ومازالت فلسطين هي الجرح الدامي الأكبر للأمة العربية والإسلامية وللإنسانية، حيث تندمج في القضية الفلسطينية كل القضايا والمظالم الوطنية والدينية والإنسانية مجتمعة لكل أطراف الأمة العربية والإسلامية معاً.
إن فلسطين هي العنوان الأكبر والأعظم لمعاناة العرب والمسلمين من قبل الغازي البريطاني الصهيوني الأمريكي الغربي، فقد رأى المستعمر أن فلسطين هي الموقع الحاسم المتقدم الذي يجب أن يسيطر عليه بشكل دائم ويستوطنه بواسطة مرتزقته كقاعدة دائمة وثابتة تقسم الوطن العربي وتمنع اتحاد أقسامه وأطرافه في دولة واحدة قوية مستقلة، ولذلك فإن السيطرة على فلسطين هي التي تمكن الاستعمار من البقاء في بلادنا كلها بعد أن حولت إلى أكبر قاعدة عسكرية عدوانية استعمارية في المنطقة، وكان ثمن ذلك هو تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه وإزالته من الخريطة السكانية، وإلغاءه فعلياً بالمذابح الدورية الدائمة، ليتحقق حلم واستراتيجية المستعمر الغربي في إبقاء العرب متفرقين ضعفاء متخلفين مهزومين تحت حكام عملاء أقامهم المستعمر وربّاهم على يديه وعينيه وحماهم ويحميهم في وجه الشعوب العربية.
حقائق الحرب تكمن عميقاً في التاريخ والجغرافيا
إن دراسة الحرب الجارية في غزة تبتدئ من دراسة أم معارك هذه الحرب الجديدة التي شكلت خرقاً استراتيجيا وتكتيكيا ميدانياً في بنية وتكوين الكيان الغاصب الذي لم يعانِ مثلها من قبل، منذ مائة عام من قيامه وتكوينه في عباءة الاستعمار الأنجلوأمريكي الفرنسي على قاعدة مؤامرات ومخططات "بلفور"، و"سايكس بيكو"، "وسان ريمو"، و"عصبة الأمم المستعمرة" وجيوشها مطلع القرن الماضي، قرن النهب والطغيان ومازال، ولذلك يجب إبراز أبعاد هذه المعركة الأسطورية التي كرست عصراً جديداً طال انتظاره وتراكمت تضحياته وأحلامه مستغرقةً قرناً من الكفاح والنضال والقتال والتضحيات دون توقف حتى بلغت الملايين من أزهار وفلذات الأمة وأبنائها.
أم المعارك الكبرى.. اجتياح الأسوار الحاجزة
كانت تلك أم المعارك الكبرى هي الهجوم الثوري المذهل الجريء الذي شنته المقاومة صباح الـ7 من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بواسطة قوة عسكرية ثورية عقائدية تتكون من 1300 مقاتل جرى تدريبهم وإعدادهم بعناية فائقة، لعدة سنوات سابقة بسرية تامة.
سنوات من التدريب والتخطيط والإعداد والبناء والسرية التامة والتضليل الاستراتيجي الكامل للعدو ومخابراته وأجهزته وجواسيسه المنتشرين على طول القطاع، وخداع جميع طائراته وأنظمته السيبرانية والتجسسية وأقماره الصناعية التي تغطي كل زاوية من غزة وفلسطين وجوارها، وكانت تلك العوامل من السرية والتضليل والتخطيط والإعداد والمعرفية والانضباطية الشديدة الصارمة للقادة والجنود والكوادر هي أهم شروط نجاحها بشكل هائل، وجعلها مفاجئة للعدو وللصديق، وتعتبر أهم حدث عسكري في هذا العام وفي المنطقة، ولم يسبقها حدث بمثل خطورتها منذ سنوات طويلة وعقود، بل هي إذا تعمقنا في أبعادها وأطرافها ومراحلها وخططها وتحركاتها وتكتيكاتها الميدانية وأدواتها تشكل آية عظمى من آيات الجمال والإبداع البشري الثوري لم ترقَ إليه قوة عسكرية من قبل ولم تنجزه بنفس الدقة والإبداع والتكامل والسرعة والتناسب والوتيرة الحركية التصعيدية، ما جعل قيادة العدو عاجزة عن التصديق واستيعاب ما حدث في الميدان.
ولأول مرة في الحرب تنجز وحدة صغيرة من المحاربين القلائل مسلحين بأسلحة متقادمة قليلة متواضعة هذا الانتصار على قوة حديثة كبيرة قوامها آلاف الجنود والدبابات والمدرعات والمدافع والرشاشات والطائرات والبوارج الأحدث في العالم والأقوى والأكبر، فكيف استطاعت أن تنجز ما أنجزته خلال ساعات وتخرق كل تلك الحواجز والسدود، وتعطل كل الأجهزة الإنذارية والدفاعية للعدو؟! إن ذلك سيكون مثار أبحاث علمية لوقت طويل!
استمرت العملية العسكرية العظمى عدة ساعات، بعد أن اجتازت قوات المقاومة السياج الحديدي الأول حول غزة ثم اندفعت داخل "مستوطنات" غلاف غزة الممتدة خلف السياج الفاصل التي يحتلها "المستوطنون" الصهاينة منذ نكسة 1948، ولتواجه القوات الصهيونية المتمركزة في "المستوطنات" وتشتبك معها في معركة ضارية طوال النهار ثم تتغلب عليها وتأسر وتقتل وتجرح الآلاف من جنوده وقادته وتأخذ الأسرى بالمئات من قادته وكوادره، في سلسلة من الأحداث الأسطورية التي تختلط فيها الحقيقة بالخيال والواقع بالأسطورة.
يجب أن نقسم هذه الأحداث إلى عدد من الخطوات العملية لكي تتضح الصورة العامة للمعركة بكل أبعادها، بدءاً من القرار والرؤية الاستراتيجية للمعركة المأمولة وأهدافها وتكتيكاتها، إلى الخطة التنفيذية العامة، خطة الإعداد ومرحلتها، خطة التنفيذ ومرحلتها، سير العملية والعودة الآمنة في نهايتها، والاستعداد للدفاع عن القواعد الأساسية مجدداً بعد إنجاز المعركة الكبرى المفتاحية، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات والقضايا التفصيلية والتكهنات والتوقعات التحليلية حول الدوافع والنتائج والأبعاد والمدى والآفاق، مدى قدرة المقاومة على الصمود أمام الهجوم المضاد الشامل للغازي المتفوّق التسليح والقوى والتقنيات والإمكانات، ولماذا العودة بعد إنجاز العملية الهجومية الكبرى تلك...؟!
كل تلك التساؤلات تثيرها العقلية الشعبوية البسيطة الإدراك. أما المقاومة وقيادتها فهي تدرك جيداً الأبعاد والقدرات والممكنات التي تفرزها كل مرحلة في تطور المقاومة وقواها وبرامجها وخططها المدروسة بعناية وبعمق وتأنٍّ ورؤية جماعية مشتركة وبروح الفريق الجماعي المشترك الواحد بالمعنى الشامل الاستراتيجي لقوى المقاومة في الإقليم كله كقوة مشتركة يصيبها جميعاً ما يصيب قسماً أو جزءاً منها ويعنيها جميعاً ما يحققه أي طرف منها، وخلف كل عملية قتالية، ولو بسيطة متواضعة، لا تقف حركة وحدها إلَّا من حيث الميدان التنفيذي التكتيكي والجغرافي فقط، فقانون الكفاح الأكبر وقاعدة الحرب والنصر الكبرى هي الوحدة والتحالف والتعاون والتلاحم وتبادل الدعم والمساعدة والخبرات والقدرات والإسناد المادي والمعنوي بين جميع الحركات والقوى المقاومة للاستعمار والصهيونية والاستكبار، واعتبار العدو مشتركاً واحداً متلاحماً موحداً على مستوى العالم.
حرب المقاومة من الدفاع إلى الهجوم
إن ما جرى في "غلاف غزة" صبيحة الـ7 من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 كان تحولاً استراتيجيا في إدارة الحرب التحررية الوطنية وانتقالها من طور إلى طور جديد مختلف عما سبقه، وإن ظل في إطار الحرب الدفاعية الاستراتيجية وهو أساس الفكرة الهجومية التكتيكية، لأنه ليس من السهل التحول فجأة من وضع قتالي أساسي إلى وضع آخر مختلف فجأة ثم العودة إلى الوضع السابق خلال ساعات محدودة والبقاء في إطار نظرية الحرب الدفاعية الاستراتيجية، وهي الهجومية تكتيكياً.
وتشير إلى أن طوراً من أطوار الحرب قد تم تجاوزه إلى طور جديد، فالطور السابق الذي كانت المقاومة تلتزم به في القتال والحرب الدفاعية، كان يطبع الحرب بالطابع الدفاعي الثابت، إذ إن المقاومة كانت لا تقاتل إلَّا من مواقعها، إذا شن عليها العدو هجوماً برياً مباشراً بالقوات البرية التي تتجاوز سياج الفصل العنصري القائم بين المنطقتين (منطقة تمركز العدو، ومنطقة دفاعات المقاومة) أي قطاع غزة وغلافها باعتبار أن هنا تقع منطقة المقاومة الفلسطينية القاعدية المسيطر عليها ثورياً والمحررة، وسقوطها يعني التغلب على المقاومة ودحرها منها، أي إعادة احتلالها مجدداً، ولذلك فإن الحرب قد فرضت نظرياتها الموضوعية ومنطقها المستقل وقواعدها بحسب قوات وقدرات الطرفين المتحاربين، أي العدو الغازي والمقاومة المدافعة، فالغازي يقف في موقف المهاجم أو الهجومي، لأنه يهدف إلى احتلال المزيد من الأرض العربية، ولأنه يملك من الطاقات والقدرات القتالية الحربية ما يساوي ألف ضعف ما تملكه المقاومة الفقيرة البسيطة التسليح، ولذلك يستطيع هو أن يباشر الهجوم في الوقت الذي يختاره، أما المقاومة فلا تستطيع المهاجمة خارج الغلاف المحدد المسيج بالسياج الفاصل بين المنطقتين، والجيوش وقياداتها وخططها مقيدة، أياً كانت بحجم قواتها وأعدادها ونوعياتها وقدراتها وإمكانها وحلفائها العالميين والإقليميين والمحليين وجماهيرها وبيئتها الشعبية وسكانها وعددها ومدى مشروعية قضاياها وأحقيتها ومعنوياتها وخبراتها في القتال والحرب واستخدام الأسلحة وحداثيتها وتراثها وثقافتها العسكرية الكفاحية وكرامتها الوطنية، وعزة نفسها وشيمها وفروسيتها وتاريخها ورجولتها وشجاعتها ورفضها الضيم والقهر ونزوعها إلى الحرية والاستقلال، وتجتمع هذه العوامل الرئيسية في ثلاثة معايير رئيسية، هي: العديد، الأسلحة، والمعنويات؛ ولكن هذا بالنسبة للجيوش التقليدية النظامية التي تتبع الدول، حيث الطرفين يتقاتلان على مكان متوسط بينهما، جيشا دولتين يتحاربان على مناطق حدودية بينهما... ولا ينطبق هذا على جيوش الشعب الثورية المقاومة المسلحة الخاصة التي تستطيع أن تهزم جيوشاً أقوى منها من حيث العدد والآلات والأسلحة إذا كانت على أرضها وبين سكانها.
فتح مجيد وعصر جديد
لقد كان يوم الـ7 من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 مدخلاً لعصر جديد في تاريخ المقاومة العربية الثائرة على أعدائها ومحتليها، وله ما بعده، فلن تعود الأمة كما كانت عليه قبله، ولن تبقى جامدة على ما كانت الأوضاع عليه في المنطقة والإقليم والعالم، فقد قلبت تلك الملحمة الكثير من الأوضاع الفاسدة المنحطة والمهينة المذلة السابقة ورمتها إلى سلة المهملات، فلم يعد العربي المقاوم على ما كان عليه قبل التاريخ المذكور، وأول الأوضاع الجديدة اليوم هي الانتقال من الحالة الدفاعية إلى الحالة الهجومية عسكرياً، ومن حالة السكون التكتيكي الدفاعي إلى حالة الحركية الحربية الهجومية، ومن حالة الانتظار لأفعال العدو والرد عليها إلى استباق أفعال العدو الحربية والتقدم عليه بخطوات في ميادين الحرب والصراع..
ومن حالة المفاجأة بهجمات العدو والاضطرار للتكيف مع نتائجها كيفما اتفق وأمكن حسب المطايا التي لا نسيطر عليها سلفاً إلى حالة من التخطيط الطويل الجاد والمضني للعمليات الكبرى، ومن حالة الدوران داخل العش المحلي الداخلي الضيق وعلى حدوده التي فرضها العدو المحتل إلى حالة من توسيع ميدان المعركة وإعداد الميدان القتالي بما يتناسب وقدرات المقاومة على الفعل والإنجاز والاختراق، ومن حالة فرض المعركة علينا متى أراد العدو إنجاز خططه ووفر قدراته ولاءمته الظروف والأحداث والتحالفات الإقليمية والدولية إلى حالة جديدة هي نقل المعركة إلى الجغرافيا المحتلة وداخل «المستوطنات» وداخل مراكز قياداته وقطاعاته المحاربة ومؤخراتها وخطوطها الخاصة ومدنه وقواده الحربية وعواصمه الحصينة التي كانت عصية في الماضي، ومن الانتظار الطويل للفوز بأسر جندي أو مستوطن «إسرائيلي» للمفاوضة على إطلاقه مقابل الإفراج عن عدد من أسرانا الذين أكل عليهم الدهر وشرب منذ عقود إلى الدخول الجريء والاقتحام المباشر لعرين الوحوش والسباع والسيطرة عليه مع كل أسلحته وقواته.
لقد نقلنا يوم الـ7 من تشرين الأول/ أكتوبر المجيد إلى عالم جديد يجري التأسيس له من الآن في الميادين المتفجّرة والساحات الدامية اللاهبة، وسوف يكتسح كل هذا الركام الجائر الوسخ من الماضي الإمبريالي الرجعي الاستعماري العفن التبعي الحقير الذليل، وسوف ترتفع رايات الحرية والمقاومة خفاقة عالية على مآذن القدس والأقصى ويافا وحيفا وطبريا والجولان ومزارع شبعا وكفر شوبا وصفد والجليل الأعلى والأدنى، وكما خرج الصليبيون مدحورين من بلادنا بعد قرن من الاحتلال والسيطرة على الأراضي المقدسة، فسيخرجون ثانية مهزومين مطرودين أذلة خاسئين كما خرج أسلافهم قبل قرون من هذه الأرض العربية الطيبة.
إن ما جرى ويجري في غزة إنما هو خروج من عهد إلى عهد جديد آخر مختلف عما سبقه، خروج من عهد الجمود والانتظار إلى عهد الخلق والإبداع والمبادرة وفرض واقع جديد، أهم سماته هي تحول المقاومة العربية إلى الهجوم بعد فترة طويلة من الدفاع، واجتياز مرحلة التأسيس إلى مرحلة الإبداع والتخليق وفرض إيقاعات الحروب ومعاركها وإجبار الخصم على أن يرقص على أنغامها وحركاتها وأصدائها، وفقاً لما تريده من تكتيكات واسترتيجيات تحقق أهدافها وأغراضها من عهد كانت الأمة فيه تتحمل من العدو الضربات إلى قوة تكيل الضربات لعدوها سابقة له بخطوات وخطوات.
من عهد كانت الأمة تشكو باكية على أعتاب الأمم الظالمة المتحدة إلى مصدر لإخافة وردع العدو وإرهابه وإبكائه دماً مما يتعرض له من هجمات ميمونة وضربات مسددة موفقة تصل إلى قلبه وأطرافه ومراكزه. من عهد كان العدو فيه قوة مرهوبة مخيفة ترعب كل دول المنطقة إلى قوة أوهى من بيت العنكبوت وأضعف من خيمة خرقاء لا يقوى على الوقوف إلا بالاستناد على الدول الاستعمارية كلها.
خلاصة مائة يوم من الحرب
الحرب حربان: فوق الأرض، وتحتها. الأولى هجومية، والأخرى دفاعية. الأولى دارت على «غلاف غزة» وفي مراكز العدو ومستوطناته، والأخرى تدور وما زالت في قلب غزة. الأولى اتخذت طابع الحرب الهجومية الخاطفة التسللية السريعة، بينما مازالت الحرب الثانية مستمرة وتتخذ أشكالا قتالية دفاعية متحركة مطاولة استنزافية تعتمد على أساليب الكر والفر، الغارة والكمين، والمهاجمة المباغتة والاختفاء.
الأولى كانت عملية اختراقية مركزة على نقطة مفصلية للعدو هي قيادته الإقليمية الميدانية، وتتم بقوات كبيرة نسبياً ونوعياً قامت بها فرقة كبيرة العدد من المحترفين والاختصاصيين الحربيين يعدون أكثر من ألف ونيف من الرجال الميامين الاستشهاديين العقائديين، ولقد كان الواحد منهم في الميدان يعادل ويفوق العشرين من جنود العدو، سرايا استشهادية بحق... وكانت الأولى تجري على مؤخرة العدو وفي قلب قواعده وعلى خطوطه الداخلية وبعيداً عن قواعد المقاومة وجمهورها. وكانت المخاطرة كبيرة جداً لا تحتمل أي نسبة ولو هينة من الأخطاء البشرية، فكل خطأ بسيط يمكن أن يقود إلى كارثة حقيقية تعصف بالعملية بكليتها. في الأولى كانت المعادلة العددية والفنية والتقنية لصالح العدو بوضوح.
أما في الثانية فالمعركة تجري داخل بيئة المقاومة، في أرضها وبين قواعدها وقرب قواعدها وجماهيرها وداخل خطوطها الداخلية وسرعة العجلة تتحكم في خطواتها وتحركاتها. في الثانية مصلحة المقاومة في المطاولة للحرب الاستنزافية وتجنب الاشتباكات المباشرة الطويلة الكبيرة المخطط لها جيداً والمحضر لها من قبل العدو باحترافية، والتركيز على الهجمات والإغارات المباغتة الخاطفة السريعة والفاعلية من حيث لا يتوقع.
في الأولى كان العدو مضطراً للقتال الدفاعي بقوة محدودة من قبل فرقة عسكرية وبعض الفرق الرديفة غير الجاهزة للقتال والحرب في عقر دارها. أما في الثانية فقد حشد العدو أغلب قواته الاحتياطية التي وصلت إلى سبعمائة ألف عنصر مقاتل، وعبأ كل قواته الجوية (ألف طائرة حربية) والبحرية وقوات الحليف الدولي الأمريكي البريطاني والناتوي.
في الأولى انحصر القتال في جبهة واحدة رئيسية هي الجبهة الجنوبية وحدها. أما في الثانية فقد انتشرت على كامل مساحة القطاع لتجبر العدو على نشر قواته في كل مكان واتجاه، بهدف إضعاف قوة اختراقية وهجومية العدو وتركيزه وتركزه في النقاط المفصلية للمقاومة وقيادتها وإجباره على المواجهة في كل مكان دون أن يتمكن من أن يحدد أين ومتى وفي أي الاتجاهات يجب أن يهاجم ويتوغل، ولذلك اعتمدت المعركة والحرب الأولى على عبقرية وتخطيط وعزيمة القائد العام الأعلى للقوات المقاومة وعلى أركاناتها التنفيذية وقادة عملياتها قبل كل شيء، وفي هذ الوضع فإن الأمر كله يعتمد على سلامة معارف ومعلومات ومخابرات واستطلاعات القائد والقيادة العامة وعلى حساباتهما الصحيحة لكل موقف سلفاً سيأتي بعد أي الكفاح في إطار التخيل الاستراتيجي والعقلي والنظري المعتمد على العوامل النفسية والعقلية والذاتية، فليس هناك شيء مؤكد دائم الحال في مجموع الصورة المتكونة لدى القيادة حيث الرهان كله في النهاية على الله وتوفيقه قبل وبعد.
كانت المقاومة قد استعدت سنوات طويلة لمعارك كبرى كتلك الجارية، لأن نماذج لها كانت قد جرت أمام أعين المقاومة من قبل في العام 2000 والعام 2006 في جنوب لبنان والعام 2014 في قطاع غزة، ولذلك لا يفيد التاريخ دمجهما معاً في إطار واحد وإن كانتا في الجوهر واحدة، حيث لا يستقيم إيضاح هذه المآثر العظيمة التي اختطتها المقاومة والتي لم تسبق من قبل في هذه الثورة المتواصلة منذ قرن ونيف من الزمان منذ الاستعمار البريطاني الصهيوني المشترك.
يمكن تقسيم حرب طوفان غزة المجيدة إلى عدد من المراحل الحربية المتوالية وإلى فصلين رئيسيين كبيرين: الأول هو الذي جرى يوم الـ7 من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، واستغرق اليوم الأول بطوله..
فالأولى هي التي بدأت في صباح يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وافتتحت بالهجوم الطوفاني الرهيب على «مستوطنات غلاف غزة» من قبل حركة المقاومة الإسلامية حماس
وهاجمت أكثر من عشرين «مستوطنة» وموقعاً عسكرياً «إسرائيليا»، حيث تتمركز القوات «الإسرائيلية» وتتجمع قوات العمق الجنوبي، حسب التوصيفات «الإسرائيلية»، وتضم مجموعة من الفرق المدرعة والقوات الخاصة، وتتخذ من «سيدروت» مقراً لها وقاعدة تأهب للهجوم على قطاع غزة في جميع الحروب السابقة.
وقد كان هجوماً مفاجئاً ومباغتاً لم يتوقعه أو يتصوره أي من قيادات العدو بمن فيهم الأكثر تطرفاً وشراً وحرفية، فقد كان الهجوم الفلسطيني عملاً غير متوقع وغير مسبوق، فلم يسبق للفلسطينيين أن فكروا بشن هجوم بهذا الشكل والحجم الذي انبثق به هذا الهجوم الأخير الذي مازال يدهش العالم، وسيظل لوقت طويل مثار إعجاب واستغراب؛ فقد استطاع الهجوم وقيادته أن يحدث خرقاً استراتيجياً غير مسبوق من قبل في مجموع المنظومات الأمنية والمخابراتية والإلكترونية والسيبرانية، وأن يحطم لأول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني نظريات «الأمن الإسرائيلي» الراسخة منذ أمد بعيد بإمكانياته المحدودة البسيطة، كما استطاع أن يعطل ويشل جميع التقنيات الحربية الأمنية التي توفر الأمن وتحمي حدود الكيان الغاصب منذ نشوئه قبل قرن من الزمان.
لقد استطاع القائد المخطط للهجوم، وعلى أفضل مستوى حربي، أن يحضر ويعد ويدّرب ويسلّح ويجهز ويربّي الفريق القتالي المنفذ والذي ناف على 1300 محترف متمرس استشهادي، بسرية تامة ومطلقة لم يستطع العدو وأجهزته ومخابراته أن يطلع أو يتوقع أي من دوائره المحلية والدولية ما يجري على الأرض وتحت الأرض في غزة في ذلك الشريط الضيق من الأرض الذي لا يزيد طوله عن 40 كيلومتراً ولا يزيد عرضه عن 10 كيلومترات فقط، فهو قطاع أرضي لمدينة صغيرة أو متوسطة من المدن العربية الفقيرة، وحيث يتكدس السكان في هذا القطاع الصغير بقرابة مليونين ونصف المليون إنسان من الفلسطينيين المهجرين من أرضهم وقراهم منذ الأربعينيات، وهو موئل يأتيه الفلسطينيون من جميع أنحاء الأرض ومن مخيمات الشتات يحلمون في كل وقت بالعودة إلى البيوت والقرى والأراضي التي طردوا منها من قبل جحافل البريطانيين والصهاينة المحتلين القادمين من أشتات الأرض الأوروبية ليقيموا على أرضهم قاعدة متقدمة للاستعمار والاستيطان والنهب.
وسوف نفصل الحديث في تلك العمليات والإجراءات الفتية التي اتبعها مقاتلو القسام النخبويون بعد تدريب طويل قاسٍ استمر سنوات.
كان القادة «الإسرائيليون» مازالوا يقرؤون الخصم الفلسطيني الجديد كأنه ذلك الغر الذي نما فتى يمارس حرب العصابات الصغيرة الفردية القديمة الكلاسيكية ولم يتجاوزها بعد، والتي لا تتعدى قتل جندي هنا أو هناك وأسر جندي آخر ومبادلته مقابل الأسرى في سجون العدو «الإسرائيلي».
كانت الضفة الغربية قد شهدت أحداثاً كثيرة خلال الأشهر الماضية، وأغلبها نسبت إلى حركات مقاومة أخرى غير حماس، كالعرين والكتيبة والجهاد وسرايا القدس والأقصى، وهي كلها كانت أسماء متعددة لنفس المنظمات، حماس والجهاد الإسلامي.
وقد تعمدت قيادة حماس خلال فترة الإعداد والتخطيط للعملية الهجومية أن تبتعد عن واجهة المشهد الجهادي حتى لا تنبه العدو وجواسيسه إلى ما يجري الإعداد له من هجوم كبير استراتيجي سوف يقلب المعادلات في المنطقة على رأس العدو وحلفائه وأسياده. وكان هذا يأتي في سياق بند وسياسة الخداع الاستراتيجي ضد العدو، وهو مبدأ من أهم مبادئ الحرب إن لم يكن أهمها على الإطلاق، خداع العدو أهم شرط للحفاظ على سرية العملية الهجومية وأهم شرط لانتصارها ونجاحها. كان سلوك حماس السياسي في العامين الأخيرين مليئا بالخداع الاستراتيجي للعدو بهدف صرف انتباهه عن العملية الجاري الإعداد لها وإطعامه العديد من التصورات الإيهامية البعيدة عن حقيقة النوايا القيادية للمقاومة، وكانت أبلغ تلك المناورات الخداعية هي التي أطلقتها حماس خلال المعارك التي اندلعت بين المقاومة والعدو وتظاهرت حماس بأنها محايدة، وأن المعركة تدور بين «إسرائيل» والجهاد الإسلامي فقط، وأنها تلعب دور المفاوض الوسيط بين الطرفين، وهو ما أوحى للعدو بأنها تتجه نحو سياسات جديدة تركز على العمران وإعادة بناء وما خربته الحروب السابقة.
كانت غزة منطقة محررة، حررتها المقاومة لأول مرة في العام 2005، حين اندحرت قوات الكيان الصهيوني عنها في عهد شارون الذي اضطر إلى سحب القوات بعد أن تعرضت لخسائر كبيرة استنزفتها، حيث تراجع عن القطاع وتركز حول «غلاف غزة» وبنى سياجاً أسمنتيا طويلاً يحيط بها من جميع الجهات اليابسة ودعمه بكافة الأنظمة الحربية الحديثة التي تجعل اختراقه من المستحيلات، فقد أقام على سوره نقاط رقابة دائمة طوال الوقت نهارا وليلا، ونصب على تلك النقاط الحربية مراكز أسلحة أوتوماتيكية (رشاشات وصواريخ وقنابل وألغاماً ذكية) تدار كلها بالكهرباء والتقنيات الإلكترونية من مراكز وغرف قيادة وسيطرة يمكن إدارتها عن بُعد، وتنتشر على طول السياج الجداري، حيث تنتشر داخله القوات الحامية والمدافعة عن الجدار كخط دفاعي أولي إنذاري. ويبعد السياج المذكور عن غزة وحدودها حوالى عشرة كيلومترات، وخلف هذ الجدار المسيج الحصين على بعد 13 كيلومترا تقف «المستوطنات» المعروفة بغلاف غزة، والتي تحيط بغزة كإحاطة السوار بالمعصم من كل ناحية وتوجه إليها حرابها وأسلحتها ومدافعها وفرقها ودباباتها المتجحفلة، وهناك تتمركز أكثر من ألف دبابة «ميركافا» هي الأحدث في العالم، تتجمع في ثلاث فرق مدرعة إلى جانب ألوية المشاة الميكانيكية والقوات الخاصة من قوات النخبة وتضم الماكينة المدرعة «الإسرائيلية»، فإلى جانب بضعة آلاف من الدبابات «الميركافا» الأثقل والأقوى تدريعاً، تضم ثمانية آلاف مدرعة مدولبة من طراز «أوكشوش» الأمريكية وآلاف المدافع الميدانية المتنوعة والرشاشات المتعددة الطرازات والأحجام، وتلك هي ترسانة العدو التسليحية التي تواجهها المقاومة في الجبهات المتعددة من غزة إلى بقية الجبهات المذكورة في التوصيف السابق.
بلغ العديد البشري القتالي للعدو الصهيوني بعد الدعوة إلى تعبئة الاحتياط خلال سبعين ساعة من الإنذار بالحرب حوالى 650 ألف جندي وضابط يشكلون 11 فرقة مدرعة وقوات مشاة ميكانيكية وقوات خاصة ومظليين وقوات «كوماندوز» وهندسة مدفعية وغيرها، موزعين على الجبهات العسكرية الكبرى الثلاث: الشمالية (جنوب لبنان)، والجنوبية (غزة وجنوبها)، والوسطى (الضفة الغربية)، حيث تتركز في كل جبهة منها 3 - 4 فرق مدرعة من الـ11 فرقة، وفوق هذا كله يقف الأسطول الجوي الحربي المكون من حوالى 700 طائرة حربية، إضافة إلى أسطولين حربيين أمريكي وبريطاني يحملان أكثر من 500 طائرة حربية أخرى..
الأحدث في العالم فوق حاملات الطائرات الأنجلوأمريكية التي تمركزت على سواحل فلسطين المحتلة لحماية كيان «المستعمرة اليهودية» الصهيونية الغربية من مخاطر الانهيار والسقوط، بعد أن ترنح طويلاً جراء الضربات القاتلة المفاجئة التي وجهتها المقاومة وهجمتها الكبرى ضده، وعلى متن هذه الحاملات آلاف المقاتلين الغربيين والمرتزقة من القوات الخاصة والبحرية والضباط والكوادر الفنية والصواريخ المضادة للصواريخ والطائرات الأحدث في العالم.
تسارع إلى عاصمة الكيان الغاصب الرؤساء الأوروبيون ورؤساء الحكومات ووزراء الدفاع وقادة الأركان والخبراء العسكريون وكبار القادة، ليقيموا هيئة أركان عسكرية مشتركة مع قادة الكيان الصهيوني لإدارة الحرب والعدوان على غزة، ملتزمين بدعم هذا الكيان والدفاع عنه وتدعيمه وإسناده بالأموال والأسلحة والحماية السياسية والاستراتيجية لدفع حركات المقاومة العربية والإسلامية والضخ في عروقه بمليارات الدولارات كل يوم دون توقف.
عصر الاندحار «الإسرائيلي»
منذ العام 2005، وهو عام الاندحار «الإسرائيلي» عن غزة، لم يستطع العدو احتلالها مجدداً بعد محاولات عديدة كلها فشلت وأخفقت، وكان أخطرها هو الغزو البري العام 2014، حيث استطاع العدو أن يجتاح مدينة غزة وقطاعها؛ ولكنه قضى فيها 50 يوماً وهو يواجه فصائل المقاومة التي انتشرت في أحيائها وراحت تهاجمه بجماعات محاربة صغيرة العدد خفيفة التسليح راجلة تستخدم الأنفاق لأول مرة، وكانت مفاجأة الحرب وأخطر سلاح للمقاومة بحق، وقد تكبّد العدو الكثير من القتلى والجرحى وعشرات الآليات والدبابات والعربات والمدرعات، دون أن يحقق أياً من أهدافه في تلك الحرب العدوانية، رغم أنه صبّ آلاف الأطنان من القنابل والقذائف والصواريخ على أحياء غزة ومخيماتها وشوارعها ومشافيها، وحاصرها من كل اتجاه وحرمها من كل الضروريات المعيشية الإنسانية والطبية، وقتل وجرح آلاف الفلسطينيين دون سبب سوى أنهم فلسطينيون يرفضون الخروج من بلادهم وتركها للعدو و»مستوطنيه»، ولم يستطع الوصول إلى قواعد المقاومة وقيادتها وصواريخها وصناعاتها ولا إلى مداخل الأنفاق ومخارجها، وكان هناك سلاحان رئيسيان في معركة المقاومة، هما: «الكورنيت» المضاد للمدرعات والدبابات، والأنفاق التي تحمي تحركات المقاومة ومناوراتها وتنقلاتها بين الأحياء والمناطق والمحاور القتالية بسرية. فـ«الكورنيت» لتدمير الدبابات، والأنفاق لإخفاء المحاربين وأسلحتهم وجرحاهم وقادتهم وقواتهم تحت الأرض.
المقاومة تنقل الحرب من فوق الأرض إلى تحتها
إعداد ميدان المعركة: المقاومة بنت الأرض، والعدو يجهل الأرض جهلاً تاماً، بالمعنى الاستراتيجي وليس الجغرافي، وكانت هذه هي المعركة الأولى التي تبادر إليها المقاومة وتستثيرها وتستعد لها جيداً وتفاجئ العدو وتسقط نظريته القتالية وتحطمها خلال ساعات وتباغته في مراقده وقواعده وتمركزاته، وتشل حركاته وتعطل مراكز قيادته، فلم يفق من الضربة إلّا بعد عدة ساعات من بدء الهجوم الفلسطيني الرهيب، خاصة أن المقاومة استغلت المواعيد والمواقيت التاريخية المحلية عند العدو بشكل بارع لم يتوقعه ولم يتخيله، فقد كان ذلك اليوم يوم عيد ديني يهودي معتاد سنوياً ويكون اليهود الصهاينة والجيش غارقين في وحل احتفالاتهم وعربدتهم حين فاجأتهم المقاومة وهم بملابس النوم ورؤوسهم ثقيلة لا تقوى على رد التحية من ثقل السهرات الحافلة التي غرقوا بها من مطلع الشهر الجاري، ولذلك كانوا في حالة يرثى لها، نساء مجندات، وجنود، وثلث قوات الكيان الصهيوني من الجنس النسوي الناعم، لذلك لم يدركوا ما كان يجري من الصباح الباكر على السياج الفاصل من هجمات وضربات واختراقات وفتوحات ربّانية هائلة، وهكذا تمتع الفلسطيني بالمبادرة الاستراتيجية والمفاجأة الكاملة للعدو في «عقر داره»، وكانت قوات العدو تصل إلى أكثر من 20 ألفاً من «فرقة غزة» المتجحفلة الأقوى في وحداته القتالية التي تحرس جبهة الجنوب، وقد وقعت القوات «الإسرائيلية» في شر أعمالها في ذلك اليوم الأسود الذي لم تعرف أشد منه سواداً ومأساوية في تاريخها كله طوال قرن من الاحتلال والاغتصاب والتوحش، وقد ظهر الجندي و»المستوطن» الغاصب المحارب المغرور «الإسرائيلي» على حقيقته العارية، وكما هو «بيت عنكبوت» وأوهن، بل هو جثة متعفنة لا تقوى على شيء حين يضيع الأسطول الجوي والمدرعات والدبابات والتحصينات، وتصبح المواجهة وجهاً لوجه، فإنه سرعان ما يذوب ويتحلل وينهار.
عقيدة حربية باطلة
قامت عقيدة العدو القتالية على الحرب الخاطفة السريعة وضرورة نقل المعركة إلى أرض العدو وتحييد الجبهات الأخرى حتى الفراغ من سحق الجبهة الرئيسية للعدو، واستخدام سلاح الطيران كسلاح رئيسي إلى جانب «الدبابة الأفضل في العالم» وتجنب الخسائر البشرية الكبيرة وتقصير زمن الحرب لأسباب داخلية. وهذه القواعد الاستراتيجية ظلت ثابتة طوال عمر الكيان الغاصب إلى الآن، وكانت فاعلة في الماضي في مواجهة حروب جيوش العرب النظامية الكلاسيكية. وفي المقابل كان العرب الرسميون وحكوماتهم وحلفاؤهم وجيوشهم التقليدية جاهزين دوماً لتلقي الهزائم والانكسارات في جميع حروبهم طوال 70 عاماً، وخاصة جيوش مصر الكبرى وسورية والعراق والأردن ولبنان، وكان الاستعمار قد رتبها سلفاً لتلقي الهزائم فقط أمام الكيان الصهيوني الغاصب الذي أقامه على يديه ليبقى ويهيمن نيابة عنه ويسيطر على المنطقة العربية وعلى ثرواتها ومواقعها وممراتها وبحارها ونفطها وغازها ومعادنها وعلى حكامها.
استطاعت المقاومة الفلسطينية واللبنانية الشعبية أن تخترع أساليب حرب جديدة نقلتها من تجارب كثيرة ومن خبراتها الطويلة في الميادين والحروب وتعلمت كيف تنتصر وكيف تحارب الجيوش العملاقة الكبيرة وتغلبها في الميدان بالاعتماد على أساليب حروب العصابات عبر دراسة خبرات العالم المقاوم في الشرق والغرب والعرب والعجم وفيتنام والصين والروس، وتجمعت للعرب حصيلة ضخمة من الأساليب النوعية المجرّبة والمختبرة، عُرفت أكاديمياً بالحرب اللامتكافئة واللامتناظرة أو حروب التحرير الشعبية طويلة الأمد وحرب العصابات الثورية الوطنية.
تقوم استراتيجية الحرب الثورية على أساس خوض حرب استنزافية طويلة المدى وتجنب الحرب المباشرة الكبيرة مع العدو الغازي أو الجيش النظامي الكبير المسلح بالطائرات والمدافع والدبابات ووسائل الحرب الحديثة والإلكترونية والصاروخية والفضائية. وتقوم الحرب المقاومة على أساس إطالة أمد الحرب الشعبية واستنزاف العدو الغازي بواسطة حروب العصابات الصغيرة المتحركة السرية والشبحية وإنزال الخسائر البشرية والمادية بالعدو. وخلال السنوات الماضية استندت حركات المقاومة الفلسطينية الإسلامية الوطنية إلى الدعم الكبير من محور المقاومة الإسلامية، وقد مكنها هذا الدعم من تحقيق انتصارات بالغة الأهمية.
ولا شك أن «فيلق القدس» الإسلامي الإيراني الثوري كان القوة الرئيسية في محور المقاومة الإسلامية في المنطقة، وقد وفر الإمكانيات والدعم العسكري والمادي والخبرات العسكرية والخطط الحربية والمنهجيات في مواجهة العدو الصهيوني الأمريكي.
ومن مجموعات صغيرة لحرب العصابات تطورت المقاومة الجديدة إلى قوات قتالية كبيرة عالية المستوى في التدريب والتأهيل والتسليح وتحولت إلى فيالق وفرق وألوية وكتائب حربية لقوات حديثة شديدة الفاعلية والبأس والروح القتالية والعقيدة والعزيمة الجهادية.
لقد أصبحت قوات المقاومة الآن كبيرة العدد تشارف على الستين والسبعين ألف مقاتل منتظم في فصائل المقاومة في ميدان غزة وحدها، وستصبح أكثر من 100 ألف مقاتل في الغد القريب، فهي في حالة حركة تطورية مستمرة ودائمة لا تتوقف ولا تهدأ.
قوات خاصة عالية التدريب والتأهيل
استطاعت المقاومة خلال الأسابيع المتتالية من القتال في غزة كسر أكثر من 8 فرق مدرعة، ومشاة، وقوات خاصة للعدو الصهيوني، وأن تنزل بها الهزائم كل يوم، حيث تمكنت خلال الـ100 يوم الماضية من القتال من تدمير أكثر من ألفي آلية ودبابة ومدرعة، كما تمكنت من قتل وجرح مئات الجنود والضباط من قوات الكيان الصهيوني في مواجهة عدة آلاف من الدبابات والمدرعات و700 طائرة حربية للعدو ومئات القطع البحرية الصاروخية، وفي ظل دعم أمريكي بريطاني مباشر، حيث وصل الخبراء والأسلحة والأساطيل والصواريخ والطائرات المحمولة والغواصات والقوات الخاصة والطيارون والقادة الميدانيون، وكل هذا يجري أمام أعين العالم المنافق في الغرب الذي يدّعي «حقوق الإنسان» و»حقوق الشعوب في تقرير مصيرها والدفاع عن استقلالها وحريتها»!
حملة إبادة ضد المدنيين
منذ اليوم الأول من الطوفان الفلسطيني في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي والعدو يحصد أرواح أهالي غزة بالطائرات الحربية من الجو، والبوارج من البحر، ومن فوق الأرض من قذائف الدبابات ومن مدافع السفن العملاقة ومن حاملات الطائرات الأمريكية الراسية على شواطئ حيفا وغزة تصب الفناء والموت والدمار على المساكن والعمارات والبيوت والمدارس والمشافي والمزارع والمؤسسات المدنية والكنائس والمساجد، وتسويها بالأرض مستخدمة قنابل عملاقة تزن آلاف الأطنان وتفوق ما ألقي على المدن الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، وقد قتلت حتى الآن أكثر من 28 ألفاً من المدنيين وجرحت أكثر من 60 ألفا، أغلبهم من الأطفال والنساء وكبار السن في 100 يوم، وبمعدل متوسط يصل إلى (700 شهيد وجريح) في اليوم الواحد، وكل هذه الأعمال البشعة تجري والعالم يشاهد ما يجري دون أن ينبس ببنت شفة.
وتهدف حرب الإبادة الصهيونية الأمريكية إلى دفع السكان الفلسطينيين إلى مغادرة القطاع والهجرة إلى الدول المجاورة والبعيدة وترك غزة للكيان الصهيوني لإعادة احتلالها مجدداً في ظل تواطؤ إمبريالي وحكومي عربي رسمي من قبل الدويلات والممالك والإمارات التابعة للصهيوني الأمريكي، ومن دعاة مؤامرة التطبيع والتهجير.
إيقاعات المعارك ومآلاتها
بغض النظر عما إذا كانت الحرب الراهنة ستتواصل أو تتراجع وتيرتها تدريجياً، كما تلوح في الأفق مناورات عديدة لإخراج العدو من «مستنقع غزة» المهلك، فإن النتائج العامة واضحة الآن، ويمكن أن نرى عبرها الجانب الخاسر والجانب الكاسب في الحرب من خلال معرفة حجم الخسائر العسكرية لدى الطرفين، وهي معلومة، ومقارنتها وربطها بالأهداف المعلنة لدى كل جانب، والأمر واضح الآن، فقد دفع الكيان الصهيوني إلى ميدان غزة (البري) أكثر من 150 ألف جندي وضابط، وقد تكبّد خسائر فادحة، وبحسب الأرقام المأخوذة عن الصحافة والمؤسسات الصهيونية نفسها، وعن محللين وخبراء عسكريين دوليين ومراكز بحث وتحليل محترمة، فقد قُتل أكثر من 5 آلاف جندي وضابط خلال الـ100 يوماً الماضية، ويبلغ قتلى اليوم الأول من «الإسرائيليين» أكثر من ألفي قتيل وثمانية آلاف جريح، وهم من قوات «فرقة غزة» التي سقطت عن بكرة أبيها تقريباً، بين قتلى وجرحى، ولعبت الضربات الجوية «الإسرائيلية» الدور الأكبر في ضحايا اليوم الأول، فقد استطاعت المقاومة أن تباغت القوات الصهيونية وهي في مواقعها في حالة يرثى لها، وتمكنت من قتل أعداد كبيرة منها وأسرت من تبقى منها واحتجزتهم في مواقعهم وقامت تطالب العدو بالمبادلة بين أسرى العدو وإطلاق الأسرى الفلسطينيين من سجونه؛ ولكن رأس الكيان المجنون (نتنياهو) رفض الصفقة تحت النار وأمر قواته الجوية بصبّ الصواريخ والمدافع على مواقع الأسرى «الإسرائيليين» في مواقعهم وثكناتهم، التي كانوا محتجزين فيها، وقد قُتل وأصيب في هذا اليوم أكثر من 10 آلاف جندي وضابط صهيوني ينتمون لـ»فرقة غزة» العسكرية المدرعة التي كانت متواجدة لـ»حماية المنطقة الجنوبية ومركزها» كانت مغتصبة أو «مستوطنة سيدروت»، أما المقاومة فلم تفقد من قواتها إلّا القليل وهم بضع مئات، فقد أغلبهم في معركة اليوم الأول.
الكيان يخسر الحرب!
إن الكيان الصهيوني يخسر المعركة في غزة بعد 100 يوم من العدوان ومن المنازلة البرية الكبيرة في غزة بعد أن اجتاح معظم مدن القطاع، وأنزل إلى غزة جيوشاً لم يسبق أن حشدها لجبهة من قبل. ويمكن الجزم أن «إسرائيل» تخسر الحرب والمعركة معاً، وهي خسارة مزدوجة، إذن هي أسوأ خسارة شهدتها «إسرائيل» منذ 75 عاما خلت من تاريخها، وهي خسارة تجري كل يوم على جميع الخطوط المكلفة العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية والاستراتيجية، وعلى جميع المستويات هي تخسر بما فيها ميدان الرأي العام الداخلي والخارجي والأجنبي والدولي، وعلى مختلف تلك الخطوط الملتهبة تجري الخسارة والانهيارات في مواجهة قوات خفيفة التسليح، محدودة الأعداد من قوات الثورة الشعبية، في مواجهة أقوى الجيوش العصرية في المنطقة، ويمكن قياس خسارة أي قوة أو جيش تقليدي يدخل في معركة حربية بعدد الأفراد والأسلحة التي يخسرها الغازي وبعدد الدبابات والمدافع والمدرعات والآليات التي يفقدها، ومن عدد الأفراد من قواته التي تسقط في المعارك، وهذا المعيار يكون صحيحاً إذا كان الخصم المواجه له جيشاً تقليدياً مثله، أما في حالة أن القوة المواجهة لهذا الجيش الغازي هي قوة شعبية مقاومة تطوعية (مليشيا لا تملك نفس القوى والآليات والدبابات الطائرات والأساطيل البحرية) وإنما تملك أسلحة عتيقة ومحدودة وتقوم على تنظيم وحيد هو سلاح المحاربين الراجلين، وتعدادها أقل بكثير من تعداد الجيش الغازي وأسلحتها لا تقارن بسلاح الجيش، فإن معيار النصر والهزيمة في هذه الحالة هو في تمكن الغازي من تحقيق أهدافه المعلنة ضد الحركة الشعبية المقاومة، الطرف الأضعف المدافع.
إن عجز العدو الصهيوني عن تحقيق أهدافه الرئيسية المعلنة هو أهم معيار لقياس مدى هزيمته أو انتصاراته، فقد أعلن الغازي بداية الغزو أنه يهدف من اجتياح غزة للقضاء على حركة المقاومة حماس وحلفائها، وهذا هو الهدف الأول، والثاني تدمير شبكات الأنفاق العسكرية في غزة، والهدف الثالث هو تصفية قيادات حماس والمقاومة وإطلاق الأسرى والمحتجزين الذين تم أسرهم من «غلاف غزة» في أول يوم. وبعد 120 يوماً من الحرب العدوانية، لم تتحقق أي من تلك الأهداف على الإطلاق.
ولسنا بحاجة إلى تأكيد حقيقة أن العدو قد وصل إلى كل مناطق ومدن وأحياء غزة واحتل الأحياء والمؤسسات والميادين والحقول وبحث وجس وتجسس، ولم يصل إلى شيء مفيد، فقد ظلت تلك الأهداف بعيدة المنال وهي أقرب إلى المستحيل تماماً، فلم يصل إلى شبكات الأنفاق العسكرية الحقيقية، كما لم يُنزل أي ضربات حقيقية واضحة بالقوات المقاومة التي تتصدى له طوال أكثر من 120 يوما، وهي كما كانت أول يوم في أشد حالاتها وحيويتها وقوتها وجاهزيتها لخوض معارك طويلة استنزافية تمتد لآلاف الأيام دون توقف، ولا يمكن حصارها مهما سيطر الاحتلال على الأرض وسطحها، وهي مازالت بعيدة عن متناول العدو رغم اجتياحه لغزة بالكامل، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، في مدينة صغيرة لا يزيد عرضها عن 10 كيلومترات ولا يزيد طولها عن 50 كيلومتراً، فقد تعرض لإخفاقات وهزائم متوالية طوال أكثر من 120 يوما، ومازال ينزف من الرجال والعتاد والمعنويات والطاقات والقدرات، ويعترف بأنه عاجز عن القضاء على المقاومة وعلى الأنفاق، وعن استرداد الأسرى رغم فقدانه آلاف القتلى والجرحى، ولم يستطع من جانبه إصابة وقتل المجاهدين، رغم أنه يحسب المدنيين الشهداء بقصف طائراته بأنهم مقاومة كما يدّعي، وهو ما يثير السخرية في وجهه من قبل كل المتابعين والمحللين والعسكريين الأكاديميين ومراكز الإعلام والمعلومات في العالم كله.
لقد فشل العدو في تحقيق أي من أهداف الحرب وفشل في إنجاز ولو قسم يسير منها، ومع ذلك فقد اضطر الآن إلى سحب أكثر من نصف قواته إلى خارج القطاع، وهو مستمر في الانسحاب التدريجي لقواته إلى سياج غزة الفاصل بين غزة وغلافها، بعد أن كانت تحتل غزة ومناطقها، وقد أعلن مؤخراً سحب عدة فرق عسكرية إلى «غلاف غزة» هي «الفرقة 36» و«الفرقة 292»، وسبق أن سحب أكثر من 8 ألوية منذ أسابيع سابقة، بعد أن أبقى ثلاث فرق فقط الآن، وهي ما تزال تتعرض للضربات دون توقف، وتتواجد في الشمال حول حي الشيخ رضوان ومخيم الشاطئ وبيت حانون وجباليا، وفي الوسط مازالت تتواجد حول مخيمات النصيرات والبريج والزوايدة والمغازي، وفي الجنوب تتمركز حول مدينة خان يونس وخزاعة وعبسان وعبسان الجديدة وبني سهيلة وغيرها من المناطق التي لا تزال تشهد اشتباكات متفرقة، ويمكن القول إن الحرب العدوانية السابقة قد أصبحت أقل حدة الآن بعد هذه الانسحابات المتكررة.
ما الذي تعنيه انسحابات العدو من أرض المعركة؟!
ليس هناك سوى معنى واحد لهذا، وهو أمنه الذي قهرته المقاومة وحروبها ومعاركها الشبحية التي استنزفت آلاف الجنود والدبابات والآليات والمعنويات.
ومعروف أنه لا يمكن لأي جيش في العالم أن ينسحب من الاشتباكات إلّا عندما يجد نفسه هو الأضعف في الميدان وأنه يتلقى الضربات ولا يستطيع الرد عليها ويندحر نتيجة تلك الهزائم والخسائر اليومية التي تجاوزت حدود قدرته على التحمل وأنه يشارف على الانهيار والسقوط. ويعتبر قرار تراجع القوات وانسحابها وتركها الأرض التي كانت تحتلها من أخطر قرارات الحرب على الإطلاق، حيث يكون غير قادر على الحفاظ على الأرض والأفراد والجنود والقوات والقدرات في نفس المكان السابق؛ لأنه بات يخسر الجانبين معاً في وقت واحد، ولذلك قرر أن يضحي وأن يتخلى عن الأرض مقابل أن يحافظ على القوات الباقية، وهذه الحالة لا يصل إليها الجيش إلّا عندما تصل خسائره إلى النسبة التي يستحيل معها أن يتحملها، أي أنها تجاوزت الثلث من قواته، وهذا مؤشر واضح إلى الهزيمة الماحقة التي تحل بالغازي، فالانسحابات عندما تتم إلى خارج ميدان المواجهات والمعارك، فإنما هي مقدمة للانسحاب الشامل الكامل من أرض المعركة والاعتراف ضمناً بخسارته للمعركة وللحرب الراهنة بشكل عام، والمؤشر واضح الآن، فقد دخل غزة بسبع فرق (مدرعة، ومشاة، وألوية خاصة)، وبعد أكثر من 120 يوما اضطر إلى التراجع بنصف قواته إلى خارج القطاع بعد أن عجز عن التقدم والسيطرة على الأرض وما تحت الأرض.
وكانت المقاومة قد رفعت وتائر هجماتها في الأسابيع الأخيرة الماضية بشكل مضاعف عما كانت عليه في الفترة الأولى من الحرب البرية حتى وصلت العمليات المقاومة إلى أكثر من 20 عملية يومياً، وخاصة في ديسمبر الماضي، بينما كانت لا تزيد عن 10 عمليات في الفترة الأولى من الهجوم البري خلال نوفمبر الماضي، وهو ما كان يعني للعدو أن المقاومة تشتد وتزداد قوة وعنفواناً وهجومية كلما زادت أحجام وأعداد القوات المعادية في الميدان، لأنها تصبح أهدافاً سهلة للمقاومة في المناطق الضيقة (المساحات والأبعاد) وبدلاً من أن يحولها ذلك إلى قوة أكثر هجومية ونفاذية تجعلها تكتيكات المقاومة أكثر استهدافاً واستنزافاً، وهي لم تتعلم الدرس بعد رغم ما كابدته من خسائر ومصائب، فالجيش التقليدي، أي جيش كان في العالم، لا يتراجع عن الأرض التي احتلها إلّا إذا حقق أهدافه الرئيسية أولاً، وهي تدمير عدوه وإخضاعه لإرادته واستسلامه، ولكنه إذا واجه المقاومة التي تجعله عاجزاً ومشلولاً عن إيذاء خصمه وضربه والوصول إلى قيادته ومراكز قوته وخطوطه، فإنه عندها يدرك حقيقة هزيمته الوشيكة، ولا يكون أمامه سوى الهروب بأقصى سرعته خارج الميدان قبل السقوط الكامل في مستنقع الانهيارات والكوارث، كما حل بالقوات الأمريكية في فيتنام وفي العراق وأفغانستان وغيرها، وقوات الاحتلال الصهيوني الآن شارفت على هذا المصير الحالك الظلمة.
نكسة العدو الغازي.. أزمة السيطرة وأزمة الهيمنة!
أبرز ما يجب أن يلاحظه الباحث الاستراتيجي العسكري في سير المعارك الجارية في قطاع غزة هو أن العدو يعاني من ظاهرة «أزمة سيطرة» و«أزمة هيمنة»، ويتضح من خلالها أن العدو قد سيطر ظاهرياً على قطاع غزة عسكرياً، من حيث إنه دخل المدينة وأحياءها وانتشر بكل شوارعها؛ ولكنه لم يحقق الهدف الرئيسي الأساسي في الحرب والمعركة، أي أنه لم يتمكن من تصفية وتدمير الخصم المدافع المتخفي في المنطقة تحت الأرض وفوق الأرض. وهذا يظهر أكثر عندما نركز على حقائق الميدان التي تتجلى بوضوح شديد من مجريات الصراع اليومية ووقائعها وأحداثها ومعاركها وخسائرها ومصائب العدو المستمرة الذي يتلقى باستمرار الضربات والخسائر والهجمات..
رغم وجود الغازي فوق الأرض بالقرب من الوجود السري للمقاومة المتخفية في الأنفاق والمواقع الشبحية بين الجماهير وحول المخيمات والأحياء السكانية ومداخل ومخارج الأحياء والشوارع والحقول والأزقة والطرقات والورش والمعامل والمزارع والمصانع والمشافي والميناء والطرقات والفراغات الجغرافية والجامعات والأحراش والحفر والمرابض السرية وخطوط المواصلات الداخلية والخارجية... ولكن الغازي لا يرى كل هذه المواقع السرية الخاصة، ولا يستطيع الوصول إليها وتصفيتها، حيث يقيم آلاف المجاهدين الشعبيين بين جماهيرهم وأهاليهم ويحتفظون بهوياتهم الخاصة ويتحركون خفية عن أعين العدو وجواسيسه ويتظاهرون بهويات أخرى مختلفة عن الحقيقية، ويحملون أسماء مختلفة ولا يعرف أيٌّ منهم اسم رفيقه الحقيقي ولا عنوانه ولا هويته ولا قريته، وهم يعملون في الظاهر أعمالاً لا علاقة لها بأنشطتهم الثورية القتالية السرية، ولا يعرفون أسماء قادتهم الحقيقية، ولا شخصياتهم الواقعية، ولا أعمالهم ووظائفهم الأصلية وحرفهم وصناعتهم.
إن العدو يجهل الأرض ويعادي السكان حتماً، لأنه يحتل أرضهم ويستولي على ثرواتهم ويدمر ممتلكاتهم ويحرق بيوتهم ومساكنهم ويقتل أبناءهم ونساءهم ورجالهم، ومن ثم فإنه لا يستدر إلّا مزيداً من الكراهية والغضب والحقد المقدّس، فلا ينتظر تعاونهم وترحيبهم به وإلقاء الزهور في وجوه جنوده وهم يجتاحون المدن ويسحقون المقدسات الدينية والاجتماعية، وهو يجهل كل شيء عن البلاد التي يغزوها، وسيظل كذلك ما دام يحتل البلاد، لأن التعاون مع الاحتلال خيانة عظمى جزاؤها الموت (في كل العالم)، وتصفية المتعاونين مع الغازي من أوجب الواجبات أمام التنظيمات الثورية الوطنية، بل هي أهمها على الإطلاق، وقد يتشكل التنظيم الثوري أولاً لكي يصفي عملاء العدو ويدمر قواهم قبل أن يلتفت نحو قوات العدو ذاته، والعديد من التنظيمات الثورية لا تقبل منتسبيها إلّا بعد أن يجري لهم اختبارات عملية ميدانية تتمثل في القيام بهجمات دامية ضد العدو وجواسيسه، وأن يحصل المتطوع على سلاحه من أعدائه وأن يثبت رجولته وشجاعته منفرداً لكي يكون قادراً عند الضرورة على العمل منفرداً وأن يدير العمليات الهجومية ضد العدو بالاعتماد على ذاته الفردية فقط ويسمونها «عمليات الذئاب الفرادى» ويمر باختبارات عديدة يثبت فيها ولاءه وإخلاصه واستقامته ومهاراته وقدراته واستعداده للتضحية والتطور والصبر والجلد والتقشف وحسن التدبير والتخطيط والتكيّف مع المتغيرات والظروف والأجواء والمصاعب التي يمكن أن تواجه المحارب الثوري وكيفية التغلب عليها... وأقرب الأمثلة على هذه التنظيمات الثورية السرية القتالية كانت تنظيمات «الفيتكونغ» الفيتنامية والجيش السري الايرلندي ضد بريطانيا وجيش الخمير الحُمر في كمبوديا والجيش الأحمر الياباني وغيرها.
قواعد التنظيم الثوري القتالي السري
تتطور الحركة الثورية المنظمة المقاومة مع نشوئها، وتتفرع إلى مختلف الفروع اللازمة للحرب الوطنية التحررية الشعبية وإلى إقامة الجيش الثوري القتالي من أفضل المقاتلين الشعبيين الأشداء ومن ذوي الخبرة العسكرية والكفاحية السابقة، وهكذا يؤسس التنظيم الثوري العسكري للثورة الوطنية، ليصبح أهم أدوات الثورة والحرية والاستقلال لمواجهة قوات العدو الغازي ومقاومتها. هو تنظيم سري للجيوش الشعبية المقاومة برعت فيه خلال القرنين الأخيرين بعد اشتداد حروب التحرير الوطني في مواجهة الجيوش الإمبراطورية العملاقة الغازية الاحتلالية الأوروبية، حيث ينتظم المقاتلون الشعبيون المتطوعون في خلايا وجماعات صغيرة سرية لا تزيد الجماعة أو الخلية عن 5 أفراد أو عشرة أفراد، ويقوم هيكل الجيش الثوري السري على أساس الجماعة الأساسية الصغرى القاعدية، حيث يكون عدد الكتيبة من 10 مجموعات قتال، واللواء يتكون من 300 مقاتل أو من ثلاث كتائب أو ثلاثين مجموعة عشرية، وهكذا تتطور ألوية الفرق المقاتلة بطريقة مرنة تكبر وتصغر حسب مقتضيات الميدان والمعارك وطبيعتها، ويقوم الجيش السري وعملياته وتنظيماته على شكل المجموعات المخابراتية والعسكرية والتخريبية والمعلوماتية السرية للقوات الخاصة أو «الكوماندوز» أو قوات الصاعقة والعاصفة والمظليين أو المدرعين المضادين، وهي تجمع خبرات الشرق والغرب العسكرية في مجال جيوش القوات الخاصة الثورية التي كانت قد بلغت الأوج في الجيوش الثورية الفيتنامية والصينية والكورية والروسية والإيرانية والكوبية والفنزويلية والمقاومة الإسلامية في حزب الله.
وكانت الحركات الثورية العالمية الواقفة ضد الاحتلال الأجنبي خلال القرنين الماضيين قد طورت هذا النمط من التنظيم القتالي ضد الجيوش النظامية الإمبريالية الغربية الأنجلوأمريكية الفرنسية والإسبانية والألمانية العدوانية وهزمتها عبر القارات الثلاث.
التراث الكفاحي ميراث مقدّس
في غزة تمتد الخبرة الثورية السرية القتالية لقرن كامل من الزمان منذ أسست الحركات (الشامية، والفلسطينية، والعربية) المناضلة ضد الاحتلال العثماني ثم ضد الاحتلال البريطاني والفرنسي والإسباني والإيطالي والبرتغالي في القرنين الماضيين، ومازالت مسيرتها مستمرة تطور خبراتها بما تتغنّى به من تجارب وممارسات كفاحية ضد الغزاة في العالم كله، والكثير من الخبرات تعود إلى القادة المناضلين المؤسسين العرب، مثل الشيخ عز الدين القسام، والشيخ صالح العلي، والشيخ سلطان باشا الأطرش، والزعيم إبراهيم هنانو، والقائد الشهيد يوسف العظمة، والقادة الشهداء أحمد ياسين والرنتيسي وعياش وجورج حبش ووديع حداد ومحسن إبراهيم وجورج حاوي ونايف حواتمة والشهيد عباس الموسوي والقائد حسن نصر الله والشيخ عمر المختار والشيخ عبد القادر الجزائري والشيخ عبدالكريم الخطابي... وغيرهم. وأهم مبادئ هذا التنظيم الثوري هو سريته وانضباطيته ومرونته وروحه العقيدية المعنوية العالية وثقافته الاستراتيجية السياسية الواسعة، وبهذه المعاني فإنه قادر على الاتساع والتقلّص بنفس السرعة حسب مقتضيات الميدان ومتطلباته، فهو قوة مقاتلة يمكن أن يحتشد بالآلاف في سويعات ويمكن أن يتحول بنفس السرعة ذاتها إلى جماعات صغيرة تضم أفراداً فقط دون أن يفقد السيطرة على قواته وجماعاته الصغيرة، الكبيرة منها، وهي قوة محترفة تمارس القتال والحرب، وفي الوقت نفسه تمارس الدعاية العقائدية والأيديولوجية والإعلام وجمع الأخبار والمعلومات عن العدو والتثقيف السياسي والعسكري للمواطنين والكوادر الشعبية، والقيام بحملات التجنيد والتحشيد الوطني والديني والسياسي والعسكري والتربية.
المصدر علي نعمان المقطري / لا ميديا